بين الصحافة والسياسة، اختار الكاتب والإعلامي السعودي البارز عبد الرحمن الراشد الانحياز للصحافة، في سرد لتجربته الإعلامية، ورؤيته لمستقبل الصحافة ودورها وتأثيرها في الرأي العام، خلال أمسية للإعلاميين والإعلاميات نظمتها الغرفة التجارية الصناعية في المنطقة الشرقية بالسعودية، مساء أول من أمس.
وفي تجربة عبد الرحمن الراشد الصحافية، ما يلهم كل الإعلاميين، فالرجل تدرج في سلك العمل الصحافي من القاع، حيث بدأ طالبًا في مرحلته الثانوية، وانتقل للدراسة والعمل في الولايات المتحدة، ثم في بريطانيا، حتى انتهى به المطاف رئيسًا لواحدة من أكبر القنوات الإخبارية في العالم العربي.
كما يُعتبر عبد الرحمن الراشد أحد أبرز كُتّاب الأعمدة في العالم العربي، ومقاله اليومي على صفحات «الشرق الأوسط» يحظى باهتمام واسع، ومنحته مجلة «أرابيان بيزنيس» لقب «الإعلامي العربي الأكثر تأثيرًا ونفوذًا» لعام 2006، لكنّ آراء الراشد الواضحة والصريحة، التي لا تعرف الالتباس والتلون، فتحت له الباب واسعًا أمام موجات متتالية من الخصومات والاختلافات، خصوصًا مع مناصري التيارات الدينية التي ناصبته العداء، وناصبها النقد.
لذلك في أمسية الإعلاميين حاول الراشد النأي بنفسه عن السجال السياسي، وأشار ملمحًا إلى حجم الخلاف الذي تحدثه مقالاته في الأوساط العامة، وقال: «هناك أناس لا يحبونني ولا أعجبهم، ولكنني سعيد بأنهم موجودون».
تحدث الراشد عن مسيرته الصحافية، وعن مستقبل وسائل الإعلام، وبدا واثقًا أن الإعلام مهما تنوعت أدواته ووسائله لديه القدرة على الصمود واكتشاف فرص جديدة، والقدرة على التأثير، فـ«الإعلام لديه نفوذ قوي في المجتمع، لذلك لا بد من تطوير أدواته».
تحدث الراشد عن بداياته في العمل الصحافي، قائلاً: «أوكلت لي صحيفة (الجزيرة) العمل الميداني محررًا في الشؤون المحلية، كان علي أن أقطع الطريق كل يوم نحو مصادر الخبر في الوزارات الحكومية، مثل وزارة الزراعة والمياه وغيرها، وكثيرًا ما واجهنا صعوبات في الحصول على تصريح، أو الوصول إلى مصدر المعلومات».
بعد ذلك مباشرة، حصل الراشد على فرصة للدراسة في الولايات المتحدة في عام 1980، وهناك أيضًا واصل عمله الصحافي مراسلاً، يقول: «هناك فارق شاسع بين التجربتين. في الرياض كان هناك شح كبير في المعلومات، وصعوبة في الوصول للمصدر. أما في الولايات المتحدة فكان هناك سيل هائل من البيانات الصحافية اليومية والأسبوعية، عبر الموجز الصحافي الذي تقدمه وزارة الخارجية والبيت الأبيض والبنتاغون، ومركز الصحافة الأجنبية. حتى إن وكالة (ناسا) الفضائية تستقبل الإعلاميين وتساعدهم في إعداد تقاريرهم وتوفر لهم الصور واللقطات وربما ساعدتهم في توفير وسائل الاتصال لإرسال تقاريرهم لوسائل الإعلام التي ينتمون إليها».
هذا الضخّ الإعلامي غير المسبوق، أثرى حياة عبد الرحمن الراشد، كما أثرى تجربته الصحافية، ومكّنه من التعرف على أهمية الإعلام وأهمية المعلومات التي يتم ضخها للناس، وحجم التأثير الذي تخلقه وسائل الإعلام التي تمتلك محتوى إعلاميًا ثريًا.
منتصف الثمانينات الميلادية، انتقل عبد الرحمن الراشد إلى بريطانيا، حيث عمل في الشركة السعودية للأبحاث والنشر، وكان نائبًا لرئيس تحرير مجلة «المجلة»، قبل أن يصبح رئيسًا لتحريرها، ثم في عام 1998، تم تعيينه رئيسًا لتحرير جريدة «الشرق الأوسط»، خلفًا لرفيق دربه عثمان العمير.
لكن ما الذي يفرق بين التجربتين: مجلة «المجلة»، وجريدة «الشرق الأوسط»؟ يقول الراشد: «مجلة (المجلة) كانت تمثل تحديًا كبيرًا، فهذه المطبوعة التي تُباع في الأسواق بعشر ريالات، تقدم مادة أسبوعية يجري إعدادها أحيانًا خلال أكثر من أسبوع، وبالتالي فإن أي قارئ ينزل للسوق لشراء هذه المجلة بهذا السعر، هو مغامر ما لم يحصل على محتوى يستحق هذا العناء. أما (الشرق الأوسط)، فكانت تقدم أخبارًا يومية، وتتعامل مع الأحداث التي تدور في العالم بشكل يومي، لكنها جريدة دولية، وذات رؤية واسعة، وهذا الآخر شكل لها تحديًا آخر».
في هذا السياق، قال الراشد: «حين تتولى إدارة صحيفة أو مؤسسة إعلامية، فأنت تتعامل مع منظومة متكاملة من المسؤوليات، من المعروف أن رئيس التحرير مسؤول عن المحتوى وإدارة الكوادر والوصول للجمهور، والمساهمة في إيرادات الصحيفة وفتح أسواق لها، وغير ذلك».
لكنه يرى أن «الشرق الأوسط» اليوم أكثر انتشارًا، وقراؤها أكثر مما كانوا عليه في السابق، بفضل وسائل التواصل التي توفرها الصحيفة للوصول للجمهور. الراشد قال: «اليوم، أهم ما في جريدة (الشرق الأوسط) هو موقعها الإلكتروني».
ماذا تركت له «الشرق الأوسط»؟ يجيب الراشد أن «الشرق الأوسط» أكثر من كونها صحيفة يومية، كانت وسيلة للتعرف أكثر على طبيعة العمل السياسي.
لم يتطرق الراشد لتجربته في العمل الخاص، وبينها مؤسسة الإنتاج التي بناها في لندن «أو آر تي في» وأسسها مع عثمان العمير، وهي تقوم بإنتاج أفلام وثائقية وتاريخية وسياسية.
كانت محطة الراشد الأخيرة العمل في قناة «العربية»، حيث تولى في عام 2004 إدارة هذه القناة الإخبارية من مركزها الرئيسي في دبي بالإمارات.
يقول الراشد: «إذا كانت الصحف تتعامل مع آلاف القراء حول العالم، وإذا كانت تتعاطى مع جمهور محدد ومعروف من حيث التعليم والثقافة والقدرة الشرائية، فإن القناة الفضائية شيء مختلف، فهي تتعامل مع ملايين المشاهدين، وهؤلاء يمثلون شرائح أكثر اتساعًا مما تمثله الصحافة، فكل من لديه القدرة على امتلاك جهاز تلفزيون ولديه صحن لاقط هو جمهور مستهدف لهذه القنوات، كما أنها تتعامل بشكل فوري ومباشر مع الأحداث. وهذا يستدعي أن تحافظ على جمهورها من خلال تطوير المادة التي تقدمها للناس».
الراشد أشار إلى أن «(العربية) ليست مجرد قناة إخبارية واسعة الانتشار، لكنها أيضًا مجموعة واسعة من وسائل التواصل الرقمي التي تقدم محتوى إخباريًا سريع الانتشار، هو الأكبر في العالم العربي».
تحدث كذلك عن تجربة «العربية» في نشراتها الاقتصادية، التي جاءت لتواكب حركة التوسع في سوق الأسهم السعودية، وكان لها تأثير بارز في هذا المجال، كما أفادت القناة من خدماتها الاقتصادية بالتعرف على فرص واسعة.
هنا يتوقف الراشد عند أهمية الصحافي المتخصص في وسائل الإعلام، والصحافي الاقتصادي بشكل خاص، ويرى أن مسؤولية توفير الصحافي المتخصص ليست مقتصرة على وسائل الإعلام وحدها، ولكنها مسؤولية كليات الإعلام والمؤسسات الاقتصادية وحتى الإعلاميين أنفسهم، فالوسيلة يهمها المخرجات النهائية، أما الوصول إليها فهي مسؤولية مشتركة.
في نهاية عام 2014، استقال عبد الرحمن الراشد من إدارة قناة «العربية»، وسط تكهنات ما زالت مفتوحة بشأن الخطوة التالية التي سيقدم عليها.
ومن تجربته، لا يشارك الراشد المشغولين بالقلق على مستقبل الصحافة الورقية، ويرى أن الصحافة أمامها كثير من الفرص، خصوصًا في بلداننا التي تشهد نموًا، وأن «إغلاق أي صحيفة ورقية بسبب الإعلام الجديد قرار خاطئ»، وما هو أهم من هذا الجدل هو دعم المحتوى، «المؤسسات الصحافية مطالبة بدعم المحتوى»، فالجمهور في النهاية يهمه جودة المحتوى مهما تنوعت وسيلة تقديمه. وأضاف: «المحتوى هو ما يقرر مصير الصحيفة وليس الهجمة الرقمية».
هل تتلقى الصحافة دعمًا حكوميًا؟ أجاب الراشد: «كلا! الدعم الحكومي في السابق كان يتمثل في نشر إعلانات حكومية أو تقديم اشتراكات، وهذه لا تساوي كثيرًا. اليوم لا توجد إعانات حكومية للصحف، ولكن الدعم الحكومي الوحيد يتمثل في منح الصحف (رخصة) للعمل والنشر والطباعة في المدن الرئيسية».
وفي مورد آخر، وردًا على سؤال بشأن هيمنة دعاة التشدد على وسائل الإعلام السعودية، كان الراشد واضحًا، قال: «أختلف معك، لا توجد سيطرة بهذا المعنى، في السابق كان أمام أي مطرب أو فنان وسيلة واحدة هي الإذاعة والتلفزيون لكي يظهر موهبته للجمهور، وكان عليه أن يتعرض لامتحان من لجنة ثلاثية تقرر مصيره، أما الآن فلديه كل الخيارات المطلقة، ونتيجة لذلك أصبح في العالم العربي نحو ستة آلاف مطرب وفنان، لا يمكن تقييدهم».
يرى الراشد أن اتساع الفضاء الإعلامي وشيوع وسائل التواصل، جعلا الإعلام مفتوحًا ومتاحًا للجميع، ولا يمكن أن تقيده أو تمتلكه جهة مهما كانت متنفذة.
أضاف الراشد: «الصحافة اليوم منبر مفتوح، أما سابقًا، فكانت مفاتيح التحكم في النشر لدى فئة معينة، وهي لم تعد موجودة الآن لوجود منابر مختلفة».
عبد الرحمن الراشد: لا تقلقوا على الصحافة الورقية
أكد أن «الشرق الأوسط» اليوم أكثر انتشارًا وموقعها الإلكتروني من أكبر إنجازاتها
عبد الرحمن الراشد: لا تقلقوا على الصحافة الورقية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة