الوعي قضية معقدة جدًا.. كل مقاربة لها تطرح مشكلات جديدة

حين لا يتفق الفلاسفة على جواب واحد محدد.. ويقف العلم حائرًا

الوعي قضية معقدة جدًا.. كل مقاربة لها تطرح مشكلات جديدة
TT

الوعي قضية معقدة جدًا.. كل مقاربة لها تطرح مشكلات جديدة

الوعي قضية معقدة جدًا.. كل مقاربة لها تطرح مشكلات جديدة

عندما تحاول أن تتعرف على ما يحيط بك، تجد نفسك محشورا في عالم تتعدد أشياؤه وتتنوع، إلى حد تغرق وسطه، فلا تخرج منه وتعود إلى نفسك إلا بصعوبة بالغة، لتكتشف أن ما يحيط بك مألوف وعادي، إلى حد لا تطرح معه السؤال عنه. فالشمس والقمر والنجوم، نعتقد أننا نمتلكها. وكذلك مآثر مدينتنا، وأبواق سياراتها، وسكانها، هي جزء منا. وحينما تعود إلى دواخل ذاتك، تجد أمامك عالما غنيا متعددا، أشبه ما يكون بمسلسل طويل جدا من الأحداث والتجارب والأحاسيس المتتالية، التي تتعرف عليها بدقة أكبر من أي فيلم تلفزيوني تشاهده أمام عينيك، حيث يتعدى الأحداث، ليضم كذلك، الأصوات والروائح، وتتزاحم المعطيات وتتوالى إلى حد نجد أنفسنا غير قادرين على استيعابها جميعا. آنذاك أنت تعرف بأنك أحمد أو علي. وتعرف أنك كنت حزينا البارحة أو سعيدا. وأنك حصلت السنة الماضية على ترقية. وفي طفولتك كنت فتى مشاكسا، غنيا أو فقيرا. إنها ببساطة، كل المعطيات التي تجعلك تتأكد أنك أنت، وأنك قادر على إدراك ذاتك وكل ما يحيط بك. هذا الوعي هو الذي يجعلنا موجودين، ويجعل هذه الحياة جديرة بأن تعاش. إلا أن عليك أن تعرف أيضا، أنك تطل على واحد من أهم القضايا الفلسفية والعلمية وأكثرها تعقيدا. إنه المجال الذي تتوالى حوله المقاربات من كل المجالات. المجال الذي لا يتفق الفلاسفة فيه على جواب واحد محدد. والمجال الذي يقف العلم أمامه حائرا تائها متخبطا بنرجسية مجروحة. وهو الذي طالما ادعى قدرته على بسط سلطانه على كل شيء.
بدءا بالفلسفة، فإن أقوى محاولة مؤثرة في تحديد الوعي، هي تلك التي قدمها الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت. فقد عد ديكارت، أن ماهية الوعي هي العقل، كما أسماها«الفكر»، thinking. نحن واعون ما دمنا نفكر. وعندما نفقد الفكر، فإننا نفقد الوعي كذلك. فمثلا، الآن عقلي يركز انتباهه على كتابة هذا المقال. ولكن على الرغم من التغيرات التي تحدث لي عندما أتوقف عن الكتابة، كالشروع في العشاء مثلا، فإنني سأستمر في حالة وعي ما أو أخرى. والفكر جوهر غير مادي، غير قابل للانقسام إلى أجزاء أصغر فأصغر. كل عقل هو نفس خالدة تسكن الجسد، وترتبط به بطريقة معينة. إلا أن هذا التحديد للوعي، لم يقنع فيلسوف العقل، جلبرت رايل، الذي عاش في القرن العشرين، ووصفه متهكما، بمبدأ«الشبح في الآلة». فالعقل يصبح مع ديكارت، بمثابة شبح يسكن في آلة جسدنا. بالإضافة إلى أنه من الصعب أن نربط، لدى ديكارت، بين عنصرين من طبيعتين متعارضتين، الجسد المادي والفكر اللامادي. فأنا أعرف أنه إذا داس أحد ما على قدمي فسوف أشعر بألم. والشعور بالألم حادثة عقلية تسبب فيها ما هو مادي. وعندما أقرر أن أرفع يدي ملقيا التحية، يحدث القرار في نفسي الواعية. لكن ذراعي ترفع نحو الأعلى. سيقول ديكارت، إن العقل والجسد يلتقيان في الغدة الصنوبرية. إلا أن هذا الحل المضحك، لا يزيد طرح ديكارت إلا تعقيدا، خاصة وأنه قدم ثنائية تنتفي داخلها كل إمكانية للالتقاء.
المحاولة الثانية المهمة في تحديد الوعي، سوف تأتي من الفيلسوف الفرنسي الآخر، هنري برغسون، الذي عد الوعي «استمرارية دفاقة». وهو معطى مباشر غير محتاج إلى وساطة أو برهان للتعبير عن نفسه. وهو معاينة الفكر لذاته، وحدس مباشر ذاتي داخلي لا يمكن وصفه إلا بالتشبيهات والاستعارات. كأن نصف حالة من حالاتنا الداخلية بالقوة أو الضعف؛ لأن طبيعة الوعي الحدسية والمباشرة وغير المادية، مستعصية على الوصف اللغوي والتعبير الكلامي. ويعطي برغسون مثالا على الحالات الانفعالية، فيقول:إنه في لحظة الانفعال، أي عندما أكون في حالة رعب، لا أستطيع أن أدرس بدقة أو بموضوعية هذا الرعب الذي أعيشه، وكذلك في حالات الغضب. وإذا أردت دراسة هذه الانفعالات بعد فترة من الزمن، فإنها ولا شك ستكون دراسة غير موضوعية منحازة إلى الذات والعواطف. فحياتنا الداخلية تظهر على شكل وعي متدفق، تتعاقب فيه الأفكار والذكريات والمشاعر من كل صوب وحدب وتترابط، فيشكّل لوحة متوحّدة، تنصهر فيها كل القوى والملكات تماما، مثلما تنصهر الألوان وتتوحد لحظة مغيب الشمس، بشكل تستحيل معه كل مقاربة فيزيائية أو علمية للمعاينة الموضوعية، والقياس الكمي، كما هو مطبق على الموضوعات الفيزيائية الخارجية.
هذه الاستحالة، التي يعبر عنها برغسون، تبقى في نظر رجال العلم غير مبررة. فالوعي في نظرهم ليس شأنا فلسفيا ويجب أن يخرج من دائرة الدراسة الفلسفية. بمعنى أن الوعي شأن علمي، ولا يجب أن يكون إلا علميا. بل إنه من السخرية، في نظرهم، مقاربة قضية الوعي بطريقة أخرى كالتي يقدمها لنا روني ديكارت أو هنري برغسون. فكل نواحي العقل، بما في ذلك الوعي الذي هو أكثر نواحي العقل إثارة للحيرة، يمكن تفسيرها بطريقة أكثر مادية، على أساس عدها سلوك مجاميع كبيرة من الخلايا العصبية المتفاعل بعضها مع بعض داخل الدماغ. كيف ذلك؟ أغمض عينيك للحظة فقط ثم افتحهما. لفترة قصيرة جدا لا تكاد تشعر بها، استقبلت ملايين الخلايا في دماغك، إشارات مولدة من قبل الضوء الساقط على الشبكية، وإعادة تشكيل الحقل البصري. بعد ذلك أغلق عينيك وفكر في لحظة عاطفية جدا في حياتك، أي في وقت ما كنت فيه سعيدا جدا، أو حزينا جدا، أو متحفزا. ربما لم تكن قد فكرت بهذا الحدث مند سنوات، لكن خلايا دماغك اختزنت الصورة، وكانت قادرة على إعادة بثها من جديد عند الطلب، وهو أمر مغر جدا، أن يتم الربط بين الوعي والدماغ، والعقل والدماغ. ففي غرب ولاية فيرمونت بالولايات المتحدة الأميركية، وفي يوم عمل بالسكة الحديد، سيتعرض أحد العمال لإصابة، حيث سينغرس قضيب متطاير في الناحية اليسرى من وجهه، وعبر دماغه. وبعد فترة إغماء قصيرة، وبعد معاينة الطبيب، عاد إلى العمل. وقد لاحظ أصدقاء العامل تغيرا غريبا في سلوكه. فبعدما كان رجلا متزنا، أصبح سريع الغضب؛ يعاقر الخمر، ويكثر السباب. وقد أبانت الخبرة بعد ذلك، أن إصابته كانت في مقدمة الفص الأمامي، وهي الجهة التي تؤدي الإصابة فيها إلى تصرفات غير مسؤولة، وإلى عدم القدرة على فهم الحاجة للتخطيط على المدى الطويل. لكن رغم جاذبية هذه المقاربة، فما تزال هي الأخرى تتخبط في مشكلات جمة. فعلماء الأعصاب لا يعرفون، حتى الآن، ما يكفي بخصوص كيف يعمل الدماغ، بالقدر الذي يمكِّنهم بشكل دقيق، من معرفة كيف ينبثق الوعي من النشاط الكهربائي والكيميائي للعصبونات. وبذلك، فإن الخطوة الكبيرة الأولى، تكمن في تحديد أفضل المترابطات العصبونيَّة للوعي، بمعنى الفعالية الدماغية التي تتوافق مع الخبرات الواعية النوعية. فعندما تدرك أنك ترى كلبا، فما عصبونات دماغك التي تتأثر بذلك؟ وحينما تشعر بحزن ينتابك فجأة، فماذا يحدث في دماغك؟ بمعنى أنه من الضروري إيجاد الخريطة الدماغية النهائية للنشاط العصبي المحدد لكل العمليات الواعية التي يقوم بها الإنسان. آنذاك يمكن الحديث عن مقاربة علمية متقدمة في موضوع الوعي. لكن ولنفترض بأن هذا الأمر حدث. يؤكد الفيلسوف الأميركي، جون رودجر سيرل، في كتابه«العقل مدخل موجز»، أنه حتى لو حددنا الخريطة الدماغية والتركيبية الكيميائية النهائية لطريقة اشتغال الوعي، فسوف يبقى من الصعب علينا تحديد هذه العمليات بشكل نهائي. فلنراقب ما يحدث مثلا أثناء احتساء القهوة. حسنا، سنحدد الخلايا المسؤولة عن كل عمليات الوعي المصاحبة لهذه العملية وبشكل دقيق. لكن هل نحن سنعيش الأحاسيس نفسها، والتجربة نفسها مع احتساء فنجان قهوة، هل نستمع لأغاني فيروز بالطريقة عينها؟ ما يعني أن هناك تجارب باطنية يظل من الصعب تحديدها أو وصفها، ونختلف فيها نحن جميعا. وهو ما يبرزه كذلك، البروفسور والفيلسوف الأميركي توماس نيغل، بسؤاله المستفز: ما معنى أن تكون وطواطا من منظور الوطواط؟ فيمكن للمرء أن يمتلك، معرفة كاملة عن النيروبيولوجي للوطواط، ومع ذلك، لا بد أن يبقى شيء ناقص من معرفة هذا الكائن: ما نوع الشعور الذي يميز الوطواط بصفته وطواطا؟ وهذا السؤال يسلط الضوء على جوهر الوعي. وأي تفسير موضوعي للوعي يهمل هذه الناحية، لا يستطيع أن يفسر الخاصية الذاتية للوعي. وهي المعلومات الصعبة في الوعي، بتعبير الفيلسوف الأسترالي ديفيد تشالمرز.
هكذا يظل الوعي قضية معقدة جدا. كل مقاربة لها، تطرح مشكلات جديدة، أكثر بكثير من الحلول التي تقدمها؛ مما يجعلنا دائما، متعلقين بالمستقبل، راغبين في الفهم، ومتوجسين من هذا الفهم، خاصة وأن هذا الفهم يتعلق بجوهر الإنسان، وأساس تفرده، حيث نخشى أن نصبح واضحين جدا، بشكل يتنافى معه كل سحر وتميز في الإنسان. فنجد أنفسنا، تبعا لذلك، أمام خيارين، أحلاهما مر:
أولهما، أن نؤمن بالأفكار البالية، ونحن في دفء الوهم الذي يؤكد أن الإنسان روح ونفس تستعصي على المقاربات العلمية الدقيقة.
وثانيهما، أن نوقن أن العلم، سيكشف في المستقبل عن سر الوعي وكنهه، مهما أحرجنا ذلك، مادام أن العلم لا ينتظر أحدا، ولا يأخذ رغباتنا أو أهواءنا بعين الاعتبار.

* أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.