التجربة الإسبانية في تدريس الفلسفة ضمن برامج التعليم

المفاهيم الأساسية الأخلاقية لها عنصر في التكوين المدني

التجربة الإسبانية في تدريس الفلسفة ضمن برامج التعليم
TT

التجربة الإسبانية في تدريس الفلسفة ضمن برامج التعليم

التجربة الإسبانية في تدريس الفلسفة ضمن برامج التعليم

من الصعوبة أن نلخص البنية الحالية لتدريس الفلسفة في إسبانيا، لكن سنحاول، في المقام الأول، تحليل المعايير القانونية المعمول بها، حاليا، وفق المرسوم الملكي الصادر في الجريدة الرسمية، بتاريخ 16 يناير (كانون الثاني) 2001، الذي ينظم تدريس هذه المادة في إسبانيا، ثم سنخط من جديد، السيرورة التي أدت، في السنوات الأخيرة، إلى وضع برنامج واقعي للمواد الفلسفة. وسنناقش تأثير السياسة التعليمية على الفلسفة، التي وضعتها الحكومات المختلفة (حكومة الاشتراكيين وحكومة المحافظين) التي تعاقبت على إسبانيا منذ 1982.
من الضروري لفهم مفصل تدريس الفلسفة في إسبانيا، عرض، ولو بشكل موجز، المستويات المدرسية التي تدرس فيها، وبرنامج تدريسها في كل مستوى على حدة؛ حيث ينقسم النظام التعليمي الإسباني اليوم، كما هي حال مختلف الأنظمة التعليمية في العالم، إلى ثلاثة مستويات كبرى: التعليم الابتدائي، والتعليم الثانوي، والتعليم العالي. وتدرس الفلسفة في التعليم الثانوي، الذي ينقسم بدوره إلى قسمين: التعليم الثانوي الإجباري (4 سنوات من 12 سنة إلى 16 سنة)، والتعليم ما بعد الإجباري، الذي يمتد سنتين «البكالوريا Bachillerato» من 16 إلى 18 سنة، أو أسلاك التكوين المهني بمستوييه الثاني والثالث.
يشمل تدريس الفلسفة ثلاث مواد: الأخلاق، والفلسفة1، والفلسفة 2، كلها مواد إجبارية، وتتوزع كالتالي: ساعتان في الأسبوع، خاصة مواد الأخلاق، في السنة الرابعة من التعليم الثانوي الإجباري، موجهة للتلاميذ في سن 16 سنة. الفلسفة 1 (مدخل إلى الفلسفة)، الموجهة إلى كل تلامذة السنة الأولى بكالوريا، بمعدل 3 ساعات في الأسبوع. والفلسفة 2 (تاريخ الفلسفة والعلوم)، موجهة لتلامذة السنة الثانية بكالوريا، بمعدل 3 ساعات في الأسبوع.
تكمن الفكرة الموجهة لمختلف برامج تدريس الفلسفة، في أن سلك تدريس هذه المادة الدراسية، يبدأ بدراسة المفاهيم الأساس للفلسفة الأخلاقية، عنصرا أساسيا في التكوين المدني لكل التلاميذ. بالإضافة إلى ارتباطها بقضايا الحياة التي تخص سن المراهقة، كتمهيد للمشكلات التي سيقاربها المتعلم في دروس الفلسفة1.
يبدو الترابط بين برامج الفلسفة1 والفلسفة 2، هشا، على حد تعبير لويس ماريا سيفونتس، رئيس الجمعية الإسبانية للفلسفة، ففي سنة تدريس برنامج الفلسفة1، يتمثل الرهان في دراسة الموضوعات أو المشكلات الفلسفية، ليتعلم التلميذ الأشكلة الفلسفية والبحث عن الحلول العقلانية (يتعلق الأمر بتعلم التفلسف). في حين أن برنامج الفلسفة 2، هو برنامج تاريخي يعتمد المقاربة الكرونولوجية المراحلية للتيارات الفلسفية الأكثر أهمية في تاريخ الفلسفة، (يتعلق الأمر بتاريخ الفلسفة أو بتعليم الفلسفة). وعلى الرغم من ذلك، فتلك البرامج لا تتعارض فيما بينها؛ لأن الهدف الأساسي من ورائها (وهو هدف كل المدرسين)، هو أن يتعلم التلاميذ التفلسف، مستندين في ذلك إلى المعرفة الفلسفية، وإلى إرث الفلاسفة النظري والعملي، الذي يساعد المتعلمين في صقل تفكيرهم الخاص، وتنمية قدراتهم المعرفية والذاتية، من خلال بناء خطاب فلسفي حجاجي معقلن. وبهذا المعنى، أمكننا القول إن الأدوات الديداكتيكية (الوسائل المنهاجية لتوصيل المعرفة)، التي طورتها المجموعات المختلفة للفلسفة في جل مناطق إسبانيا، خلال السنوات الأخيرة، ينظر إليها كسلك موحد؛ حيث تعالج المشكلات الفلسفية وفق منظورين: منظور سانكروني (دراسي وصفي/ لغوي) في السنة الأولى، ومنظور دياكروني (تاريخي/ اجتماعي) في السنة الثانية بكالوريا. ووفق وجهة النظر هذه، فإن المشكلات والعناصر الفلسفية المدرسة في برنامج الفلسفة1، يمكن أن تكون موضوع إعادة قراءة وبناء على ضوء تاريخ الفلسفة في برنامج الفلسفة 2. وهذا ما يشترط في المدرس، أن يعي عدم تجزيئية برامج الفلسفة في المستويين، واستحالة تغطية كل المفاهيم والموضوعات المقترحة في البرنامجين (يطغى على هذا البرنامج المفاهيم، الأزواج: (الطبيعة - الثقافة)، (العقل - العاطفة)، (الجسد - الروح)،( التجربة - السبب)، (الأداة - التقنية)، (النظام - التغيير الاجتماعي)، (الحق - العدالة)، (النشاط المنتج - الشغل)، (الفرد - المجتمع)، (اليوتوبيا الاجتماعية)، وغير ذلك.
يتمحور برنامج تدريس الفلسفة في إسبانيا، حول ثلاثة عناصر رئيسية: المحتويات، والمعارف، والمضامين المنهجية. وهو بذلك ليس معزولا؛ كدرس في المفاهيم، عن سيرورة التعليم في كليته، وهذا ما يفرض على المدرس، إدراك الانسجام الداخلي بين مكونات برنامجي الفلسفة1 و2؛ لأن المرسوم الملكي الصادر في الجريدة الرسمية، بتاريخ 16 يناير (كانون الثاني) 2001، الذي ينظم تدريس هذه المادة على كامل مناطق إسبانيا (وتجدر الإشارة إلى أن لمناطق الحكم الذاتي معاييرها الخاصة، وأحيانا برامجها، وتدير مشكلات التعليم بحسب سياساتها العمومية)، وفق حد أدنى مشترك وطنيا، ينص على أن مادة الأخلاق (السنة الرابعة من التعليم الثانوي الإلزامي)، تتكون من أربعة أقسام: المشكلات الأخلاقية في عصرنا الراهن، والديمقراطية إطارا للمشاريع الأخلاقية المعاصرة، وعقلنة بنية الحياة الأخلاقية، والنظريات الأخلاقية. ويشمل كل قسم من هذه الأقسام، ثلاث وحدات ديداكتيكية (منهاج توصيل المعرفة) (12 وحدة على طول السنة)، إلى جانب وحدة بالتقويم وعناصره ومعاييره.
أما فيما يخص برنامج الفلسفة 1، فنجد أيضا أربعة أقسام، كما هو الشأن بالنسبة إلى برنامج الأخلاق: المدخل، الأهداف، المضامين المعرفية، ومعايير التقويم. تتوزع محتوياته إلى محاور إشكالية: المعرفة الفلسفية (وحدة ديداكتيكية واحدة)، والكائن البشري (3 وحدات)، والنشاط الإنساني (3 وحدات)، والمجتمع (3 وحدات). أي في المجموع 16 موديلا يتوجب أن يتم تغطيتها في السنة، بمعدل 3 ساعات في الأسبوع. وبديهي جدا، أنه يصعب إنجاز هذا البرنامج الكثيف بهذا القدر المحدود من الساعات، وهذا ما يتداركه جهاز التفتيش؛ حيث يترك المجال للأساتذة لدمج بعض العناصر وتكييفها مع مستوى التلاميذ.
أما برنامج الفلسفة 2 «تاريخ الفلسفة والعلوم»، فهو موجه لتلامذة السنة الختامية في البكالوريا، ويتكون بدوره من بنية البرامج السابقة نفسها، (ويتضمن: المدخل، والأهداف، والمضامين المعرفية، ومعايير التقويم)، ويخترق كل مراحل تاريخ الفلسفة: اليونانية، والوسطوية، والنهضة، والحديثة المعاصرة. أي ما مجموعه 18 موديلا، يشار في كل واحد منهما إلى فيلسوف مهم في تاريخ الفلسفة. وتظل المناقشة حول اختيار الفلاسفة، قائمة بين جهاز التفتيش وواضعي الكتب المدرسية حسب احتياجات التلاميذ، وتختلف من منطقة إلى أخرى، وذلك لاحترام خصوصيات مناطق الحكم الذاتي. لكن على العموم، وكيفما كان برنامج تاريخ الفلسفة، نجد حضورا قويا لأفلاطون، وأرسطو، وديكارت، وكانط.
تعترض برامج تدريس الفلسفة، جملة مشكلات موضوعية وذاتية، كما هي حال مختلف بلدان العالم: فمن حيث البرامج، يشدد المهتمون - كما عبر عن ذلك رئيس الجمعية الإسبانية للفلسفة – على:
- ثقل البرنامج واستحالة إنجازه كاملا في الموسم الدراسي.
- غياب تجديد وسائل وطرق التدريس الخاصة بهذه المادة، على الرغم من التكوين الذي يتلقاه المدرسون في علوم التربية وفي نظريات التعلم المعاصرة.
- ضعف الاهتمام بالفلسفة العملية والتطبيقية، بحيث تبقى هذه الدروس حبيسة التكوين النظري، وتلقين التيارات الفلسفية والمذاهب والتوجهات العلمية، على حساب آليات التفلسف الفعلية.
- عدم وضوح معايير التقويم وما تطرحه من مشكلات بالنسبة إلى المتعلم، وانعكاس ذلك على تدريس المادة.
- شحة الموارد النظرية والمراجع الفلسفية بالنسبة إلى المدرسين، نتيجة عدم مسايرة الترجمة الإسبانية للإرث الفلسفي العالمي.
- غياب الربط بين برامج المادة والاهتمامات الوطنية الخاصة، بحيث تغيب الثقافة الإسبانية في البرنامج. ويرجع ذلك إلى عدم إدماج الكثير من المفكرين الإسبانيين في المقررات المدرسية.
من الملاحظ أن المشكلات التي يتداولها مدرسو المادة في إسبانيا، لا تختلف عن المشكلات المطروحة في مختلف البلدان الأوروبية، على الرغم من الجهود التي يبذلها المجتمع الفلسفي الإسباني اليوم، للرقي بمكانة الدرس الفلسفي في الحياة الإسبانية المعاصرة.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.