كيف بنى «داعش» آلته الإرهابية تحت أعين أجهزة الأمن الأوروبية؟

عبد الحميد أباعود «الأب الروحي» للانتحاريين في هجمات باريس وبروكسل

عبد الحميد أباعود («الشرق الأوسط») - هجمات باريس امتدت إلى بلجيكا وأثارت الرعب في باقي أنحاء القارة الأوروبية
عبد الحميد أباعود («الشرق الأوسط») - هجمات باريس امتدت إلى بلجيكا وأثارت الرعب في باقي أنحاء القارة الأوروبية
TT

كيف بنى «داعش» آلته الإرهابية تحت أعين أجهزة الأمن الأوروبية؟

عبد الحميد أباعود («الشرق الأوسط») - هجمات باريس امتدت إلى بلجيكا وأثارت الرعب في باقي أنحاء القارة الأوروبية
عبد الحميد أباعود («الشرق الأوسط») - هجمات باريس امتدت إلى بلجيكا وأثارت الرعب في باقي أنحاء القارة الأوروبية

في اليوم الذي غادر سوريا لتنفيذ تعليمات صدرت إليه بشن هجوم إرهابي داخل فرنسا، كان رضا كريكيت، 29 عامًا، فني كومبيوتر من باريس، قد انضم لتنظيم داعش قبل أسبوع واحد فقط.
وقد جعله جواز سفره الفرنسي ومعرفته بتكنولوجيا المعلومات مجندًا مثاليًا لمجموعة أخذت في التوسع السريع داخل «داعش» وكانت مخصصة لإرهاب أوروبا. وفي غضون أيام قليلة، جرى تدريبه على استخدام الرشاش وقذف قنبلة يدوية على هياكل تشبه البشر، بجانب كيفية استخدام برنامج تشفير يدعى «تروكريبت»، في خطوة أولى من عملية هدفت لإخفاء الاتصالات التي أجراها مع من تولى توجيه داخل سوريا من أعضاء «داعش».
حمل هذا الشخص الموجه اسمًا مشفرًا «الأب الروحي»، وقد قاده حتى الحدود التركية، وتركه هناك بعد أن نصحه باختيار هدف سهل والحرص على إطلاق النار على أكبر عدد ممكن من المدنيين حتى تسقطه قوات الأمن. وقد جرى توجيه كريكيت من جانب عضو في «داعش» أبدى رغبة محمومة بتوجيه ضربات إرهابية لأوروبا قبل وقوع هجمات باريس نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وبروكسل هذا الشهر بعامين على الأقل. في تلك الأثناء، بعث التنظيم بمجموعة من العملاء الذين تدربوا داخل سوريا بهدف تنفيذ هجمات صغيرة ترمي لاختبار الأجهزة الأمنية الأوروبية وممارسة ضغوط عليها، في الوقت الذي كان يخطط التنظيم لهجمات أكثر فتكًا، وذلك حسبما ورد في وثائق التحقيقات وسجلات تنصت أوروبية، حصلت «نيويورك تايمز» على نسخة منها.
الآن، يرى مسؤولون أن المؤشرات على وجود مثل هذه الآلة الإرهابية داخل أوروبا كان يمكن رصدها منذ فترة تعود إلى مطلع عام 2014. ومع ذلك، تجاهلت السلطات المحلية مرارًا المخططات المتتالية، واصفة إياها بالفردية أو العشوائية، مع تجاهل أو التقليل من أهمية صلة «داعش» بها.
في هذا السياق، أعرب مايكل تي فلين، الفريق المتقاعد بالجيش الذي تولى إدارة وكالة استخبارات الدفاع بين عامي 2012 و2014، عن اعتقاده بأن «هذا الأمر لم يظهر فجأة خلال الشهور الست الماضية، وإنما عكف هؤلاء على التفكير في شن هجمات بالخارج منذ انتقال التنظيم إلى سوريا عام 2012».
بالنسبة لكركيت، فقد ألقي القبض عليه في باريس أغسطس (آب) الماضي، قبل أن يتمكن من شن الهجوم الذي خطط له، وكان واحدًا من بين 21 عميلاً مدربًا على العمليات الإرهابية، على الأقل نجحوا في التسلل عائدين إلى أوروبا. وتسلط سجلات التحقيقات معهم الضوء على جذور وتطور فرع يتبع «داعش» يتحمل مسؤولية قتل المئات داخل باريس وبروكسل وما وراءهما.
الآن، يعرف المسؤولون الأوروبيون أن «الأب الروحي»، الذي تولى توجيه كركيت، لم يكن سوى عبد الحميد أباعود، العميل البلجيكي الذي تولى اختيار وتدريب المقاتلين لتنفيذ مخططات داخل أوروبا، والذي عاد بنفسه للإشراف على تنفيذ هجمات باريس، التي تعد الضربة الإرهابية الأشد فتكًا على أراضي أوروبا منذ ما يزيد على العقد.
أيضًا، يقف الأفراد المنتمون لفرع العمليات الخارجية تحت قيادة أباعود وراء هجمات بروكسل، وكذلك هجوم أحبط داخل إحدى ضواحي باريس، الأسبوع الماضي. ويسعى التنظيم بدأب حاليًا لتنفيذ المزيد من الهجمات، حسبما أفاد به مسؤولون بلجيكيون وفرنسيون.
وبعد إلقاء القبض عليه، حذر كريكيت المتحدثين إليه من مسؤولي الاستخبارات الفرنسية من أن «ثمة مصنعًا قائمًا هناك، فهم يفعلون كل ما بوسعهم لتوجيه ضربات لفرنسا أو دول أخرى في أوروبا».
جدير بالذكر أنه على امتداد فترة طويلة من عامي 2012 و2013، عكف التنظيم المتطرف الذي عرف باسم «داعش» على غرس جذوره داخل سوريا، وحتى في الوقت الذي شرع فيه التنظيم بدأب في تجنيد أجانب، خصوصًا أوروبيين، استمر صانعو السياسات في الولايات المتحدة وأوروبا في النظر إلى «داعش» باعتباره مجرد فرع غير ذي أهمية كبيرة لتنظيم القاعدة ينصب اهتمامه بسط سيطرته على مساحات من الأرض.
جاءت واحدة من المؤشرات الأولى التي كشفت دخول «داعش» مجال الإرهاب الدولي في الساعة 12:10 في 3 يناير (كانون الثاني) 2014، عندما أوقفت الشرطة اليونانية سيارة أجرة داخل مدينة أوريستيادا، على بعد أقل من أربعة أميال عن الحدود التركية. داخل السيارة كان يوجد مواطن فرنسي (23 عامًا) يدعى إبراهيم بودينا، كان عائدًا لفرنسا قادمًا من سوريا. داخل أمتعته، عثر الضباط على 1500 يورو، أو ما يقارب 1700 دولار، ووثيقة بالفرنسية تحمل عنوان «كيف تصنع قنبلة حرفية باسم الله». إلا أنه لم يكن هناك أمر بالقبض عليه داخل أوروبا، لذا أطلق سراحه اليونانيون، تبعًا لما كشفته سجلات محكمة تتناول تفاصيل تحقيق فرنسي أجري حول الأمر.
كان بودينا بالفعل على قائمة المراقبة الفرنسية، باعتباره جزءًا من خلية مؤلفة من 22 شخصًا تحولوا إلى الفكر المتشدد داخل أحد المساجد بمدينة كان الساحلية. وعندما أخطر الفرنسيون بتوقيف الشرطة اليونانية لبودينا لفترة وجيزة، كانوا بالفعل يتنصتون على أصدقائه وأقاربه. بعد عدة أسابيع، تلقت والدة بودينا اتصالاً هاتفيًا من رقم داخل سوريا، وأخبرها المتصل المجهول بأن نجلها «أُرسل في مهمة»، حسبما كشف تسجيل للمكالمة.
وبالفعل، طوقت الشرطة منزل الأسرة الواقع قرب كان، وألقت القبض على بودينا في 11 فبراير (شباط) 2014. وداخل البناية ذاتها، عثرت الشرطة داخل دولاب على ثلاث عبوات من مشروب طاقة بداخلها 600 غرام من مادة «تي إيه تي بي»، وهي مادة متفجرة استخدمت لاحقًا في هجمات باريس وبروكسل.
* خدمة {نيويورك تايمز}



زلزال سياسي - قضائي في فرنسا يهدد بإخراج مرشحة اليمين المتطرف من السباق الرئاسي

مارين لوبن في مبنى المحكمة يوم الأربعاء الماضي خلال جلسات المحاكمة مع 24 من رفاقها في البرلمان الأوروبي (أ.ف.ب)
مارين لوبن في مبنى المحكمة يوم الأربعاء الماضي خلال جلسات المحاكمة مع 24 من رفاقها في البرلمان الأوروبي (أ.ف.ب)
TT

زلزال سياسي - قضائي في فرنسا يهدد بإخراج مرشحة اليمين المتطرف من السباق الرئاسي

مارين لوبن في مبنى المحكمة يوم الأربعاء الماضي خلال جلسات المحاكمة مع 24 من رفاقها في البرلمان الأوروبي (أ.ف.ب)
مارين لوبن في مبنى المحكمة يوم الأربعاء الماضي خلال جلسات المحاكمة مع 24 من رفاقها في البرلمان الأوروبي (أ.ف.ب)

تعيش فرنسا هذه الأيام تداعيات زلزال سياسي من شأنه أن يقلب رأساً على عقب التوازنات الحزبية والسياسية التي استقرت عليها البلاد بعد الانتخابات الأوروبية والتشريعية التي جرت الربيع الماضي، والتي جعلت حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف القوة الأولى في فرنسا. و«التجمع» وصل إلى هذه المرحلة المتقدمة بقيادة زعيمته غير المنازعة مارين لوبن، التي نجحت لمرتين (في عامي 2017 و2022) في ولوج المرحلة الثانية والنهائية من المنافسة الانتخابية الرئاسية التي فاز بها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون.

مارين لوبن مع محاميها في المحكمة يوم الأربعاء 13 نوفمبر (أ.ف.ب)

وتمني مارين لوبن النفس بأن تكون الانتخابات المقبلة التي ستحل في عام 2027 الفرصة الذهبية بالنسبة لها لتدخل، أخيراً، قصر الإليزيه، وهو الحلم الذي داعب مخيلة والدها جان ماري لوبن، وقد ورثت عنه الزعامة والحزب والطموح الرئاسي. والحال أن كل ذلك يمكن أن يتبدد بعد اختتام المحاكمة التي خضعت لها مع 24 من رفاقها في البرلمان الأوروبي، حيث الكل متهم باختلاس أموال من الاتحاد الأوروبي، خلال سنوات، تقدر قيمتها الإجمالية بـ4.5 مليون يورو، وأن لوبن كانت في «قلب نظام (الغش) المدبر»، الذي طُبق بين عامي 2004 و2016.

زلزال سياسي

ليست لوبن وحزبها أول من احتال على الاتحاد الأوروبي من خلال توظيف أشخاص بصفتهم مساعدين للنواب الأوروبيين في القيام بعملهم. لكن عملية الغش والاحتيال، وفق القضاء الفرنسي، بلغت مستويات غير معروفة سابقاً. وما يميزها، وهذا الأهم، أن الادعاء العام طلب، بعد انتهاء المحاكمات، إنزال عقوبة السجن خمس سنوات بحق لوبن، من ضمنها سنتان مع النفاذ ولكنهما قابلتان للتعديل، وتغريمها 300 ألف يورو ومنعها من الترشح لمدة خمس سنوات.

ماكرون مع وزير الداخلية (رويترز)

كما طلب الادعاء تغريم الحزب بدفع مبلغ 4.3 مليون يورو. ويرى الادعاء، كما أثبتت التحقيقات، أن «التجمع» استخدم الأموال الأوروبية مصدراً لتمويل نشاطاته السياسية، وأن مساعدي النواب لم يعملوا أبداً لمعاونة هؤلاء في إتمام انتدابهم في البرلمان الأوروبي، بل لتعزيز حزب مارين لوبن وترسيخ تجذره وتوسيع دعايته واجتذاب محازبين جدد. ويمكن اعتبار أن الحزب المذكور نجح في هذه المهمة، الدليل على ذلك الأصوات؛ أن لوبن حصلت على 41.5 بالمائة من الأصوات في انتخابات 2022، فيما حصلت في رئاسيات 2017 على 33.9 بالمائة من الأصوات.

انطلاقاً من هذا التقدم الثابت الذي انعكس على تكاثر عديد نوابها في البرلمان الفرنسي وحلول حزبها في المرتبة الأولى فرنسياً في الانتخابات الأوروبية، فإن لوبن ووراءها حزبها يعتقدان أن دورها قد حان للوصول، أخيراً، لارتداء العباءة الرئاسية. وما يزيد من قناعات الطرفين أن ماكرون «البعبع» الذي هزمها مرتين، لم يعد يحق له الترشح لولاية ثالثة بموجب منطوق الدستور، وأن اليمين التقليدي مشتت، واليسار يعاني من التمزق بين مكوناته الأربعة. من هنا، فإن الفقرة الأليمة في قرار الادعاء ليست المبلغ المالي المطلوب تسديده ولا قرار السجن الفعلي لعامين الذي يتوقع أن تحوله المحكمة إلى حمل القلادة الإلكترونية، بل حرمان لوبن من الترشح للانتخابات الرئاسية لمدة خمس سنوات. والحال أن هذه الانتخابات ستجرى في عام 2027 ما يعني أن مرشحة اليمين المتطرف، عملاً بقانون يعود لعام 2016، ستحرم من الترشح في حال صدر الحكم النهائي بتجريمها في الدعوى المقامة عليها وعلى رفاقها. والأسوأ من ذلك أن أي إدانة لها ستترافق مع هذا الحرمان، بالتالي فإن مستقبلها الرئاسي قد يصبح في صيغة الماضي.

جيرالد دارمانان وزير الداخلية المستقيل (أ.ف.ب)

لوبن تندد بـ«النظام» الساعي لإزاحتها

إزاء هذا الوضع، نددت لوبن بقرار الادعاء العام، معتبرة أن «النظام» يريد القضاء عليها وإزاحتها من المشهد السياسي وحرمان ناخبيها من التصويت بحرية للمرشح الذي يختارونه. وسارع «التجمع» إلى إطلاق عريضة، الخميس، عبر منصة «إكس» تحت عنوان «ادعموا مارين! دافعوا عن الديمقراطية»، ندد فيها بـ«تدخل فاضح في تنظيم الحياة البرلمانية بدون الاكتراث لفصل السلطات»، وبـ«محاولة للقضاء على صوت المعارضة الحقيقية» و«الالتفاف على العملية الديمقراطية». أما برونو غولنيش، المسؤول الثاني سابقاً في الحزب فقد عبر عن «الذهول والاستنكار» إزاء قرار الادعاء. والحال أن الأخير ونواباً كثيرين سابقين من حزبه بإبرام «عقود صورية» مع مساعدين برلمانيين كانوا يعملون في الحقيقة لحساب الحزب. وبينت جلسات المحاكمة التي امتدت لثلاثة أسابيع أن الكثير من هؤلاء المساعدين لم يذهبوا أبداً إلى بروكسل، مقر المفوضية والبرلمان الأوروبيين، كما اعترفوا بأنهم كانوا يعملون حقيقة لصالح الحزب، وليس لصالح النواب في ولايتهم الأوروبية، وأن وظائفهم «الرسمية» كانت حقيقة «وهمية».

إزاء هذا الواقع المستجد، قال جودران بارديلا، رئيس الحزب للقناة الإخبارية «سي نيوز»، الخميس، إن حركته «ركعت نصف ركعة»، وأن مسؤوليته أن يقول إنه «لا يمكننا أن نقبل بأن يقوم قاض بسبب عدم تقديره للوبن بحرمانها من الترشح للانتخابات الرئاسية».

من جانبه، انبرى وزير الداخلية السابق جيرالد درامانان إلى الدفاع عن لوبن، مندداً بـ«الضراوة» التي واجهتها في المحكمة وبقرار الادعاء. وقال دارمانان الذي يفترض به كشخصية احتلت منصباً وزارياً طيلة سبع سنوات أن يدافع عن نزاهة المحكمة وحرية القضاء. والحال أنه غرد على منصة «إكس» قائلاً: «سيكون أمراً صادماً أن تمنع لوبن من الترشح، وأن تحرم من أصوات الفرنسيين»، مضيفاً أنه «إذا رأت المحكمة أنها مذنبة وتتعين إدانتها، فإنها لا تستطيع، من الناحية الانتخابية، أن تفعل ذلك من غير رأي الناخبين». وكثيرون رأوا في كلام دارمانان محاولة للتقرب من «التجمع الوطني» وحاجته له في الانتخابات المقبلة.

مارين لوبن زعيمة اليمين المتطرف والمرشحة الرئاسية السابقة لدى دخولها المحكمة يوم 15 أكتوبر (رويترز)

يبقى أن قرار الادعاء لا يعني الحكم المبرم، إذ إن الحكم يجب أن يصدر عن القضاة، كما أن لوبن تستطيع تقديم استئناف بحكم أن ما صدر عن محكمة الدرجة الأولى. إلا أن مقتلها يكمن في أنها ستمنع من الترشح بفعل قانون صُوّت عليه في البرلمان، ويقضي بحرمان أي نائب من حق التصويت والترشح في حال إدانته جنائياً. وإذا أزيحت لوبن، فإن البديل جاهز، وهو السياسي الشاب الطالع بارديلا الذي أوكلت إليه لوبن رئاسة الحزب للتفرغ، منذ عامين، لترشحها للرئاسيات المقبلة.