«غولتسيهر.. هاينه.. شتراوس».. التوظيف «الأقلوي» للإسلام

أشرت في الجزء الأول من هذا الحديث حول بعض وجوه الاهتمام الأوروبي بالإسلام إلى موقف المستشرق المجري غولتسيهر ضمن ما أسميته «الإعجاب الملتبس»، الصفة التي أراها تنسحب على مواقف عدد من المثقفين الأوروبيين في القرن التاسع عشر لا سيما ذوي الانتماء اليهودي. على ذلك الأساس من الإعجاب الملتبس يمكننا أن نفهم النقد الذي يوجهه غولتسيهر في كتابه «مقدمة للعقيدة والشريعة الإسلامية» للمفاهيم المسبقة والتحيزات التي تؤثر في نظرة الناس إلى دين مغاير كالإسلام:
أولئك الذين يقيمون أديان الآخرين بمقاييس قيمهم الذاتية يجب أن يُذكَّروا بالكلمات الحكيمة التي قالها عالم اللاهوت أ. لوازي (1906): ربما أمكن القول بأن كل دين يمتلك قيمة مطلقة في وعي التابع له، وقيمة نسبية في ذهن الفيلسوف والمراقب الناقد.
المشار إليهم بـ«أولئك» يمكن أن تمتد لتشمل العدد الأكبر من مستشرقي أوروبا في ذلك الوقت بما فيهم نولدكه الذي كان غولتسيهر يكن له إعجابًا كبيرًا، لأن النظر إلى الإسلام من زاوية أوروبية مسيحية وتقييمه على ذلك الأساس كان القاعدة في كثير مما كتبه المستشرقون وكان غولتسيهر يدرك أنه بسعيه إلى تقديم صورة مغايرة للإسلام، صورة أقرب إلى صورته في ذهن أتباعه، وإن لم تطابقها، كان تغريدًا خارج السرب. لكن المستشرق الهنغاري كان يشير أيضًا إلى موقف أولئك المستشرقين المسيحيين، ومعهم المجتمعات الأوروبية المسيحية ودولها ومؤسساتها وقوانينها، من دين غير الإسلام هو اليهودية التي يرونها من «أديان الآخرين» فيقيمونها، كما يقيمون الإسلام، من زاويتهم المسيحية الضيقة. كان غولتسيهر بتعبير آخر يقلب الطاولة على أعداء اليهود الأوروبيين وإن لم يكن بمقدوره أن يكون أكثر وضوحًا فترك الإشارة عامة عائمة.
ولم يكن صنيع المستشرق الهنغاري غريبًا في حقيقة الأمر في توجيه النقد إلى المجتمعات المسيحية المحيطة وبالطريقة الحذرة التي اتبعها، فقد سبقه في ذلك من أعلام اليهود الأوروبيين سبينوزا وموسى مندلزون. لقد كان أولئك جميعًا، كما سيقول الفيلسوف اليهودي الألماني ليو شتراوس فيما بعد، يكتبون ما بين السطور. بل إن ما فعله أولئك المفكرون لم يكن حكرًا على النتاج الفكري للجماعات اليهودية في أوروبا في مواقفهم تجاه الدينين الآخرين، المسيحية والإسلام، بل شمل ذلك بعض النتاج الأدبي. فهذا الشاعر الألماني هاينريش هاينه في النصف الأول من القرن التاسع عشر يتبنى موقفًا شبيهًا في قصيدة له حول العلاقات الدينية في الأندلس الإسلامية.
ليس لدى هاينه دفاع عن الإسلام كما لدى غولتسيهر، وإنما توظيف له يجعل الإسلام قناعًا لليهودية والمسلمين أقنعة لليهود. ففي مسرحيته الشعرية «المنصور» تناول هاينه شخصية لأحد مشاهير القادة المسلمين في الأندلس هو المنصور بن أبي عامر، تصوره المسرحية وقد تنصّر مضطرًا بعد سيطرة إسبانيا النصرانية، واضطرار كثير من المسلمين للدخول في دين أعدائهم اتقاء للأذى. ذلك الاضطرار تبينه المسرحية بطريقة غير مباشرة حين تعرض المنصور وهو يتأسى لفقد الأندلس الإسلامية ويتحدث بلغة تفيض بالإيمان الإسلامي لا المسيحي:

من البرج الذي دعا منه المؤمنون
الناس إلى الصلاة،
تقرع الأجراس الآن
فتصافح الآذان برنينها الكئيب.
من العتبات التي تغنى عليها
المؤمنون ذات يوم برسالة
النبي المقدسة
يعرض القساوسة الصلع
قداساتهم ذات الخوارق الساذجة.
ثم يخاطب المنصور أعمدة كاتدرائية قرطبة قائلاً بحرقة لا تخفى على الذات اليهودية وهي تنظر عبر قناع إسلامي أندلسي:
آه لك أيتها الأعمدة الضخمة
لقد زخرفت ذات يوم بعظمة الله
والآن عليك أن تقدمي فروض الإذلال
للقوة المسيحية المكروهة.

مثلما سيفعل غولتسيهر، يضع هاينه الإسلام هنا ناقدًا غير مباشر للمسيحية عبر صورة متخيلة ومستمدة من فترة تاريخية ومنطقة ساد فيها التسامح بين الأديان الثلاثة لا سيما بين المسلمين واليهود، صورة يؤدي مضمونها إلى التعبير عن مشكلات الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر. وواضح أن تلك المشكلات كانت لا تزال تؤثر في حياة الناس في نهاية ذلك القرن كما في أوله وعلى الرغم من تحرير اليهود بعد عصر التنوير في القرن الثامن عشر ودخولهم في معترك الحياة في أوروبا المسيحية.
هذا اللون من الخطاب يتضمن نوعًا من المراوغة النصية التعبيرية التي تتيح للكاتب مساحة أوسع لتناول قضايا أو شكاوى أو احتجاجات يصعب عليه التعبير عنها مباشرة. أي أن الكتابة هنا، كما يقول الفيلسوف الألماني شتراوس، كتابة بين الأسطر. وشتراوس، الذي عاش في ألمانيا في فترة الحرب العالمية الثانية ثم هاجر إلى الولايات المتحدة ليتوفى فيها في سبعينات القرن الماضي هو أحدث وآخر الأمثلة التي أتناولها هنا للحديث عن الإعجاب الملتبس بالإسلام وإن باختصار شديد.
كان شتراوس متخصصًا في الفلسفة الكلاسيكية وفلسفات العصر الوسيط ومنها الفلسفة الإسلامية ضمن اهتمامه بالفلاسفة اليهود مثل سبينوزا وابن ميمون. وكانت إحدى النتائج التي خرج بها من دراسته لتلك الفلسفات هي أن الفلاسفة في تلك العصور لم يكونوا قادرين على التعبير عن آرائهم مباشرة فاخترعوا طرقًا التفافية للتعبير لا سيما أن آراءهم كانت تصطدم بكثير من المعتقدات الشائعة وكذلك بما تقبله الأنظمة السياسية آنذاك.
كان لا بد للفيلسوف، بتعبير آخر، أن يكتب بين الأسطر حسب تعبيره في كتاب بعنوان «الاضطهاد وفن الكتابة» صدر في خمسينات القرن الماضي. ومن الأمثلة التي يضربها لتأثير الاضطهاد أو الخوف من سلطات المجتمع والأنظمة السياسية والدينية أن الفيلسوف الفارابي، الذي يوصف بالمعلم الثاني بعد أرسطو، ألف كتابًا عن أفلاطون ونسب إلى الفيلسوف اليوناني كلامًا في العقيدة والسياسة لم يعرف عن أفلاطون أنه قالها وإنما هي في حقيقة الأمر آراء الفارابي نفسه الذي لم يستطع أن ينسب تلك الآراء لنفسه. وشتراوس لا يخفي إعجابه بالفارابي ضمن فلاسفة مسلمين آخرين، مثلما هو إعجابه باليونانيين واليهود، لكن تسليطه الضوء على أولئك من الزاوية التي اختارها تطرح أسئلة حول ما إذا كان يود لفت انتباه قرائه إلى أنه قد يضطر هو إلى اتباع أسلوب أولئك الفلاسفة لا سيما في فترة من التاريخ الأوروبي كان الخوف فيها لا يزال منتشرًا إما من النازية أو الفاشية أو الشيوعية. يضاف إلى ذلك أنه ليس من المستبعد أن إعجاب شتراوس بالفلاسفة المسلمين، وليس بالإسلام نفسه بالضرورة، كما هو الحال لدى غولتسيهر، يعود إلى رغبته في نقد المسيحية وتاريخها الطويل في عداء اليهود أو ما يسمى عادة «معاداة السامية».
كما أن اختياره للتاريخ الفلسفي الإسلامي تحديدًا يشير إلى عناية بالجانب العقلاني من الحضارة العربية الإسلامية الجانب الذي كان محط إعجاب غولتسيهر ومفكرين يهود آخرين.

شتراوس وهاينه