ستار كاووش: شهرزاد.. غواية اللوحة

لمناسبة معرض الرسام العراقي في دبي

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

ستار كاووش: شهرزاد.. غواية اللوحة

جانب من المعرض
جانب من المعرض

احتضن «غاليري لمياتوس» في دبي 46 لوحة من لوحات الفنان العراقي المقيم في هولندا، ستار كاووش، ويستمر حتى نهاية الشهر الحالي، تحت عنوان «أناشيد شهرزاد».
يغمرنا الفنان بفيض من خيالاته الفنية، المرصعة بلمساته المتفردة، بأجواء ألف ليلة وليلة، وما فاض منها من قصص الحب الرومانسية في لوحات، تغلب عليها مهارة استخدام اللون والخط بأسلوب حداثي يتجاوز الآني إلى الدائم، ويؤسس للون خاص به في الرسم. الفنان ستار كاووش، القادم من بغداد، حط رحاله في هولندا 1999. جاء إلى الفن حاملاً مشعل التعبيرية، لكنه لم يستمر فيها، تتلمذ على يد أستاذه القدير الفنان الرائد فائق حسن لكنه لم يقلده، عاش في بلد فان كوخ ورمبرانت دون أن يكون ظلاً لهما. جرأته الفنية جعلته يتجاوز كثيرا من المدارس الفنية التي ظل البعض أسيرًا لها، ولم يخرج من أسوارها، ولكن ثورته الداخلية وملاحظاته المرهفة جعلته يكسر التقاليد المكرسة في فن الرسم إلى فضاء وضع عليه بصمته شأنه في ذلك شأن الفنانين الكبار. ربما ما يميز لوحاته، وهو الفنان الآتي من بلد المآسي التراجيدية والحروب، هو ابتهاج اللوحة، إذا صح التعبير، مبعث هذه البهجة ألوان ساحرة وخطوط عذبة ومهارة حاذقة واحتفاء بالحياة. تلك النشوة التي تنضح من الوجوه التي يرسمها. ولكن جوهر اكتشافه لفنه المختفي بين أصابعه وخياله لم يكتشفه إلا في الغرب، وبالذات في هولندا، بلد الـ900 متحف. زار متاحفها وتشبّع بخزينها وثرائها، وهو الذي أقام معارضه الأربعة في بغداد في التسعينات، لكنه لم يقتنع بالبقاء من أجل تطوير أدواته الفنية. لم يأت إلى هولندا خالي الوفاض، بل في جعبته تجربة فنية زاخرة، جربّها في «سيقان وأرصفة» و«الباص الأحمر» و«جسد المدينة» و«رجل وامرأة».
فنان الحياة اليومية، بجميع تفاصيلها الدقيقة، لا يتردد في الغوص فيها، حتى إشارات المرور والإعلانات المضيئة تتحوّل بين أصابعه إلى لوحات غنية. ورومانسيته الحالمة لم تجعل منه فنانًا هائمًا دون تأمل، فهو يستوقفنا عند أدق التفاصيل ليشرحها لنا في لوحاته عبر الألوان والخطوط، والمزج بينها. إنها رؤيته الخاصة للأشياء المحيطة بنا، يمنحها المعاني تلو الأخرى كلما دققنا النظر في لوحاته. بغداد أمستردام، حالة روحية يعيشها الفنان، جسر يعبر منه إلى أرواحنا، لا هو عراقي ولا هولندي، بل إنسان فنان، يكافح في مرسمه وعزلته في مدينة صغيرة، لينتج لنا جمالاً يقف ضد قبح العالم. وهو بالإضافة إلى تعبيريته، رسام تشخيصي، يبعث الحياة في شخصياته، مازجًا في لوحاته بين شمس بغداد، وبين مزيج اللونين الأزرق والأخضر، التي تزخر بهما هولندا، فيظهر لنا لون جديد هو «التركواز»، اللون الذي جعل منه شمسه الخاصة، التي تفيض علينا.
نحن أمام جسد المدينة وجسد اللوحة في هذا المعرض، وما بينهما تنساب الرموز، وعطر المرأة، وجموح الرجل، كل حركة وتفصيل في جسد المدينة تنتقل إلى جسد اللوحة بين أصابع الفنان ستار كاووش.
هل ستار كاووش رسام أيقونات؟
يجيبني الفنان ستار كاووش بأن أحد روافد استيحاءاته لرسم اللوحات هي الأيقونات الروسية، إنها خليط من الضوء الباهر والسر المقدس، فالأيقونة تضع الفنان في حالة تأملية لا حدود لها، وتعيد صياغة روحه الإبداعية، لأنه يشتبك معها، وهي تصقل أدواته الفنية. هذه الأيقونات كانت غائبة عنه في بغداد، لكنه أبصرها في تجواله الفني في روسيا. لذلك حوّل مرسمه إلى نوع من المعبد، نوع من الصلاة أمام ضياء اللون والخطوط. ومن هنا ولدت التدرجات اللونية التي عرفت طريقها إلى لوحات ستار كاووش، بل فاضت منها إلى أبصارنا، وجعلتنا ننظر إلى لوحاته بمستويات ذهنية مختلفة. إنه في وادٍ وبلده في وادٍ آخر، تقفز لوحاته من الخراب لتذكرنا أن الجمال موجود رغم هذا الكم من القبح والمتفجرات والأحزمة الناسفة، لكنه لا يتوقف عن صياغة مشاريعه الفنية، مكافحًا هذا الخراب الذي أصاب النفس العراقية قبل أن تصيب المباني والأحجار.
ستار كاووش في نهاية المطاف، رسام ونحات ومصمم وإنسان، يضع كل الألوان في فرنه الساخن ليخرج منه لون التركواز مشعًا بإغواء شهرزاد، تلك التي لم تتوقف عن سرد الحكايات، وستار كاووش لا يتوقف عن سرد الألوان والخطوط، مثل امرأة حبلى لا تستطيع التوقف عن الإنجاب، والفن هو أكبر عملية إنجاب للفنان.

سيرة ذاتية

> ولد في 1963 في مدينة بغداد، العراق. ودرس في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد بين 1984 إلى 1990، وحصل على دبلوم الفنون البصرية، وأقام أربعة معارض فردية، وعمل في الصحافة والرسوم التوضيحية للكتب. وكثير من أعماله وجدت طريقها إلى معارض العالم. وصدرت عنه كتب كثيرة، منها: «نساء فيروز مقدمة شارلوت هيغنز، 2015» باللغتين الهولندية والإنجليزية، و«سيرة مدينة» لخالد مطلق 2014. و«سر رسام» مقدمة ميشال فان باللغتين الهولندية والإنجليزية، و«أصابع كاووش»، لموفق السواد 2006 في هولندا، و«أطياف ستار كاووش» لعدنان حسن أحمد 2005.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.