من كروز إلى ترامب.. التوظيف السياسي لتفجيرات بروكسل الأخيرة

أميركا «الأنتروبية» والفرار إلى الراديكالية الدينية

إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
TT

من كروز إلى ترامب.. التوظيف السياسي لتفجيرات بروكسل الأخيرة

إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)

مع تقدم حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية يتزايد التوظيف السياسي للدين، والعزف على أوتار الأصولية الدينية اليمينية المسيحية، بنوع خاص في الولايات المتحدة. ويبدو من سوء الطالع أن أحداثا بعينها أضحت تزخّم هذا التوظيف عملا بمقولة «أبي البراغماتية السياسية» التي توظف الأديان والإنسان لخدمتها، نيكولا مكيافيللي «الدين ضروري للحكومة، لا لخدمة الفضيلة». ولعل أبرز هذه الأحداث، العمليات الإرهابية الأخيرة التي كان مدينة بروكسل، عاصمة بلجيكا والاتحاد الأوروبي، ومقر حلف شمال الأطلسي «ناتو».
جاءت أحداث الإرهاب الأخيرة في العاصمة البلجيكية بروكسل بمثابة جائزة على طبق من ذهب للمتنافسين في سباق الرئاسة الأميركية. ويلحظ المرء هنا أن التوظيف المشار إليه يكاد ينحصر في الحزب الجمهوري الذي بات يدغدغ مشاعر التيارات المسيحية الإنجيلية، عطفا على بعض غلاة اليمين من التيارات الكاثوليكية المتشددة. وهؤلاء يشكلون، ولا شك، مفتاحا جوهريا في طريق الوصول إلى البيت الأبيض، وتجمعهم في واقع الحال رؤية دينية واحدة، ومصالح اقتصادية مرتبطة ارتباطا جذريا بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي، المحرك الأول والرئيس للحروب حول العالم، وإن ارتدت زيا دينيا منخولا.
يتوجب علينا، ربما قبل الخوض في عملية تحليل المضمون لواقع الحال الديني الأصولي اليميني الأميركي، الذي قاد الولايات المتحدة في سنوات إدارة رونالد ريغان وتحكّم بمواجهته مع الاتحاد السوفياتي، والذي استعلن كذلك في أيام جورج بوش الابن وأدى إلى المواجهة مع طالبان في أفغانستان، ثم غزو العراق، يستوجب، ولو في اختصار غير مخل التأصيل للظاهرة.
يمكننا القول: إن تعبير «الأصولية» نُحت في عام 1920 في الولايات المتحدة على يد القس المعمداني والصحافي كورتيس لي لوز، الذي تعهد بأن المؤمنين «سيخوضون معركة حامية الوطيس من أجل الأصول». ولعل المتابع المحقق والمدقق للحياة الفكرية في الولايات المتحدة طوال العقدين الماضيين يرصد سلسلة مؤثرة من المقالات لمائة كاتب من مختلف المشارب والتوجهات الدينية، ركّزت على العناصر المفتاحية في الدين المسيحي، بعنوان «الأصول» شهادة على الحقيقة، وقد مثل هؤلاء الكتاب حركة قوية بين البروتستانت المحافظين والإنجيليين رفضت انتشار التفسيرات التاريخية - النقدية للكتاب المقدس، وعدت طرائق التفسير الجديدة خيانة للحقيقة المطلقة للإنجيل.
وفي الوقت ذاته، كان هؤلاء الأصوليون الأوائل يردّون بشكل صارم وسلبي على النزعات الليبرالية والشيوعية، وغيرها من النزعات الملحدة التي تزايدت وانتشرت في المجتمع الأميركي.
أما تعبير «أصولية» فقد وعد بتوفير أرضية آمنة للمؤمنين بالكتاب المقدس، والمتشبثين بإيمانهم وبقوة مبادئهم الأخلاقية، والملتزمين بالوقوف بصلابة في وجه نزعات الانحطاط والانحلال في العصر الحديث. والثابت، أن تيار الأصولية اليمينية يتجلى بنوع خاص في أوساط الجمهوريين الأميركيين الذين يميلون إلى تشكيل سبيكة النسيج الاجتماعي الأميركي للمؤمنين، بخلاف الديمقراطيين الذين تعد العلمانية حجر الزاوية بالنسبة إليهم. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم مواقف كل من دونالد ترامب وتيد كروز المرشحين الأبرز الساعيَين للحصول على بطاقة الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية القادمة.
إذا توقفنا أمام ترامب، الذي يعد ظاهرة مثيرة للجدل على الساحة السياسية الأميركية والذي يشكل حجر عثرة، لا نقطة ارتكاز للأميركيين عادة وللجمهوريين خاصة، نجد أنه يغازل التيارات اليمينية المسيحية، التي تؤمن بفكر المطلق الأصولي. ذاك الذي يقصي الآخر مرة وإلى الأبد. وبصراحة العبارة، غالبا ما تدور الدوائر حول الآخر «المسلم» تحديدا، وبالعزف على أوتار الإسلام السياسي، كأحد المصادر الرئيسة للإرهاب في تفسير اليمين الأميركي الديني وتبريره، وحتى لو لم يكن ترامب نفسه مؤمنا أو طقوسيا، إنما هي «الميكافيللية» بعينها.
والواقع، أنه منذ بداية حملته الانتخابية وضع ترامب يده على الجرح الذي لا يزال مفتوحا عند الأميركيين، والمتمثل في العلاقة مع المسلمين في الداخل والخارج. ولقد خيل لكثيرين، أن عقد ونصف العقد من الزمن منذ أحداث سبتمبر (أيلول) 2001. فترة كفيلة بمداواة جرح واشنطن ونيويورك. لكن ما جرى في باريس وبروكسل، أعطى ترامب فرصة ذهبية للسيطرة على مقدرات ملايين الأميركيين، أو في أضعف الأحوال محاولة الهيمنة عليها وتوجيهها إلى صناديق الاقتراع لانتخابه رئيسا للبلاد.
لقد طالب ترامب بإغلاق أميركا في وجه «المسلمين الجدد»، إن جاز التعبير، أي القادمين إليها لاجئين أو مهاجرين. وقال، إنه سيفكر بجدية في إغلاق عدد من المساجد، ووضع عدد آخر تحت المراقبة. وأبعد من ذلك، تعهد بأنه حال الوصول إلى البيت الأبيض سيصدر هويات شخصية خاصة بالمسلمين، وربما يمضي في طريق إنشاء قاعدة بيانات لتسجيل جميع المسلمين المقيمين في أميركا وتتبعهم.
وفي أعقاب حادثة بروكسل، شكك ترامب في وطنية المسلمين الأوروبيين والأميركيين معا، واصفا إياهم بمعنى قريب من «الخيانة»، إذ إنهم «لا يبلغون عن الأنشطة المثيرة للريبة، وإن قادت إلى وفاة الناس في عمليات إرهابية».
يعلم ترامب جيدا، وكذا العقول المفكرة في حملته، أن هذه الاتهامات سيتلقفها ربع الراشدين من الشعب الأميركي تقريبا الذين ينحون إلى اليمين المسيحي، والعهدة هنا على الراوي، البروفسور وليم مارتن، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة رايس الأميركية.
ويرصد كذلك الكاتب الأميركي، داميان طومسون، في كتابه «نهاية الوقت - العقيدة والخوف في ظل الألفية»، أن نسبة نمو المسيحية الإنجيلية في أميركا تزيد على أي اتجاه ديني آخر في العالم. وتؤكد صحة هذا الكلام الدراسة التي نشرت يوم 13 مايو (أيار) عام 2015. الصادر عن مركز بيو للأبحاث في واشنطن، إذ أشارت إلى أن الإنجيليين الأميركيين الذين تتجاوز نسبتهم ربع الأميركيين في ازدياد عددي، كما أن المسحة الدينية لأميركا بشكل عام تبدو واضحة، إذ يعرّف 70 في المائة من الأميركيين أنفسهم بوصفهم مسيحيين.
أما العالم الأميركي البروفسور جون غرين، من جامعة أكرون، فيقدر عدد الذين يتمسكون بالأصولية الإنجيلية الساعية للمواجهة الحتمية بين «الذين معنا والذين ضدنا»، وحالة التقابل المانوي التاريخي، بين «مدينة الله» و«مدينة البشر»، أو بالمفهوم الإسلامي «دار الحرب» و«دار الإسلام»، بنحو 62 مليون أميركي.
وما يلفت النظر في الحديث الخطابي الانتخابي لترامب، أن مفرداته تكاد أن تتطابق مع العبارات ذاتها التي تفوه بها من قبل بضع سنين بوش الابن، فترامب يصرح الآن بأن الله ـ وحاشا لله بالطبع - «اختارني لإنقاذ الأمة من العابثين بها». هو الخطاب نفسه، الفوقي الثيولوجي المنحول لبوش الابن في حديثه عن غزو العراق، وكيف أن السماء قد كلّفته دون البشر، بهذه المهمة. ولم يكن غريبا عليه ذلك، فقد ثبتت والدته باربارا بوش في مخياله الفكري قبل عقود أن شبها ما يربط بينه وبين النبي موسى. وكما أن موسي أخرج العبرانيين من أرض مصر، فإن بوش قادر على إخراجهم من وهدة الليبرالية وضلال العلمانية، إلى نور الدوغائية المسيحية المتشددة، الأمر الذي أثبتت التجربة والحكم فشله فشلا ذريعا.
لا يتوقّف الزخم اليميني الأميركي عند ترامب، بل يمضي كذلك لجهة مرشح آخر، من الجمهوريين كذلك، وحتى وإن لم تكن حظوظه، راهنا، تطال حظوظ ترامب، غير أنه، حكما، سيكون له دور بارز على خريطة الحياة السياسية الأميركية في المستقبل.
نتحدث هنا، ولا شك، عن السيناتور تيد كروز، المحامي المثقف والآيديولوجي صاحب المنهجية والكاتب المثقف خريج كبريات الجامعات الأميركية، والمحامي التكساسي، الذي يعد أكثر خطورة من ترامب العشوائي التفكير. لم تبدأ مغازلة كروز للتيار اليميني المسيحي مع هذه الحملة الانتخابية الرئاسية، وهذا يدلل على أنه صاحب رؤية زمنية مرتبة وواضحة منذ وقت بعيد. ورغم مواقفه الحديثة، فإن الأخطر في تواصله مع اليمين الأميركيين يرجع إلى الوراء وبقوة.
وطبعا، ما كان كروز ليفوّت فرصة حادثة بروكسل ليثير مشاعر الخائفين في الداخل الأميركي، ولهذا رأيناه يدعو السلطات الأميركية إلى منح دوريات الشرطة صلاحيات أكبر لمراقبة الأحياء التي تقطنها غالبية مسلمة، تجنبا لظهور نزعات راديكالية فيما بينهما.
وفي تدويناته على وسائط الاتصال الاجتماعي بعد ساعات من مأساة بروكسل، كان من الواضح جدا أننا أمام نسق للتفكير «الهنتنغتوني» (نسبة للمؤرخ صامويل هنتنغتون) الصدامي، إن جاز التعبير. إذ عدّ أن العالم بالفعل مقسّم لمعسكرات ثقافية وحضارية بين «نحن» و«هم». ولهذا كتب كروز يقول: «إننا جزء من ثقافة لا يحتملونها، ولهذا تعهّدوا بتدميرها. والآن يشهد حلفاؤنا الأوروبيون ما نتج من المزيج السام للمهاجرين الذين تداخل معهم الإرهابيون».
هذا الطرح، بلا شك، يلقى هوىً واسعا داخل صفوف اليمين الأميركي الرافض لاستقبال مزيد من المهاجرين من جهة، ويقلص من مساحات الوصل والتواصل مع المسلمين الوطنيين والمواطنين الطبيعيين في الداخل الأميركي، بل يضع العصا في دواليب التعايش السلمي بين الجميع، وبذا يحقق فكرة التمايز العنصري الثقافي والحضاري والديني في نهاية الأمر.
أما عن القديم في آليات كروز، فيتمثل في محاولاته الدءوبة لاستمالة غلاة اليمين المتطرف من مسيحي الولايات المتحدة عبر «كعب أخيل» في الفكر الديني الأميركي، أي إسرائيل والرؤى التوراتية، التي تشكل جدارا سميكا لليمين الأصولي.
ذلك أنه في الحادي عشر من سبتمبر من عام 2014. كانت العاصمة الأميركية واشنطن تستضيف مؤتمرا «للدفاع عن مسيحيي الشرق الأوسط». وفي تلك الليلة، كان السيناتور كروز أحد المتحدثين الرئيسين في اللقاء، ولقد استغل الفرصة لتوجيه هجمات إلى تيار المسيحيين العرب الذين يرون في إسرائيل دولة احتلال و«فصل عنصري»، والذين يرفضون واقع الدعم الأميركي لإسرائيل.
ولم يكن في واقع الحال شأن المسيحيين العرب، قضية تهم كروز في كثير أو قليل، بل كان الأمر بمثابة تقديم مسوّغات قبول لليمين الأصولي الأميركي الذي يرتكن ارتكانا مطلقا على «العهد القديم» والذي يرى في الأرض الأميركية «أرض كنعان الجديدة»، وفي الأميركيين «الشعب المختار الجديد».
ومنذ بضعة أسابيع، أطلقت بعض الأصوات المعروفة بعمق تحليلها للشؤون الأميركية عبر عقود طوال، على الانتخابات الرئاسية للعام 2016 وصف «الانتخابات الهرمجدونية» والمعروف أن «هرمجدون» (أو آرماجدون) هي قمة الحبكة الدرامية للرواية اليمينية الإنجيلية، البروتستانتية، التي تداخلت بشكل كبير مع عالم السياسة الأميركية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وصولا إلى بوش الابن، وها هي كما نرى تتصل بترامب وكروز.
«هرمجدون»، للذين لا يعلمون، هي فكرة الحرب الكونية التي لا بد لها أن تحدث بين «جيوش الشر» القادمة من الشرق، و«جيوش الخير» الآتية من الغرب، والمدينة المقدسة أورشليم القدس هي موقعها وموضعها. وتدخل الفكرة برمّتها في سياق ما يعرف بالتفكير «الأبوكاليبسي» عند غلاة اليمين المسيحي من جديد، وتأتي استعلانا «أسكاتولوجيا» يتصل بنهاية الأزمنة وقيام الساعة.
هذه الفكرة روج لها رونالد ريغان، وجراءها طرح مشروعه المعروف بـ«حرب النجوم»، وبسببها حرّك بوش الابن جيوشه إلى أفغانستان والعراق شرقا، ولهذا يرقص من حولها ترامب وكروز، واضعين التقسيم المؤلم لصامويل هنتنغتون من جديد، معسكر إسلامي – كونفوشيوسي شرقي، في المواجهة مع عالم مسيحي - يهودي غربي من ناحية أخرى.
وتاريخيا، تزداد وتيرة الأصولية مع الأزمات. ولقد ارتفع المد الأصولي الأميركي إلى عنان السماء في أعقاب الخسائر الفادحة التي حلت بالأميركيين في حرب فيتنام في ستينات القرن المنصرم. وعدّ الأميركيون يومذاك، أن يد الله تخلت عنهم، في حين ساندت دولة إسرائيل الصغيرة، التي، رغم عدد سكانها القليل جدا وإمكاناتها التي لا تقارن البتة مع قدرات أميركا العظمى، استطاعت أن تحتل من أراضي العرب والمسلمين في ست ساعات. ومن ثم استنتج هؤلاء أن «الرب يناصر الإسرائيليين ويتخلى عن الأميركيين الذين غرقوا في الحداثة، وما من حل إلا العودة إلى الأصول الدينية من جديد»، وهو ما جرت به المقادير فعلا وقولا.
اليوم تجد الولايات المتحدة ذاتها في أزمات هوية، تولّدت عن إشكاليات اقتصادية وسياسية وفكرية، وحيرة حول الهوية بين الدولة العلمانية بحكم الدستور والدولة الدينية في واقع الحال.
ولعل الإقبال على ترامب والتصويت له ليس إلا تعبيرا عن حالة أميركا «الأنتروبية»، المليئة بالقلق والملل، المضطربة والقلقة نهارا والمؤرقة ليلا، ولهذا ربما يجيء اختيار ترامب نوعا من أنواع العقاب من الطبقة الوسطى الأميركية للنخبة السياسية الزائفة. هذه الطبقة بطبيعة الحال، لا دالة لها على عمق البحث الفكري أو الديني لتبيان «الغي من الرشد»، ولهذا تشكل القاعدة العريضة لأصحاب «الإيمان المغلق»، أي غير القابل للمناقشة أو المجادلة، إيمان الأصوليين، الذين يقال لهم يمينا يمينا، أو يسارا يسارا.
وليس من المفاجئ إذن، والحالة هذه، أن نرى ترامب وكروز يتلاعبان بصفوف اليمين الأصولي الأميركي وصنوفه، والوقائع المستجدة من باريس إلى بروكسل تخدمهم، وما عليهم إلا أن يصوروا للناخب الأميركي اليميني، حال الأعداء من المسلمين خاصة، المتربّصين بهم عند كل ركن وخلف كل منعطف. أولئك الذين لهم رسالة واحدة، هي قتل الحضارة الغربية، والقضاء على المسيحيين حول العالم، وتصريحات «داعش» لا تعوز أحدا في هذا السياق.
ويضحى من الطبيعي هنا أن ترتفع الأصوات الساعية لاستحضار شكل الأمة وجوهرها، وقيم العائلة الأميركية التقليدية «المسيحية»، ومن ثم إعادتها إلى نقائها الأصيل واستقرارها الأصلي، كما يزعمون، وهي رؤية تخدم أصحاب ثقافة الحرب، الوثيقي واللصيقي العلاقة باليمين الأصولي الأميركي، أولئك المعروفون بجماعة المجمع الصناعي العسكري الأميركي، الذين تخدم صراعات المطلقات حروبهم، وتزيد من ثرواتهم.
في كتابه «الصراع على الله في أميركا» يحدثنا جيكو موللر - فاهرنهولتز، اللاهوتي الألماني والباحث المستقل، الذي عمل مستشارا لحركة وحدة الكنائس العالمية عن حقيقة أن قرابة ثلث السكان في الولايات المتحدة يعيشون أفكارا وممارسات أصولية، إذ تهيمن الكنائس الوطنية الكبرى المغالية في توجهاتها المحافظة، وزعماؤها على محطات الإذاعة والتلفزيون في شتى أرجاء البلاد، والتي تغذي الانطباع بأن أميركا في حالة حرب تدافع فيها عن نفسها بعناد في مواجهة أعداء يتمتعون بقوة ساحقة داخل الوطن وخارجه.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.