من كروز إلى ترامب.. التوظيف السياسي لتفجيرات بروكسل الأخيرة

أميركا «الأنتروبية» والفرار إلى الراديكالية الدينية

إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
TT

من كروز إلى ترامب.. التوظيف السياسي لتفجيرات بروكسل الأخيرة

إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)

مع تقدم حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية يتزايد التوظيف السياسي للدين، والعزف على أوتار الأصولية الدينية اليمينية المسيحية، بنوع خاص في الولايات المتحدة. ويبدو من سوء الطالع أن أحداثا بعينها أضحت تزخّم هذا التوظيف عملا بمقولة «أبي البراغماتية السياسية» التي توظف الأديان والإنسان لخدمتها، نيكولا مكيافيللي «الدين ضروري للحكومة، لا لخدمة الفضيلة». ولعل أبرز هذه الأحداث، العمليات الإرهابية الأخيرة التي كان مدينة بروكسل، عاصمة بلجيكا والاتحاد الأوروبي، ومقر حلف شمال الأطلسي «ناتو».
جاءت أحداث الإرهاب الأخيرة في العاصمة البلجيكية بروكسل بمثابة جائزة على طبق من ذهب للمتنافسين في سباق الرئاسة الأميركية. ويلحظ المرء هنا أن التوظيف المشار إليه يكاد ينحصر في الحزب الجمهوري الذي بات يدغدغ مشاعر التيارات المسيحية الإنجيلية، عطفا على بعض غلاة اليمين من التيارات الكاثوليكية المتشددة. وهؤلاء يشكلون، ولا شك، مفتاحا جوهريا في طريق الوصول إلى البيت الأبيض، وتجمعهم في واقع الحال رؤية دينية واحدة، ومصالح اقتصادية مرتبطة ارتباطا جذريا بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي، المحرك الأول والرئيس للحروب حول العالم، وإن ارتدت زيا دينيا منخولا.
يتوجب علينا، ربما قبل الخوض في عملية تحليل المضمون لواقع الحال الديني الأصولي اليميني الأميركي، الذي قاد الولايات المتحدة في سنوات إدارة رونالد ريغان وتحكّم بمواجهته مع الاتحاد السوفياتي، والذي استعلن كذلك في أيام جورج بوش الابن وأدى إلى المواجهة مع طالبان في أفغانستان، ثم غزو العراق، يستوجب، ولو في اختصار غير مخل التأصيل للظاهرة.
يمكننا القول: إن تعبير «الأصولية» نُحت في عام 1920 في الولايات المتحدة على يد القس المعمداني والصحافي كورتيس لي لوز، الذي تعهد بأن المؤمنين «سيخوضون معركة حامية الوطيس من أجل الأصول». ولعل المتابع المحقق والمدقق للحياة الفكرية في الولايات المتحدة طوال العقدين الماضيين يرصد سلسلة مؤثرة من المقالات لمائة كاتب من مختلف المشارب والتوجهات الدينية، ركّزت على العناصر المفتاحية في الدين المسيحي، بعنوان «الأصول» شهادة على الحقيقة، وقد مثل هؤلاء الكتاب حركة قوية بين البروتستانت المحافظين والإنجيليين رفضت انتشار التفسيرات التاريخية - النقدية للكتاب المقدس، وعدت طرائق التفسير الجديدة خيانة للحقيقة المطلقة للإنجيل.
وفي الوقت ذاته، كان هؤلاء الأصوليون الأوائل يردّون بشكل صارم وسلبي على النزعات الليبرالية والشيوعية، وغيرها من النزعات الملحدة التي تزايدت وانتشرت في المجتمع الأميركي.
أما تعبير «أصولية» فقد وعد بتوفير أرضية آمنة للمؤمنين بالكتاب المقدس، والمتشبثين بإيمانهم وبقوة مبادئهم الأخلاقية، والملتزمين بالوقوف بصلابة في وجه نزعات الانحطاط والانحلال في العصر الحديث. والثابت، أن تيار الأصولية اليمينية يتجلى بنوع خاص في أوساط الجمهوريين الأميركيين الذين يميلون إلى تشكيل سبيكة النسيج الاجتماعي الأميركي للمؤمنين، بخلاف الديمقراطيين الذين تعد العلمانية حجر الزاوية بالنسبة إليهم. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم مواقف كل من دونالد ترامب وتيد كروز المرشحين الأبرز الساعيَين للحصول على بطاقة الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية القادمة.
إذا توقفنا أمام ترامب، الذي يعد ظاهرة مثيرة للجدل على الساحة السياسية الأميركية والذي يشكل حجر عثرة، لا نقطة ارتكاز للأميركيين عادة وللجمهوريين خاصة، نجد أنه يغازل التيارات اليمينية المسيحية، التي تؤمن بفكر المطلق الأصولي. ذاك الذي يقصي الآخر مرة وإلى الأبد. وبصراحة العبارة، غالبا ما تدور الدوائر حول الآخر «المسلم» تحديدا، وبالعزف على أوتار الإسلام السياسي، كأحد المصادر الرئيسة للإرهاب في تفسير اليمين الأميركي الديني وتبريره، وحتى لو لم يكن ترامب نفسه مؤمنا أو طقوسيا، إنما هي «الميكافيللية» بعينها.
والواقع، أنه منذ بداية حملته الانتخابية وضع ترامب يده على الجرح الذي لا يزال مفتوحا عند الأميركيين، والمتمثل في العلاقة مع المسلمين في الداخل والخارج. ولقد خيل لكثيرين، أن عقد ونصف العقد من الزمن منذ أحداث سبتمبر (أيلول) 2001. فترة كفيلة بمداواة جرح واشنطن ونيويورك. لكن ما جرى في باريس وبروكسل، أعطى ترامب فرصة ذهبية للسيطرة على مقدرات ملايين الأميركيين، أو في أضعف الأحوال محاولة الهيمنة عليها وتوجيهها إلى صناديق الاقتراع لانتخابه رئيسا للبلاد.
لقد طالب ترامب بإغلاق أميركا في وجه «المسلمين الجدد»، إن جاز التعبير، أي القادمين إليها لاجئين أو مهاجرين. وقال، إنه سيفكر بجدية في إغلاق عدد من المساجد، ووضع عدد آخر تحت المراقبة. وأبعد من ذلك، تعهد بأنه حال الوصول إلى البيت الأبيض سيصدر هويات شخصية خاصة بالمسلمين، وربما يمضي في طريق إنشاء قاعدة بيانات لتسجيل جميع المسلمين المقيمين في أميركا وتتبعهم.
وفي أعقاب حادثة بروكسل، شكك ترامب في وطنية المسلمين الأوروبيين والأميركيين معا، واصفا إياهم بمعنى قريب من «الخيانة»، إذ إنهم «لا يبلغون عن الأنشطة المثيرة للريبة، وإن قادت إلى وفاة الناس في عمليات إرهابية».
يعلم ترامب جيدا، وكذا العقول المفكرة في حملته، أن هذه الاتهامات سيتلقفها ربع الراشدين من الشعب الأميركي تقريبا الذين ينحون إلى اليمين المسيحي، والعهدة هنا على الراوي، البروفسور وليم مارتن، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة رايس الأميركية.
ويرصد كذلك الكاتب الأميركي، داميان طومسون، في كتابه «نهاية الوقت - العقيدة والخوف في ظل الألفية»، أن نسبة نمو المسيحية الإنجيلية في أميركا تزيد على أي اتجاه ديني آخر في العالم. وتؤكد صحة هذا الكلام الدراسة التي نشرت يوم 13 مايو (أيار) عام 2015. الصادر عن مركز بيو للأبحاث في واشنطن، إذ أشارت إلى أن الإنجيليين الأميركيين الذين تتجاوز نسبتهم ربع الأميركيين في ازدياد عددي، كما أن المسحة الدينية لأميركا بشكل عام تبدو واضحة، إذ يعرّف 70 في المائة من الأميركيين أنفسهم بوصفهم مسيحيين.
أما العالم الأميركي البروفسور جون غرين، من جامعة أكرون، فيقدر عدد الذين يتمسكون بالأصولية الإنجيلية الساعية للمواجهة الحتمية بين «الذين معنا والذين ضدنا»، وحالة التقابل المانوي التاريخي، بين «مدينة الله» و«مدينة البشر»، أو بالمفهوم الإسلامي «دار الحرب» و«دار الإسلام»، بنحو 62 مليون أميركي.
وما يلفت النظر في الحديث الخطابي الانتخابي لترامب، أن مفرداته تكاد أن تتطابق مع العبارات ذاتها التي تفوه بها من قبل بضع سنين بوش الابن، فترامب يصرح الآن بأن الله ـ وحاشا لله بالطبع - «اختارني لإنقاذ الأمة من العابثين بها». هو الخطاب نفسه، الفوقي الثيولوجي المنحول لبوش الابن في حديثه عن غزو العراق، وكيف أن السماء قد كلّفته دون البشر، بهذه المهمة. ولم يكن غريبا عليه ذلك، فقد ثبتت والدته باربارا بوش في مخياله الفكري قبل عقود أن شبها ما يربط بينه وبين النبي موسى. وكما أن موسي أخرج العبرانيين من أرض مصر، فإن بوش قادر على إخراجهم من وهدة الليبرالية وضلال العلمانية، إلى نور الدوغائية المسيحية المتشددة، الأمر الذي أثبتت التجربة والحكم فشله فشلا ذريعا.
لا يتوقّف الزخم اليميني الأميركي عند ترامب، بل يمضي كذلك لجهة مرشح آخر، من الجمهوريين كذلك، وحتى وإن لم تكن حظوظه، راهنا، تطال حظوظ ترامب، غير أنه، حكما، سيكون له دور بارز على خريطة الحياة السياسية الأميركية في المستقبل.
نتحدث هنا، ولا شك، عن السيناتور تيد كروز، المحامي المثقف والآيديولوجي صاحب المنهجية والكاتب المثقف خريج كبريات الجامعات الأميركية، والمحامي التكساسي، الذي يعد أكثر خطورة من ترامب العشوائي التفكير. لم تبدأ مغازلة كروز للتيار اليميني المسيحي مع هذه الحملة الانتخابية الرئاسية، وهذا يدلل على أنه صاحب رؤية زمنية مرتبة وواضحة منذ وقت بعيد. ورغم مواقفه الحديثة، فإن الأخطر في تواصله مع اليمين الأميركيين يرجع إلى الوراء وبقوة.
وطبعا، ما كان كروز ليفوّت فرصة حادثة بروكسل ليثير مشاعر الخائفين في الداخل الأميركي، ولهذا رأيناه يدعو السلطات الأميركية إلى منح دوريات الشرطة صلاحيات أكبر لمراقبة الأحياء التي تقطنها غالبية مسلمة، تجنبا لظهور نزعات راديكالية فيما بينهما.
وفي تدويناته على وسائط الاتصال الاجتماعي بعد ساعات من مأساة بروكسل، كان من الواضح جدا أننا أمام نسق للتفكير «الهنتنغتوني» (نسبة للمؤرخ صامويل هنتنغتون) الصدامي، إن جاز التعبير. إذ عدّ أن العالم بالفعل مقسّم لمعسكرات ثقافية وحضارية بين «نحن» و«هم». ولهذا كتب كروز يقول: «إننا جزء من ثقافة لا يحتملونها، ولهذا تعهّدوا بتدميرها. والآن يشهد حلفاؤنا الأوروبيون ما نتج من المزيج السام للمهاجرين الذين تداخل معهم الإرهابيون».
هذا الطرح، بلا شك، يلقى هوىً واسعا داخل صفوف اليمين الأميركي الرافض لاستقبال مزيد من المهاجرين من جهة، ويقلص من مساحات الوصل والتواصل مع المسلمين الوطنيين والمواطنين الطبيعيين في الداخل الأميركي، بل يضع العصا في دواليب التعايش السلمي بين الجميع، وبذا يحقق فكرة التمايز العنصري الثقافي والحضاري والديني في نهاية الأمر.
أما عن القديم في آليات كروز، فيتمثل في محاولاته الدءوبة لاستمالة غلاة اليمين المتطرف من مسيحي الولايات المتحدة عبر «كعب أخيل» في الفكر الديني الأميركي، أي إسرائيل والرؤى التوراتية، التي تشكل جدارا سميكا لليمين الأصولي.
ذلك أنه في الحادي عشر من سبتمبر من عام 2014. كانت العاصمة الأميركية واشنطن تستضيف مؤتمرا «للدفاع عن مسيحيي الشرق الأوسط». وفي تلك الليلة، كان السيناتور كروز أحد المتحدثين الرئيسين في اللقاء، ولقد استغل الفرصة لتوجيه هجمات إلى تيار المسيحيين العرب الذين يرون في إسرائيل دولة احتلال و«فصل عنصري»، والذين يرفضون واقع الدعم الأميركي لإسرائيل.
ولم يكن في واقع الحال شأن المسيحيين العرب، قضية تهم كروز في كثير أو قليل، بل كان الأمر بمثابة تقديم مسوّغات قبول لليمين الأصولي الأميركي الذي يرتكن ارتكانا مطلقا على «العهد القديم» والذي يرى في الأرض الأميركية «أرض كنعان الجديدة»، وفي الأميركيين «الشعب المختار الجديد».
ومنذ بضعة أسابيع، أطلقت بعض الأصوات المعروفة بعمق تحليلها للشؤون الأميركية عبر عقود طوال، على الانتخابات الرئاسية للعام 2016 وصف «الانتخابات الهرمجدونية» والمعروف أن «هرمجدون» (أو آرماجدون) هي قمة الحبكة الدرامية للرواية اليمينية الإنجيلية، البروتستانتية، التي تداخلت بشكل كبير مع عالم السياسة الأميركية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وصولا إلى بوش الابن، وها هي كما نرى تتصل بترامب وكروز.
«هرمجدون»، للذين لا يعلمون، هي فكرة الحرب الكونية التي لا بد لها أن تحدث بين «جيوش الشر» القادمة من الشرق، و«جيوش الخير» الآتية من الغرب، والمدينة المقدسة أورشليم القدس هي موقعها وموضعها. وتدخل الفكرة برمّتها في سياق ما يعرف بالتفكير «الأبوكاليبسي» عند غلاة اليمين المسيحي من جديد، وتأتي استعلانا «أسكاتولوجيا» يتصل بنهاية الأزمنة وقيام الساعة.
هذه الفكرة روج لها رونالد ريغان، وجراءها طرح مشروعه المعروف بـ«حرب النجوم»، وبسببها حرّك بوش الابن جيوشه إلى أفغانستان والعراق شرقا، ولهذا يرقص من حولها ترامب وكروز، واضعين التقسيم المؤلم لصامويل هنتنغتون من جديد، معسكر إسلامي – كونفوشيوسي شرقي، في المواجهة مع عالم مسيحي - يهودي غربي من ناحية أخرى.
وتاريخيا، تزداد وتيرة الأصولية مع الأزمات. ولقد ارتفع المد الأصولي الأميركي إلى عنان السماء في أعقاب الخسائر الفادحة التي حلت بالأميركيين في حرب فيتنام في ستينات القرن المنصرم. وعدّ الأميركيون يومذاك، أن يد الله تخلت عنهم، في حين ساندت دولة إسرائيل الصغيرة، التي، رغم عدد سكانها القليل جدا وإمكاناتها التي لا تقارن البتة مع قدرات أميركا العظمى، استطاعت أن تحتل من أراضي العرب والمسلمين في ست ساعات. ومن ثم استنتج هؤلاء أن «الرب يناصر الإسرائيليين ويتخلى عن الأميركيين الذين غرقوا في الحداثة، وما من حل إلا العودة إلى الأصول الدينية من جديد»، وهو ما جرت به المقادير فعلا وقولا.
اليوم تجد الولايات المتحدة ذاتها في أزمات هوية، تولّدت عن إشكاليات اقتصادية وسياسية وفكرية، وحيرة حول الهوية بين الدولة العلمانية بحكم الدستور والدولة الدينية في واقع الحال.
ولعل الإقبال على ترامب والتصويت له ليس إلا تعبيرا عن حالة أميركا «الأنتروبية»، المليئة بالقلق والملل، المضطربة والقلقة نهارا والمؤرقة ليلا، ولهذا ربما يجيء اختيار ترامب نوعا من أنواع العقاب من الطبقة الوسطى الأميركية للنخبة السياسية الزائفة. هذه الطبقة بطبيعة الحال، لا دالة لها على عمق البحث الفكري أو الديني لتبيان «الغي من الرشد»، ولهذا تشكل القاعدة العريضة لأصحاب «الإيمان المغلق»، أي غير القابل للمناقشة أو المجادلة، إيمان الأصوليين، الذين يقال لهم يمينا يمينا، أو يسارا يسارا.
وليس من المفاجئ إذن، والحالة هذه، أن نرى ترامب وكروز يتلاعبان بصفوف اليمين الأصولي الأميركي وصنوفه، والوقائع المستجدة من باريس إلى بروكسل تخدمهم، وما عليهم إلا أن يصوروا للناخب الأميركي اليميني، حال الأعداء من المسلمين خاصة، المتربّصين بهم عند كل ركن وخلف كل منعطف. أولئك الذين لهم رسالة واحدة، هي قتل الحضارة الغربية، والقضاء على المسيحيين حول العالم، وتصريحات «داعش» لا تعوز أحدا في هذا السياق.
ويضحى من الطبيعي هنا أن ترتفع الأصوات الساعية لاستحضار شكل الأمة وجوهرها، وقيم العائلة الأميركية التقليدية «المسيحية»، ومن ثم إعادتها إلى نقائها الأصيل واستقرارها الأصلي، كما يزعمون، وهي رؤية تخدم أصحاب ثقافة الحرب، الوثيقي واللصيقي العلاقة باليمين الأصولي الأميركي، أولئك المعروفون بجماعة المجمع الصناعي العسكري الأميركي، الذين تخدم صراعات المطلقات حروبهم، وتزيد من ثرواتهم.
في كتابه «الصراع على الله في أميركا» يحدثنا جيكو موللر - فاهرنهولتز، اللاهوتي الألماني والباحث المستقل، الذي عمل مستشارا لحركة وحدة الكنائس العالمية عن حقيقة أن قرابة ثلث السكان في الولايات المتحدة يعيشون أفكارا وممارسات أصولية، إذ تهيمن الكنائس الوطنية الكبرى المغالية في توجهاتها المحافظة، وزعماؤها على محطات الإذاعة والتلفزيون في شتى أرجاء البلاد، والتي تغذي الانطباع بأن أميركا في حالة حرب تدافع فيها عن نفسها بعناد في مواجهة أعداء يتمتعون بقوة ساحقة داخل الوطن وخارجه.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».