من كروز إلى ترامب.. التوظيف السياسي لتفجيرات بروكسل الأخيرة

أميركا «الأنتروبية» والفرار إلى الراديكالية الدينية

إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
TT

من كروز إلى ترامب.. التوظيف السياسي لتفجيرات بروكسل الأخيرة

إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)
إجراءات أمنية مشددة أمام إحدى المحاكم التي تنظر قضايا التفجيرات الأخيرة في بروكسل (أ. ف. ب)

مع تقدم حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية يتزايد التوظيف السياسي للدين، والعزف على أوتار الأصولية الدينية اليمينية المسيحية، بنوع خاص في الولايات المتحدة. ويبدو من سوء الطالع أن أحداثا بعينها أضحت تزخّم هذا التوظيف عملا بمقولة «أبي البراغماتية السياسية» التي توظف الأديان والإنسان لخدمتها، نيكولا مكيافيللي «الدين ضروري للحكومة، لا لخدمة الفضيلة». ولعل أبرز هذه الأحداث، العمليات الإرهابية الأخيرة التي كان مدينة بروكسل، عاصمة بلجيكا والاتحاد الأوروبي، ومقر حلف شمال الأطلسي «ناتو».
جاءت أحداث الإرهاب الأخيرة في العاصمة البلجيكية بروكسل بمثابة جائزة على طبق من ذهب للمتنافسين في سباق الرئاسة الأميركية. ويلحظ المرء هنا أن التوظيف المشار إليه يكاد ينحصر في الحزب الجمهوري الذي بات يدغدغ مشاعر التيارات المسيحية الإنجيلية، عطفا على بعض غلاة اليمين من التيارات الكاثوليكية المتشددة. وهؤلاء يشكلون، ولا شك، مفتاحا جوهريا في طريق الوصول إلى البيت الأبيض، وتجمعهم في واقع الحال رؤية دينية واحدة، ومصالح اقتصادية مرتبطة ارتباطا جذريا بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي، المحرك الأول والرئيس للحروب حول العالم، وإن ارتدت زيا دينيا منخولا.
يتوجب علينا، ربما قبل الخوض في عملية تحليل المضمون لواقع الحال الديني الأصولي اليميني الأميركي، الذي قاد الولايات المتحدة في سنوات إدارة رونالد ريغان وتحكّم بمواجهته مع الاتحاد السوفياتي، والذي استعلن كذلك في أيام جورج بوش الابن وأدى إلى المواجهة مع طالبان في أفغانستان، ثم غزو العراق، يستوجب، ولو في اختصار غير مخل التأصيل للظاهرة.
يمكننا القول: إن تعبير «الأصولية» نُحت في عام 1920 في الولايات المتحدة على يد القس المعمداني والصحافي كورتيس لي لوز، الذي تعهد بأن المؤمنين «سيخوضون معركة حامية الوطيس من أجل الأصول». ولعل المتابع المحقق والمدقق للحياة الفكرية في الولايات المتحدة طوال العقدين الماضيين يرصد سلسلة مؤثرة من المقالات لمائة كاتب من مختلف المشارب والتوجهات الدينية، ركّزت على العناصر المفتاحية في الدين المسيحي، بعنوان «الأصول» شهادة على الحقيقة، وقد مثل هؤلاء الكتاب حركة قوية بين البروتستانت المحافظين والإنجيليين رفضت انتشار التفسيرات التاريخية - النقدية للكتاب المقدس، وعدت طرائق التفسير الجديدة خيانة للحقيقة المطلقة للإنجيل.
وفي الوقت ذاته، كان هؤلاء الأصوليون الأوائل يردّون بشكل صارم وسلبي على النزعات الليبرالية والشيوعية، وغيرها من النزعات الملحدة التي تزايدت وانتشرت في المجتمع الأميركي.
أما تعبير «أصولية» فقد وعد بتوفير أرضية آمنة للمؤمنين بالكتاب المقدس، والمتشبثين بإيمانهم وبقوة مبادئهم الأخلاقية، والملتزمين بالوقوف بصلابة في وجه نزعات الانحطاط والانحلال في العصر الحديث. والثابت، أن تيار الأصولية اليمينية يتجلى بنوع خاص في أوساط الجمهوريين الأميركيين الذين يميلون إلى تشكيل سبيكة النسيج الاجتماعي الأميركي للمؤمنين، بخلاف الديمقراطيين الذين تعد العلمانية حجر الزاوية بالنسبة إليهم. ومن هذا المنطلق، يمكن فهم مواقف كل من دونالد ترامب وتيد كروز المرشحين الأبرز الساعيَين للحصول على بطاقة الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية القادمة.
إذا توقفنا أمام ترامب، الذي يعد ظاهرة مثيرة للجدل على الساحة السياسية الأميركية والذي يشكل حجر عثرة، لا نقطة ارتكاز للأميركيين عادة وللجمهوريين خاصة، نجد أنه يغازل التيارات اليمينية المسيحية، التي تؤمن بفكر المطلق الأصولي. ذاك الذي يقصي الآخر مرة وإلى الأبد. وبصراحة العبارة، غالبا ما تدور الدوائر حول الآخر «المسلم» تحديدا، وبالعزف على أوتار الإسلام السياسي، كأحد المصادر الرئيسة للإرهاب في تفسير اليمين الأميركي الديني وتبريره، وحتى لو لم يكن ترامب نفسه مؤمنا أو طقوسيا، إنما هي «الميكافيللية» بعينها.
والواقع، أنه منذ بداية حملته الانتخابية وضع ترامب يده على الجرح الذي لا يزال مفتوحا عند الأميركيين، والمتمثل في العلاقة مع المسلمين في الداخل والخارج. ولقد خيل لكثيرين، أن عقد ونصف العقد من الزمن منذ أحداث سبتمبر (أيلول) 2001. فترة كفيلة بمداواة جرح واشنطن ونيويورك. لكن ما جرى في باريس وبروكسل، أعطى ترامب فرصة ذهبية للسيطرة على مقدرات ملايين الأميركيين، أو في أضعف الأحوال محاولة الهيمنة عليها وتوجيهها إلى صناديق الاقتراع لانتخابه رئيسا للبلاد.
لقد طالب ترامب بإغلاق أميركا في وجه «المسلمين الجدد»، إن جاز التعبير، أي القادمين إليها لاجئين أو مهاجرين. وقال، إنه سيفكر بجدية في إغلاق عدد من المساجد، ووضع عدد آخر تحت المراقبة. وأبعد من ذلك، تعهد بأنه حال الوصول إلى البيت الأبيض سيصدر هويات شخصية خاصة بالمسلمين، وربما يمضي في طريق إنشاء قاعدة بيانات لتسجيل جميع المسلمين المقيمين في أميركا وتتبعهم.
وفي أعقاب حادثة بروكسل، شكك ترامب في وطنية المسلمين الأوروبيين والأميركيين معا، واصفا إياهم بمعنى قريب من «الخيانة»، إذ إنهم «لا يبلغون عن الأنشطة المثيرة للريبة، وإن قادت إلى وفاة الناس في عمليات إرهابية».
يعلم ترامب جيدا، وكذا العقول المفكرة في حملته، أن هذه الاتهامات سيتلقفها ربع الراشدين من الشعب الأميركي تقريبا الذين ينحون إلى اليمين المسيحي، والعهدة هنا على الراوي، البروفسور وليم مارتن، أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة رايس الأميركية.
ويرصد كذلك الكاتب الأميركي، داميان طومسون، في كتابه «نهاية الوقت - العقيدة والخوف في ظل الألفية»، أن نسبة نمو المسيحية الإنجيلية في أميركا تزيد على أي اتجاه ديني آخر في العالم. وتؤكد صحة هذا الكلام الدراسة التي نشرت يوم 13 مايو (أيار) عام 2015. الصادر عن مركز بيو للأبحاث في واشنطن، إذ أشارت إلى أن الإنجيليين الأميركيين الذين تتجاوز نسبتهم ربع الأميركيين في ازدياد عددي، كما أن المسحة الدينية لأميركا بشكل عام تبدو واضحة، إذ يعرّف 70 في المائة من الأميركيين أنفسهم بوصفهم مسيحيين.
أما العالم الأميركي البروفسور جون غرين، من جامعة أكرون، فيقدر عدد الذين يتمسكون بالأصولية الإنجيلية الساعية للمواجهة الحتمية بين «الذين معنا والذين ضدنا»، وحالة التقابل المانوي التاريخي، بين «مدينة الله» و«مدينة البشر»، أو بالمفهوم الإسلامي «دار الحرب» و«دار الإسلام»، بنحو 62 مليون أميركي.
وما يلفت النظر في الحديث الخطابي الانتخابي لترامب، أن مفرداته تكاد أن تتطابق مع العبارات ذاتها التي تفوه بها من قبل بضع سنين بوش الابن، فترامب يصرح الآن بأن الله ـ وحاشا لله بالطبع - «اختارني لإنقاذ الأمة من العابثين بها». هو الخطاب نفسه، الفوقي الثيولوجي المنحول لبوش الابن في حديثه عن غزو العراق، وكيف أن السماء قد كلّفته دون البشر، بهذه المهمة. ولم يكن غريبا عليه ذلك، فقد ثبتت والدته باربارا بوش في مخياله الفكري قبل عقود أن شبها ما يربط بينه وبين النبي موسى. وكما أن موسي أخرج العبرانيين من أرض مصر، فإن بوش قادر على إخراجهم من وهدة الليبرالية وضلال العلمانية، إلى نور الدوغائية المسيحية المتشددة، الأمر الذي أثبتت التجربة والحكم فشله فشلا ذريعا.
لا يتوقّف الزخم اليميني الأميركي عند ترامب، بل يمضي كذلك لجهة مرشح آخر، من الجمهوريين كذلك، وحتى وإن لم تكن حظوظه، راهنا، تطال حظوظ ترامب، غير أنه، حكما، سيكون له دور بارز على خريطة الحياة السياسية الأميركية في المستقبل.
نتحدث هنا، ولا شك، عن السيناتور تيد كروز، المحامي المثقف والآيديولوجي صاحب المنهجية والكاتب المثقف خريج كبريات الجامعات الأميركية، والمحامي التكساسي، الذي يعد أكثر خطورة من ترامب العشوائي التفكير. لم تبدأ مغازلة كروز للتيار اليميني المسيحي مع هذه الحملة الانتخابية الرئاسية، وهذا يدلل على أنه صاحب رؤية زمنية مرتبة وواضحة منذ وقت بعيد. ورغم مواقفه الحديثة، فإن الأخطر في تواصله مع اليمين الأميركيين يرجع إلى الوراء وبقوة.
وطبعا، ما كان كروز ليفوّت فرصة حادثة بروكسل ليثير مشاعر الخائفين في الداخل الأميركي، ولهذا رأيناه يدعو السلطات الأميركية إلى منح دوريات الشرطة صلاحيات أكبر لمراقبة الأحياء التي تقطنها غالبية مسلمة، تجنبا لظهور نزعات راديكالية فيما بينهما.
وفي تدويناته على وسائط الاتصال الاجتماعي بعد ساعات من مأساة بروكسل، كان من الواضح جدا أننا أمام نسق للتفكير «الهنتنغتوني» (نسبة للمؤرخ صامويل هنتنغتون) الصدامي، إن جاز التعبير. إذ عدّ أن العالم بالفعل مقسّم لمعسكرات ثقافية وحضارية بين «نحن» و«هم». ولهذا كتب كروز يقول: «إننا جزء من ثقافة لا يحتملونها، ولهذا تعهّدوا بتدميرها. والآن يشهد حلفاؤنا الأوروبيون ما نتج من المزيج السام للمهاجرين الذين تداخل معهم الإرهابيون».
هذا الطرح، بلا شك، يلقى هوىً واسعا داخل صفوف اليمين الأميركي الرافض لاستقبال مزيد من المهاجرين من جهة، ويقلص من مساحات الوصل والتواصل مع المسلمين الوطنيين والمواطنين الطبيعيين في الداخل الأميركي، بل يضع العصا في دواليب التعايش السلمي بين الجميع، وبذا يحقق فكرة التمايز العنصري الثقافي والحضاري والديني في نهاية الأمر.
أما عن القديم في آليات كروز، فيتمثل في محاولاته الدءوبة لاستمالة غلاة اليمين المتطرف من مسيحي الولايات المتحدة عبر «كعب أخيل» في الفكر الديني الأميركي، أي إسرائيل والرؤى التوراتية، التي تشكل جدارا سميكا لليمين الأصولي.
ذلك أنه في الحادي عشر من سبتمبر من عام 2014. كانت العاصمة الأميركية واشنطن تستضيف مؤتمرا «للدفاع عن مسيحيي الشرق الأوسط». وفي تلك الليلة، كان السيناتور كروز أحد المتحدثين الرئيسين في اللقاء، ولقد استغل الفرصة لتوجيه هجمات إلى تيار المسيحيين العرب الذين يرون في إسرائيل دولة احتلال و«فصل عنصري»، والذين يرفضون واقع الدعم الأميركي لإسرائيل.
ولم يكن في واقع الحال شأن المسيحيين العرب، قضية تهم كروز في كثير أو قليل، بل كان الأمر بمثابة تقديم مسوّغات قبول لليمين الأصولي الأميركي الذي يرتكن ارتكانا مطلقا على «العهد القديم» والذي يرى في الأرض الأميركية «أرض كنعان الجديدة»، وفي الأميركيين «الشعب المختار الجديد».
ومنذ بضعة أسابيع، أطلقت بعض الأصوات المعروفة بعمق تحليلها للشؤون الأميركية عبر عقود طوال، على الانتخابات الرئاسية للعام 2016 وصف «الانتخابات الهرمجدونية» والمعروف أن «هرمجدون» (أو آرماجدون) هي قمة الحبكة الدرامية للرواية اليمينية الإنجيلية، البروتستانتية، التي تداخلت بشكل كبير مع عالم السياسة الأميركية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وصولا إلى بوش الابن، وها هي كما نرى تتصل بترامب وكروز.
«هرمجدون»، للذين لا يعلمون، هي فكرة الحرب الكونية التي لا بد لها أن تحدث بين «جيوش الشر» القادمة من الشرق، و«جيوش الخير» الآتية من الغرب، والمدينة المقدسة أورشليم القدس هي موقعها وموضعها. وتدخل الفكرة برمّتها في سياق ما يعرف بالتفكير «الأبوكاليبسي» عند غلاة اليمين المسيحي من جديد، وتأتي استعلانا «أسكاتولوجيا» يتصل بنهاية الأزمنة وقيام الساعة.
هذه الفكرة روج لها رونالد ريغان، وجراءها طرح مشروعه المعروف بـ«حرب النجوم»، وبسببها حرّك بوش الابن جيوشه إلى أفغانستان والعراق شرقا، ولهذا يرقص من حولها ترامب وكروز، واضعين التقسيم المؤلم لصامويل هنتنغتون من جديد، معسكر إسلامي – كونفوشيوسي شرقي، في المواجهة مع عالم مسيحي - يهودي غربي من ناحية أخرى.
وتاريخيا، تزداد وتيرة الأصولية مع الأزمات. ولقد ارتفع المد الأصولي الأميركي إلى عنان السماء في أعقاب الخسائر الفادحة التي حلت بالأميركيين في حرب فيتنام في ستينات القرن المنصرم. وعدّ الأميركيون يومذاك، أن يد الله تخلت عنهم، في حين ساندت دولة إسرائيل الصغيرة، التي، رغم عدد سكانها القليل جدا وإمكاناتها التي لا تقارن البتة مع قدرات أميركا العظمى، استطاعت أن تحتل من أراضي العرب والمسلمين في ست ساعات. ومن ثم استنتج هؤلاء أن «الرب يناصر الإسرائيليين ويتخلى عن الأميركيين الذين غرقوا في الحداثة، وما من حل إلا العودة إلى الأصول الدينية من جديد»، وهو ما جرت به المقادير فعلا وقولا.
اليوم تجد الولايات المتحدة ذاتها في أزمات هوية، تولّدت عن إشكاليات اقتصادية وسياسية وفكرية، وحيرة حول الهوية بين الدولة العلمانية بحكم الدستور والدولة الدينية في واقع الحال.
ولعل الإقبال على ترامب والتصويت له ليس إلا تعبيرا عن حالة أميركا «الأنتروبية»، المليئة بالقلق والملل، المضطربة والقلقة نهارا والمؤرقة ليلا، ولهذا ربما يجيء اختيار ترامب نوعا من أنواع العقاب من الطبقة الوسطى الأميركية للنخبة السياسية الزائفة. هذه الطبقة بطبيعة الحال، لا دالة لها على عمق البحث الفكري أو الديني لتبيان «الغي من الرشد»، ولهذا تشكل القاعدة العريضة لأصحاب «الإيمان المغلق»، أي غير القابل للمناقشة أو المجادلة، إيمان الأصوليين، الذين يقال لهم يمينا يمينا، أو يسارا يسارا.
وليس من المفاجئ إذن، والحالة هذه، أن نرى ترامب وكروز يتلاعبان بصفوف اليمين الأصولي الأميركي وصنوفه، والوقائع المستجدة من باريس إلى بروكسل تخدمهم، وما عليهم إلا أن يصوروا للناخب الأميركي اليميني، حال الأعداء من المسلمين خاصة، المتربّصين بهم عند كل ركن وخلف كل منعطف. أولئك الذين لهم رسالة واحدة، هي قتل الحضارة الغربية، والقضاء على المسيحيين حول العالم، وتصريحات «داعش» لا تعوز أحدا في هذا السياق.
ويضحى من الطبيعي هنا أن ترتفع الأصوات الساعية لاستحضار شكل الأمة وجوهرها، وقيم العائلة الأميركية التقليدية «المسيحية»، ومن ثم إعادتها إلى نقائها الأصيل واستقرارها الأصلي، كما يزعمون، وهي رؤية تخدم أصحاب ثقافة الحرب، الوثيقي واللصيقي العلاقة باليمين الأصولي الأميركي، أولئك المعروفون بجماعة المجمع الصناعي العسكري الأميركي، الذين تخدم صراعات المطلقات حروبهم، وتزيد من ثرواتهم.
في كتابه «الصراع على الله في أميركا» يحدثنا جيكو موللر - فاهرنهولتز، اللاهوتي الألماني والباحث المستقل، الذي عمل مستشارا لحركة وحدة الكنائس العالمية عن حقيقة أن قرابة ثلث السكان في الولايات المتحدة يعيشون أفكارا وممارسات أصولية، إذ تهيمن الكنائس الوطنية الكبرى المغالية في توجهاتها المحافظة، وزعماؤها على محطات الإذاعة والتلفزيون في شتى أرجاء البلاد، والتي تغذي الانطباع بأن أميركا في حالة حرب تدافع فيها عن نفسها بعناد في مواجهة أعداء يتمتعون بقوة ساحقة داخل الوطن وخارجه.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟