خلافات جديدة بين طالبان و«الحزب الإسلامي» تضعفهما معًا

حربها الداخلية تضعفها أمام الجيش الأفغاني المدعوم دوليًا

عناصر من طالبان الأفغانية على حدود ولاية خوست («الشرق الأوسط»)
عناصر من طالبان الأفغانية على حدود ولاية خوست («الشرق الأوسط»)
TT

خلافات جديدة بين طالبان و«الحزب الإسلامي» تضعفهما معًا

عناصر من طالبان الأفغانية على حدود ولاية خوست («الشرق الأوسط»)
عناصر من طالبان الأفغانية على حدود ولاية خوست («الشرق الأوسط»)

تجد حركة طالبان، التي كانت صاحبة القوة التي يحسب حسابها في أفغانستان، نفسها هذه الأيام في موقف لا تحسد عليه. فهي تعاني من انشقاقات داخلية حادة، تجعلها ضعيفة في الميدان والعمل العسكري. وفي السياسة برزت أطراف وجماعات منشقة عنها، أو متمثلة في «الحزب الإسلامي» الراغب في خوض غمار العمل السياسي مع الحكومة الحالية وإنهاء الصراع. ثم إن الجيش الأفغاني، بحسب المراقبين العسكريين، أثبت أنه قادر على البقاء والصمود، وهذا ما حدث خلال السنة الماضية، حين ضغطت طالبان وألقت بثقل جميع قواها من أجل السيطرة على المحافظات والبلدات، لكنها فشلت.
بعد وفاة زعيم طالبان المؤسس المثير للجدل، الملا محمد عمر، الذي كان يلقب بـ«أمير المؤمنين» من قبل أنصاره، في نهاية يوليو (تموز) الماضي، دخلت حركة طالبان الأفغانية المتشددة مرحلة جديدة من حياتها السياسية والأمنية. إذ تصاعدت الخلافات الداخلية في صفوف قيادات الحركة، لا سيما بعد نشر أخبار تفيد بأن مساعد الملا عمر، وهو الملا أختر منصور، الذي عين خليفة له مباشرة بعد تأكد الوفاة، متورط في عملية اغتيال الزعيم الروحي للجماعة في باكستان، وأنه لم يمت موتة طبيعية.
هذه الأخبار - أو الشائعات - تناولتها مواقع أفغانية وباكستانية مقربة من طالبان على ألسنة قادة ميدانيين في الحركة، ومن مصادر مقربة من الملا عمر. وهذا ما أدى إلى انشقاقات كبيرة في صفوف طالبان، وإعلان قيادات مركزية كبيرة رفضها زعامة الملا أختر منصور، ومن ثم إعلانها قيادة جديدة وإمارة مستقلة أطلق عليها «شورى الإمارة الإسلامية» بزعامة الملا محمد رسول، وسرعان ما انضم إليه قادة بارزون في الجماعة، وسيطروا على بلدات وقرى في جنوب وغرب البلاد. ووقعت اشتباكات ضارية بين الفصيل المنشق وأنصار أختر منصور، راح ضحيتها المئات من الطرفين، تحديدا في ولاية هراة بشمال غرب أفغانستان.
وتصديقاً للقول الشهير «الثورة تأكل أبناءها»، توسعت المعارك والخلافات الداخلية في صفوف طالبان، وانتقلت بشكل سريع إلى محافظات أفغانية أخرى. وبدأت المعارك الطاحنة بين الفصائل المنشقة عن «طالبان الأم»، ونتيجة لذلك ضعفت شوكة طالبان أمام عمليات الجيش الأفغاني الذي ينشط بشن عمليات تمشيط في عدة مناطق بجنوب وشرق وشمال البلاد.
المحلل السياسي الأفغاني، نظر محمد مطمئن يقول: «إن الحديث عن عملية المصالحة مع فصيل دون غيره، أو محاولة التقرب من جماعة محسوبة على طالبان من قبل الحكومة وحلفائها دون غيرها، إشارة إلى عدم جدية قضية الحوار المنشودة. وإن الحكومة وداعميها يسعون إلى إيجاد مزيد من الشرخ والانشقاق في صفوف طالبان». وتابع: «إن التجارب السابقة كانت تشير إلى أن طالبان وحدة قوية، ولا يمكن حدوث شرخ كبير في صفوفها بحيث تتمكن الحكومة من اختراق الجدار المنيع لجماعة (طالبان الأم) التي بقيت متماسكة خلال السنوات التي تلقت فيها ضربات كبيرة من قبل قوات التحالف، لكن الوضع قد يتغير الآن».
الواقع أن طالبان لا تعاني من أزمة داخلية فحسب، وإنما تواجه خطرا آخر يمثله «الحزب الإسلامي» بقيادة قلب الدين حكمتيار، أحد زعماء المجاهدين السابقين، الذي ظل يقاتل الحكومة والقوات الدولية على مدى السنوات الـ15 الماضية، ويعتقد أنه يختبئ في مكان ما في مناطق حدودية بين أفغانستان وباكستان، وأنه يقود معارك مسلحة ضد الحكومة والحضور الأجنبي في البلاد.
بيان «الحزب الإسلامي» تطرق إلى حدوث مشكلات بينه وبين طالبان خلال السنوات الماضية من الحرب. وتحدث عن سلسلة من الاغتيالات والعمليات يزعم «الحزب الإسلامي» أن «طالبان نفذتها ضد أنصاره»، منها اغتيال كل من حاجي عبد الغفور، والمولوي رحمان غل، والمولوي هاشم، الذين قتلوا في شرق البلاد على أيدي طالبان.
هذه ليست المرة الأولى التي ينتقد فيها «الحزب الإسلامي»، أحد أطراف الصراع الداخلي بعد هزيمة الروس في أفغانستان، وزعيمه حكمتيار، سياسات طالبان، بل سبق له فعل ذلك مرات عدة. كذلك لم تقتصر الخلافات على البيانات السياسية، بل وقعت أيضا مواجهات مسلحة بين أنصار الحزب والحركة في مناطق مختلفة من البلاد، على مدى السنوات الماضية. غير أن الجديد في بيان الحزب الأخير، هو الدعوة إلى «انتفاضة» ضد طالبان التي وصفها البيان بـ«ألد أعداء المجاهدين»، وضد كل من يقف في وجه أجندات أجنبية، والتوعد بالثأر لمن قتل من أنصاره بيد الحركة.
الخلاف بين الحزب وطالبان ليس وليد الساعة، بل هناك تراكمات وخلافات كبيرة بين الطرفين، كما تجدر الإشارة هنا إلى أن التوتر بين الجماعتين يأتي في خضم حالة من الإرباك والتصدعات الداخلية في صفوف طالبان، مع استمرار المواجهات المسلحة، التي وصفتها القبائل بـ«الأعنف»، بين أنصار الملا أختر منصور، وأنصار الملا محمد رسول، في غرب البلاد. ولقد أدت المعارك خلال مارس (آذار) الماضي، إلى مقتل أكثر من 200 مسلح من الطرفين. وما زالت المواجهات متواصلة وامتدت إلى مديريات عدة بإقليم هراة بعد ما بدأت في مديرية شين دند، ذات الغالبية البشتونية.
ومن ناحية ثانية، تسود حالة من التوتر بين فصائل طالبان في إقليمي بكتيكا وغزنة، بسبب المعارك التي دارت على مدى الأسابيع الماضية بين الحركة ومجموعة تابعة لقيادي منشق عنها، يدعى عبيد الله هنر. وأعلن قيادي مهم آخر في طالبان بشمال البلاد، هو المولوي عبد السلام، الانشقاق عن الحركة والحرب عليها، مدعيا أن لديه مئات المقاتلين المستعدين للانقضاض على جماعة أختر منصور، التي يصفونها بأنها «صنيعة المخابرات الباكستانية». ووسط هذا الجو من الخلافات والصراعات الداخلية، قد يكون الصراع مع «الحزب الإسلامي» مهمة صعبة لن ترغب فيها طالبان، بل إنها لا تريد أن تكون جزءا من الصراعات الداخلية، كما تدعي الحركة في بياناتها المختلفة، وفي تعليقات لها على المواجهات الداخلية. وفي أي حال، فإن الخلافات الداخلية في طالبان، والأزمة الجديدة مع «الحزب الإسلامي» عاملان أديا إلى تعثر مساعي الحوار، على حد وصف المحللين. وفي رأي عبد الحي ورشان، الصحافي الأفغاني، فإن حركة طالبان «لم تعد حركة متماسكة بعد وفاة زعيمها، بل انشقت إلى فصائل وتوزع قياداتها وأصبح لدينا قيادات ميدانية متعددة ومتناحرة». وأضاف ورشان: «إن طالبان بعد هذه الخلافات والانشقاقات الحادة في صفوفها، صارت فريسة لتحقيق أهداف استخباراتية أجنبية، والكل بات يحاول استعمال طالبان وفصائلها الكثيرة والتناحر لصالح أهداف سياسية وأمنية». وأردف: «إن هناك طالبان وقعت في أحضان إيران، وطالبان أصبحوا موالين لروسيا في البلاد، وهمهم الآن هو التصدي لتوسع داعش في مناطق الحدود مع دول آسيا الوسطى، في شمال وشرق البلاد».
هذا، وكان من المتوقع انطلاق عملية الحوار المباشر بين طالبان والحكومة الأفغانية في الأسبوع الأول من مارس (آذار) الماضي برعاية باكستانية، غير أن طالبان رفضت في 5 مارس الحوار المباشر مع الحكومة، وأعلنت أنها لن تعود إلى الطاولة حتى إنهاء الحضور الأجنبي في أفغانستان بشكل كامل، وذلك على الرغم من التغيير في موقف الحركة أخيرا، بعد جلسات الحوار التي عقدت في العاصمة القطرية الدوحة، وإسلام آباد. وفي أول رد لها، وصفت الحكومة الأفغانية موقف الحركة بـ«الإرجاء التكتيكي»، معربة عن أملها في عودتها إلى طاولة الحوار قريبا. وكانت تصريحات نائب وزير الخارجية الأفغاني، حكمت خليل كرزاي، مهمة للغاية بهذا الشأن، وجاء فيها: «في الاجتماعات الرباعية بين كابول وإسلام آباد وواشنطن وبكين بشأن الحوار، تم الاتفاق على مشاركة أربع جماعات مسلحة في الحوار». واليوم يعتقد مراقبون أن «مشاركة تلك الجماعات هي النقطة الأساسية التي بسببها رفضت الحركة الحوار مع الحكومة، إذ إن طالبان كانت ترى أنها هي الوحيدة التي تمثل جانب الحركات الجهادية، وأن مفاتيح المعضلة الأفغانية بيدها، ولكن مشاركة جماعات أخرى كانت أسباب استياء الحركة، لا سيما وأن الحركة تزعم أن جماعتين منها معارضتان لها، ومواليتان للحكومة».
أما الجماعات الأربع المعنية فهي:
1- حركة طالبان، التي يطلق عليها البعض تسمية «جماعة الملا أختر منصور» خليفة الملا عمر، وعلى الرغم من أن منصور من مؤيدي عملية السلام مع الحكومة، إلا أنه يعاني داخل التنظيم من معارضة قيادات مهمة للحوار، مثل عبد القيوم ذاكر، رئيس المجلس العسكري السابق. ويخشى منصور من أن يؤدي استئناف عملية السلام إلى تجديد الخلافات. كذلك ترغب الحركة في أن تكون الجهة الوحيدة التي تمثل التنظيمات الجهادية في الحوار مع الحكومة. وبسبب ترددها تدهورت العلاقات بينها وبين إسلام آباد، إذ إن ثمة تقارير تشير إلى قيام الأخيرة بحملة ضد بعض قيادات الحركة، وقد اعتقلت 14 شخصا منهم في إقليم بلوشستان مؤخرا.
2- جماعة «شورى الإمارة الإسلامية»، المنشقة عن طالبان والتي تتمتع بنفوذ واسع في جنوب وجنوب غربي البلاد، وتضم قيادات مهمة ومن مؤسسي طالبان، مثل الملا عبد المنان نيازي والملا رسول نفسه.
3- «الحزب الإسلامي» بقيادة قلب الدين حكمتيار، خصوصا مع إعلان استعداده للحوار مع الحكومة، وربما بشروط أسهل من شروط طالبان.
4- «شبكة حقاني» المتهمة أفغانيا بأنها ترعى المصالح الباكستانية، وتعد مقربة من تنظيم «القاعدة». وهذه تعد من أكثر الجماعات تنظيما بين الجماعات المسلحة المناهضة للحكومة الأفغانية، وهي أيضا من أقرب الجماعات المسلحة إلى الاستخبارات الباكستانية. وعلى الرغم من قربها من طالبان، فإنها تتبع سياسات مختلفة تماما.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.