الصينيون يسألون وهم يبتكرون الإجابات: ما الفن؟

15 فنانًا معاصرًا يعرضون في غاليري «الرواق» في الدوحة

إحدى لوحات المعرض
إحدى لوحات المعرض
TT

الصينيون يسألون وهم يبتكرون الإجابات: ما الفن؟

إحدى لوحات المعرض
إحدى لوحات المعرض

قليلاً ما نرى فنًا تشكيليًا صينيًا في المنطقة العربية، باستثناء بعض المعروضات في المناسبات الكبرى، وتبقى متفرقة، لا تعطي فكرة وافية عما يدور في ذاك البلد الذي بدأ يتحول إلى قوة اقتصادية عظمى. هذه المرة وبمناسبة العام الثقافي قطر - الصين، تستقبل الدوحة معرضًا كبيرًا في غاليري «رواق» الفسيح على بعد خطوات من «المتحف الإسلامي»، يشارك فيه نحو 15 فنانًا صينيًا، بإشراف الفنان الشهير تساي جوه تشانج، الذي قضى ثلاث سنوات لاختيار فنانين، لهم وجهات وأساليب ورؤى مختلفة، بمقدور إبداعاتهم أن تعكس التيارات المعاصرة في بلاده، على تنوعها، بدءًا من تلك التي واكبت الثورة الثقافية مرورًا بالحركات التجديدية وصولاً إلى الانفتاح الحاصل اليوم. وإلى جانب الأعمال المعروضة التي تتوزع بين الرسم والنحت والفيديو والتجهيز وألعاب الفيديو، وضع تساي كتابًا ضخمًا من 524 صفحة، لمواكبة المعرض، يشرح بوضوح ممتع: «ما الفن المعاصر الآتي من الصين؟» مجريًا مقابلات مع الفنانين المشاركين، يتحدثون فيها عن تجاربهم والأعمال المعروضة في الدوحة التي نفذ بعضها خصيصًا لهذه المناسبة. وإذا كان من نقد يوجه إلى هذا الكتاب فهو أنه صدر على أهميته ومكانة كاتبه، باللغة الإنجليزية، وكانت الضاد أولى به، خصوصًا أنه يصدر برعاية «هيئة متاحف قطر» وموجه لزائر المعرض بشكل خاص. ولعل ترجمته تسعف في تعريف أهل المنطقة بما خفي عليهم.
أبرز المعروضات، تجهيز ضخم بحجم غرفة، هو عبارة عن خزان حديدي صلد بطول 14 مترًا وزنة 40 طنًا، بالإمكان رؤية داخله من خلال نوافذ زجاجية مستديرة، كالتي نراها في البواخر. في وسط الخزان خرطوم كاوتشوكي، أشبه بفم فيل يبقى متدليًا، ثم لا يلبث أن ينتصب فجأة حين تتدفق فيه المياه بقوة جبارة، وتبدأ تضرب في كل الاتجاهات، محدثة صوتًا مزلزلا، وهي ترشق بعنف النوافذ الزجاجية، التي منها يرى المتفرج هذا الجنون المائي الدفاق. لا يمكنك أن تفهم هذه الفكرة الغريبة وأهميتها إلا حين تعرف أن التجهيز، يحمل اسم «الحرية». وكأنما صاحبا العمل الفنانان سون يوان وبينغ يو، المولودان في مطلع سبعينات القرن الماضي، وكانا طالبين أثناء مظاهرات تياننمن الشهيرة عام 1989 يعبران عن إحساسهما العميق بأن الكبت لا يطول قبل أن تنتصر الحرية، التي لا يمكن سد منافذها.
كل صالة في «الرواق خصصت لفنان له هواجسه، وأسلوبه. المزارع هو جيجيون، حالة فريدة (65 عامًا) يعرض للمرة الأولى كفنان محترف، هو ابن الأرض حيث خبرت يداه الطين لعقود طوال، ومنه صنع 600 تمثال صغير غير مصقول لشخصيات وحيوانات وأشياء بنى منها عالما فرشه على درج صلصالي متدرج بحجم نصف صالة. المنحوتات تجسد ما استوحاه جيجيون من لوحات ومنحوتات وفيديوهات وتصاميم معمارية، من الفن الصيني. إنه عمل أشبه بالملاحم الشعرية، التي تعج بالمخلوقات والحكايات المتداخلة، والأحداث، وتحتاج إلى أن تتأملها بعناية، ولطويل وقت، كي تتابع أحداثها.
تظهر بوضوح عند الفنانين المخضرمين محاولة للخلط بين الرسم التقليدي الصيني وتقنيات مستحدثة، وهو ما قام به جوبينغ، عارضًا لوحة طويلة بحجم نصف صالة، لمعبد شانغفانغ مرسومًا على زجاج مضاء. أهم ما في العمل تقنياته، حيث بمقدورك أن تعاين اللوحة من الخلف وتشاهد المعدات التي استخدمت لإنجازها، وتكتشف أنه إضافة إلى الألوان الزيتية والمصابيح تم استخدام أكياس من النايلون بألوان مختلفة، لتزويد اللوحة الزجاجية الخلابة بأبعاد جديدة، غير معتادة.
عمل لافت آخر، شديد الضخامة، يتوسط المعرض، هو للفنان هوانغ يونغبينغ، فوسط قاعة كبيرة يقف مخلوق يشبه الكائنات الأسطورية، وكأنه يحلق عاليًا، وتمتد أذرعه لتلتف على الأعمدة الثمانية المحيطة بالصالة. إنه وحش البحر الذي يزن 40 طنًا، وحوله تتناثر علب معدنية، وطيور وأسماك ميتة، وفضلات بحرية. وقد وضع هذا الفنان الذي خبر التلوث البيئي في بلاده، ويقيم حاليًا في باريس، عمله كإنذار لما يمكن أن تتسبب فيه الانبعاثات من دمار.
يحاول المعرض الذي يستمر حتى 16 يوليو (تموز) المقبل، أن يقدم فكرة عن التيارات الفنية المختلفة لأجيال متلاحقة. فثمة بين الفنانين من عايش الثورة الثقافية التي بدأت في الصين عام 1949، وقاوم نهجها التسلطي، وهناك أولئك الذين شكلوا ما يعرف بتيار الموجة الجديدة 85 ووصل إلى ذروته عام 1989. من هؤلاء جو جين، الفنان المقيم في شنغهاي، الذي له تقنية باهرة، تجعل لوحاته ثلاثية الأبعاد، سواء تلك التي استخدم فيها أكياس الكريمة التي تستخدم عادة لتزيين الجاتو، لينثر ألوانه الزيتية على اللوحة، لتبدو نافرة غريبة، خصوصًا عندما تكون بمتدرجات اللون الأحمر وصولاً إلى الأبيض، أو حين يقدم لوحة كبيرة أشبه بجدارية مشغولة بالقماش النافر. فالأشخاص كما الحيوانات والحقائب والسيوف والملابس، في هذه الجدارية التي تضج بالحياة، كلها قماشية ومحشوة ونافرة. متعة للنظر أعمال هذا الفنان. ومن غرائب المعرض عمل تركيبي حمل اسم «حديقة القمر» للفنان ليانغ شاوجي ويحكي قصة صعود وانهيار الحضارات العتيقة في الهلال الخصيب، من خلال صفيحتين مقوستين تشكلان معًا مشهدًا لنهر متعرج، وعلى الأرض المغطاة بالرمل 30 جسمًا حادًا هي عبارة عن سكاكين، وسيوف تم تغليفها بخطوط الحرير الأبيض. واحتاج هذا العمل لتغطية الصفيحتين والأجسام الحادة، بحسب المنظمين، إلى 37 ألف دودة قز، أنتجت الحرير على مدى سنتين.
الأعمال يصعب الحديث عنها جميعها، لوحات حديقة الخوخ، للفنان جو تشونيا، بألوانها المزهرة، تغطي مساحة كبيرة من حيطان إحدى الصالات، وكان يتمنى الفنان بحسب ما يقول، أن يملأ جدران القاعة كلها بزهر شجر الخوخ، خصوصًا أن هذه النبتة بالإضافة إلى شجر الكرز موضع احتفاء الصينيين ورعايتهم، أكثر من أي أشجار مثمرة أخرى.
من الفنانين الشباب الذين تلفت أعمالهم في المعرض جو بينغ (مواليد 1981) يقدم ألعاب فيديو، تنم عن حساسية عالية، ومشاعر رقيقة. ألعاب لا تشبه في أي حال، بشاعريتها، تلك الأميركية الهوية. فالفنان الذي ترك بكين إلى أميركا، دُهش للمساحات الخضراء التي وصل إليها بعد أن كان حبيس الاكتظاظ السكاني، وهو بهذه اللعبة التي تشبه مطاردة عناصر الطبيعة واللعب معها، يعبر عن احتفائه الشديد بالحياة، وما يشبه التحية للدولة المضيفة، وربما هذا ما يظهر الجانب الشرقي الروحاني من شخصيته. أما ليو جياودونغ، فقد رسم لوحات ظريفة، من وحي الأجواء القطرية، يظهر في إحداها وزير الثقافة القطري السابق حمد بن عبد العزيز الكواري، مع زوجته وأولاده، في مشهد عائلي طريف، قليلاً ما يمكن أن نراه لمسؤول رسمي في دولة خليجية.
ثمة أعمال شديدة الحداثة مثل التجهيز الذي أعدته جنيفر وين ما. هذه الشابة الصينية الآتية من تجربة أميركية، تقدم تجهيزًا عبارة عن غرفة كاملة جدرانها مغطاة بطبقة رمادية، علق في سقفها كرتان زجاجيتان إحداهما سوداء وأخرى بيضاء، تتأرجحان في السقف محدثتين رنينًا موسيقيًا متناسقًا، لكنهما لا تلتقيان أبدًا. وهو ما تعتبره الفنانة اللقاء المستحيل بين حبيبين أُجبِرا على الفراق.
المعرض الصيني في الدوحة على كبره، وضخامة بعض تجهيزاته، يستحق عناء نقله إلى أكثر من دولة عربية، لتعريف أهل المنطقة، بما يحدث شرقهم بدل أن يبقوا حبيسي الغرب وحداثته. لم يعد الفن الصيني المعاصر صينيًا بالمعنى التقليدي القديم للكلمة، وهو ما يعتبره أمين المعرض تساي «استفزازيًا للبعض، لأن هناك من شكل عن الصين رأيًا مسبقًا ولا يريد أن يراها إلا من خلاله».



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.