يوسوفو.. وحلم الاستقرار

رئيس النيجر يبدأ فترته الرئاسية الثانية وسط تحديات الأمن والهدوء والتنمية

يوسوفو.. وحلم الاستقرار
TT

يوسوفو.. وحلم الاستقرار

يوسوفو.. وحلم الاستقرار

نيامي، عاصمة جمهورية النيجر، مدينة هادئة ووديعة، ترقد على ضفة نهر النيجر، ذلك المجرى المائي الذي يشق الصحراء الكبرى وعلى خاصرته يحمل أبرز المدن العامرة في منطقة الساحل الأفريقي؛ ويحكي هذا النهر قصة منطقة ظلمتها الجغرافيا وأقعدها تاريخها المؤلم، ويخيّم على مستقبلها شبح حروب لا تتوقف، من حرب عاجلة على الإرهاب إلى حروب مؤجلة ضد الفقر والأمية والمرض. وفي قلب هذه المنطقة تقع الجمهورية التي أعطاها النهر اسمه، والتي ارتبطت في أذهان الكثيرين بالمجاعات، والكثير من الانقلابات والصراعات السياسية التي لا تنتهي. لكن النيجر اليوم تتأهب للوقوف على قدميها بعد إعادتها انتخاب رئيسها محمدو يوسوفو، وهي تحلم بالاستقرار وأن لا تستفيق بعد فترة قصيرة على انقلاب عسكري أو بعد أيام على هجوم إرهابي. الاستقرار من ضمن أحلام أخرى كثيرة يتوجب على يوسوفو، وهو مهندس المعادن وخبير الرياضيات، أن يعيد حساباته ويرتب أوراقه ليحقق ولو جزءًا يسيرًا منها.
في قلب العاصمة النيجرية نيامي يتربع القصر الجمهوري بطابعه المعماري المميز وألوانه الصفراء ذات السحنة الصحراوية التي تجعله منتميًا لبيئته، ويستقبل هذا القصر محمدو يوسوفو من جديد رئيسًا للنيجر على مدى خمس سنوات مقبلة، سيجلس خلالها داخل هذا القصر ليدير شؤون واحد من أفقر بلدان العالم وأكثرها تحديات أمنية وسياسية واقتصادية.
في السنوات الخمس الماضية يرى يوسوفو أنه حقق المطلوب ووضع الأسس الضرورية لمشروع «النهضة» في النيجر، فيما يتطلع لتكون السنوات الخمس المقبلة مليئة بالعمل الذي يبدأ بطي الخلافات السياسية ومد يد الهدنة والتصالح مع المعارضة، فبعد أيام من إعادة انتخابه أعلن استعداده للحوار معها ونيته تشكيل حكومة ائتلاف وطني؛ خطوة ذكية من خريج كليات الهندسة والعلوم في فرنسا، ومن رجل يرتبط بعلاقات وطيدة مع دوائر الحكم في قصر الإليزيه الفرنسي.
سيرة شخصية
ولد الحاج محمدو يوسوفو عام 1952. عندما كان النيجر كيانًا يرزح تحت الاستعمار الفرنسي، في منطقة تاهوا، وهي منطقة تقع على بوابة منطقة الساحل الأفريقي، في منتصف المسافة ما بين العاصمة نيامي بأقصى جنوب النيجر، ومدينة أغاديز في أقصى الشمال. ولقد تربى يوسوفو وسط خليط من الإثنيات التي تعايشت لعدة قرون في تاهوا، من قبائل الهوسا - التي تشكل غالبية سكان النيجر - إلى قبائل السونغاي والجورمانتشيه الأفريقية، ثم العرب والطوارق والتبو. إنها مزيج من الشعوب والثقافات احتك بها الرجل فجعلته من أكثر الشخصيات في النيجر إلمامًا بالخلطة السحرية للمجتمع النيجري؛ وحقًا يتوجب على مَن سيحكم هذا البلد الأفريقي أن يدرك أدق التفاصيل حول كل قبيلة على حدة، فهذا البلد يُحكم بمزاج القبيلة وسخاء السماء.
تلقى يوسوفو تعليمه الابتدائي والإعدادي في منطقة تاهوا، قبل أن ينتقل إلى العاصمة نيامي حيث التحق بالثانوية ليحصل عام 1971 على شهادة البكالوريا في شعبة الرياضيات. وعندما كان الجفاف يضرب البلاد ليهز أركان حكم الرئيس المؤسِّس هاماني ديوري، كان يوسوفو مراهقًا يرتاد مركز التعليم العالي بنيامي حيث تخرج بشهادة جامعية في الدراسات العلمية في الرياضيات والفيزياء عام 1973. وبالتزامن مع الانقلاب العسكري الأول في تاريخ البلاد، عام 1974، كان يوسوفو يحضر لشهادة الليسانس (الإجازة الجامعية) في الرياضيات التي حصل عليها عام 1975.
ثم، مع بداية الحكم العسكري في النيجر، توجّه يوسوفو إلى فرنسا لمواصلة دراساته العليا، وهي رحلة ستقوده إلى أروقة جامعة العلوم والتقنيات في مدينة مونبلييه الجامعية العريقة بجنوب فرنسا ما بين عامي 1975 و1976 حيث نال شهادة الماجستير في الرياضيات والتطبيقات الأساسية. ثم بعد ذلك إلى جامعة «باريس 5» حيث حصل على شهادة الدراسات المعمّقة DEA في الاحتمالات والإحصاء عام 1977. ومنها إلى المدرسة الوطنية العليا للمعادن في مدينة سانت إتيان ليتخرج فيها مهندسًا مدنيًا متخصصًا في المعادن عام 1979.
من الرياضيات والفيزياء إلى هندسة المعادن، مرورًا بالاحتمالات والإحصاء، أصبح الشاب النيجري الهادئ قادرًا على العودة إلى بلاده التي كانت ما تزال ترزح تحت حكم العسكر، وتعيش تحت رحمة الخوف من شبح الجفاف، وتقتات على مساعدات الدول الغربية وديونها التي لا تنتهي. عاد يوسوفو إلى النيجر عام 1979 وهو نسخة مطوّرة من الإنسان النيجري، مشبعًا بالثقافة الغربية التي استقاها في «مدينة النور» باريس، دون أن ينسى تقاليد مجتمعه الأفريقي متعدد الثقافات.
العودة من فرنسا
وبدأ الرئيس المستقبلي مساره المهني في النيجر كمتدّرب في عدد من شركات المعادن النشطة في البلاد، قبل أن يصبح مديرًا للمعادن في وزارة الصناعة والمعادن في الفترة ما بين 1980 و1985. وسرعان ما انتقل بعد ذلك إلى واحدة من أشهر شركات المعادن في النيجر «سوماير» حيث شغل عدة مناصب مهمة، بدأها كأمين عام، ثم مدير للاستخراجات وأخيرًا مديرًا فنيًا للشركة؛ وكان يوسوفو يتقدم – في هذه الأثناء - في مساره المهني وعينه على التطورات السياسية التي تعيشها بلاده.
في الواقع، يُعد النيجر واحدًا من أكثر بلدان الساحل وغرب أفريقيا انقلابات عسكرية. فبعد الاستقلال عن فرنسا عام 1960 دخلت البلاد في حكم الحزب الواحد بقيادة هاماني ديوري، أول رئيس للنيجر؛ ولقد عمل ديوري تحت العباءة الفرنسية وفتح لها الباب لاستغلال مناجم النيجر الغنية باليورانيوم، إلا أن موجة من الجفاف الحاد أطاحت بحكمه ودفعت الجيش عام 1974 إلى إزاحته وتنصيب أول رئيس عسكري للبلاد هو العقيد ساني كونتشيه.
ولم يختلف كونتشيه عن سابقه، إذ ارتمى في أحضان فرنسا لتدعيم أركان حكمه ومواجهة موجات الجفاف المتلاحقة، فلطالما شكل الجفاف لاعبًا مهمًا في تحديد المستقبل السياسي للنيجر. وبعد وفاة كونتشيه عام 1987 حل محله علي سايبو، وهو عقيد آخر في الجيش حاول أن يجري إصلاحات وأن يعزّز الحريات من خلال إطلاق سراح سجناء سياسيين، وإعلان «الجمهورية الثانية» التي لم تصمد طويلاً أمام احتجاجات المعارضة السياسية وعمال المناجم والطلاب. ومن ثم أجبر على اعتماد التعددية السياسية مطلع عام 1991. على غرار بقية المستعمرات الفرنسية في أفريقيا؛ وخرج العقيد سايبو من الحكم في العام نفسه مفسحًا المجال أمام حكم انتقالي مهمته الإشراف على انتخابات رئاسية وتشريعية تفتح الباب أمام الجمهورية الثالثة.
التعددية الحزبية
مع بداية التعددية الحزبية في النيجر مطلع تسعينات القرن الماضي، أسس يوسوفو «الحزب النيجري من أجل الديمقراطية والاشتراكية» في ديسمبر (كانون الأول) 1990. كان ذلك الحزب الذي ما زال يرأسه حتى اليوم هو البوابة التي شارك من خلالها في جميع الانتخابات التشريعية والرئاسية منذ أن بدأت التعددية في النيجر؛ كما مكّنه من المشاركة في أشغال «المؤتمر الوطني السامي» الذي وضع ملامح الجمهورية الثانية في النيجر عام 1991، والمشاركة بعد ذلك في الانتخابات التشريعية عام 1993 والدخول إلى قبة البرلمان ممثلاً لمنطقة تاهوا التي يتحدر منها، كما شارك في أول انتخابات رئاسية يشهدها النيجر.
بينما كانت النيجر تتلمس خطواتها بكثير من الترقب تجاه نظام ديمقراطي جديد، كانت جارتها مالي تلتهب تحت وقع تمرّد الطوارق في الشمال؛ وسرعان ما انتقلت العدوى إلى طوارق النيجر فحملوا السلاح مطالبين بالاستقلال عن العاصمة نيامي، لتدخل البلاد في موجة من الأزمات الاقتصادية والصدامات العرقية عصفت بالحكومة الانتقالية نهاية عام 1992. إلا أن ذلك لم يمنع النيجريين من مواصلة الطريق للخروج بانتخابات تشريعية في شهر أبريل (نيسان) 1993. وأول انتخابات رئاسية شفافة تشهدها البلاد. ولقد فاز ماهامان عثمان بهذه الانتخابات، وحل يوسوفو في المرتبة الثالثة بنسبة 15 في المائة من أصوات الناخبين، فاختير رئيسًا للوزراء على رأس حكومة نجحت بعد سنة في توقيع اتفاق سلام مع قبائل الطوارق منحوا بموجبه حكمًا ذاتيًا محدودًا، فانتهى تمرّد طوارق النيجر إلى اليوم.
الصراع مع عثمان
إلا أنه سرعان ما بدأت الخلافات تدب بين الرئيس المنتخب عثمان ورئيس وزرائه يوسوفو، فاستغل الجيش الصراع بين الرجلين ليدخل على الخط بحجة أن الخلاف بينهما عطّل عمل مؤسسات الدولة، وبالتالي، ظهر عقيد جديد اسمه إبراهيم باري مناصرة أزاح الرئيس وأطاح بالحكومة في يناير (كانون الثاني) من عام 1996. وأعلن جمهوريته الخاصة التي كانت الرابعة منذ استقلال النيجر عام 1960. وكان واضحًا منذ البداية أن العقيد باري يريد البقاء في الحكم حين دعا إلى انتخابات رئاسية وتشريعية بعد بضعة أشهر من انقلابه. وأثناء الانتخابات تدخل بشكل فج ليحلّ اللجنة المشرفة ويعيّن لجنة جديدة منحته الفوز في انتخابات أثارت سخرية العالم وأدخلت النيجر في دوامة من الأزمات والعزلة الدولية. هذا الوضع أجبر العقيد باري على البحث في جيوب العقيد الليبي معمر القذافي عن تمويلات بعدما نضبت خزائنه ورفض المموّلون الدوليون دعمه.
خلال «الحكم الحديدي» للعقيد باري كان يوسوفو يرأس البرلمان وينشط رفقة عدد من النواب في «الجبهة الوطنية من أجل إعادة التأسيس والدفاع عن الديمقراطية»، التي تهدف إلى مواجهة آلة قمع النظام العسكري الحاكم وتسعى إلى الخروج من مأزق العزلة الدولية المفروضة على النيجر، ولكنها في الوقت ذاته لم تكن بتلك القوة التي تزعج الحاكم العسكري الذي يرتدي ثوبًا ديمقراطيًا لم يخدع العالم الخارجي.
ثلاث سنوات كانت فترة حكم العقيد باري، انتهت مطلع شهر أبريل من عام 1999. بأول انقلاب دموي في النيجر قتل فيه العقيد باري وطويت بموته صفحة العزلة الدولية المفروضة على النيجر. وبعدها أعلن قادة الانقلاب عن بداية «الجمهورية الخامسة» وتشكيل المجلس الاستشاري الوطني الذي كان محمدو يوسفو عضوًا فيه، إلا أن ذلك لم يمنعه من الترشح للانتخابات الرئاسية التي نظمت العام نفسه تحت إشراف مراقبين دوليين شهدوا بنزاهتها، ولقد ذهبت إلى دورة ثانية بين الرئيس السابق مامادو تانجي ومحمدو يوسوفو، ليخسر الأخير السباق الرئاسي – مجددًا - بعد حصوله على نسبة 40 في المائة من أصوات الناخبين. غير أنه تُوّج بعدها مباشرة زعيمًا للمعارضة التي توحّدت في «منسقية القوى الديمقراطية»، وهي الصفة التي قاد بها المعارضة في الانتخابات الرئاسية عام 2004. ليخسر من جديد السباق في الدورة الثانية أمام الرئيس المنتهية ولايته مامادو تانجي.
زعيم المعارضة
خلال سنوات حكم تانجي ظل يوسوفو يكرس صورته كزعيم تقليدي للمعارضة في النيجر، فيما سعى تانجي إلى تغيير الدستور الذي يمنع ترشحه لفترة رئاسية ثالثة. إلا أن ذاكرة النيجر المليئة بالانقلابات استيقظت عام 2010 ليظهر عقيد جديد اسمه سالو جيبو، أزاح الرئيس وحل الحكومة وأسس «المجلس الأعلى لاستعادة الديمقراطية»، وأعلن عن الشروع في «الجمهورية السادسة». تلك الجمهورية التي بدا واضحًا أن يوسوفو هو المرشح الأوفر حظًا للفوز بها، وبالفعل أدى يوسوفو اليمين الدستورية مطلع شهر أبريل من عام 2011، كسادس رئيس للنيجر.
لقد تحوّل المعارض المخضرم إلى حاكم للبلاد، وعندها وجد نفسه أمام اختبار حقيقي للوفاء بالكثير من الوعود التي أطلقها على مدى عقدين من الزمن. وكانت صخرة الواقع صلبة لتتكسر عليها كل آمال الرجل الذي وجد أمامه وضعًا إقليميًا متأزمًا بعد انفجار الوضع في ليبيا وتحوّل منطقة الساحل الأفريقي إلى برميل بارود تلعب به الجماعات الإرهابية وعصابات التهريب والجريمة المنظمة. وهكذا تحوّل زعيم المعارضة الثائر إلى حليف قوي للغرب في الحرب ضد تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» وجماعة «بوكو حرام» المتطرفة.
يوسوفو يلقبه أنصاره بـ«زاكي»، أي الأسد بلغة الهاوسا، ويؤكدون أنه نجح في الحد من خطر الجماعات الإرهابية، وأنه رفع من نسبة النمو في البلاد خلال السنوات الأخيرة بالاعتماد على قطاع المعادن والنفط رغم تراجع أسعارها في الأسواق العالمية. ويقول المستشار الإعلامي في رئاسة الجمهورية بالنيجر عبد الرحمن محمد لـ«الشرق الأوسط» إن «الرهان في الفترة الرئاسية المقبلة على تنويع الاقتصاد من خلال تطوير قطاعات المناجم والنفط والزراعة، وزيادة نسبة النمو التي تعد الأعلى في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا».
أما معارضوه فيصفونه بأنه «صناعة»، ويتهمونه بإدخال بلده الهش في صراعات إقليمية لا يقوى على الصمود فيها، ويدّعون أنه فشل في تحسين ظروف الصحة والتعليم والبنية التحتية خلال مأموريته الأولى؛ وأن مشاكل كبيرة تنتظره في فترته الثانية.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.