الكتب الفكرية تسحب البساط من «الرواية» و«الشعر»

معرض البحرين للكتاب.. الحراك «السياسي» يتسيد المشهد

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

الكتب الفكرية تسحب البساط من «الرواية» و«الشعر»

جانب من المعرض
جانب من المعرض

يبدو أن الاضطرابات السياسية في المنطقة انتقلت انعكاساتها إلى ساحة الحراك الثقافي، لتهيمن على الإصدارات الحديثة التي يقدمها حاليا معرض البحرين الدولي للكتاب في دورته الـ17، حيث تتنافس دور النشر على عرض العناوين الرنانة عن «داعش» و«حزب الله» والحركات الإرهابية، في المعرض الذي يزهو هذا العام بمقره الجديد على ضفاف الخليج العربي، مجاورا متحف البحرين الوطني.
مع ذلك، احتل الكتاب الفكري، بنوعيه التراثي والمعاصر، المرتبة الأولى في واجهة دور النشر المشاركة في معرض البحرين، وكثير من الإصدارات القديمة والشهيرة أعيد طباعته وتسويقه بصورة عصرية، تبعا لبوصلة القراء الخليجيين التي اتجهت مؤخرا لهذه النوعية من المؤلفات.
يقول موسى الموسوي، مدير دار «فراديس» البحرينية: «الصدارة هذا العام جاءت لصالح الكتب التاريخية والفكرية، فكثيرون اتجهوا نحو القراءة الجادة والكتب الرصينة، أو تلك التي تتناول السير والأحداث التاريخية، هذا ما نلاحظه بوضوح»، وبسؤاله عما إذا كانت «الرواية» لا تزال هي الورقة الرابحة في معارض الكتب، يجيب: «نعم بالتأكيد، الرواية لها شعبية كبيرة؛ بين فئة الشباب تحديدا».
من جانبه، يشيد عصام أبو حمدان، من دار «الساقي» اللبنانية، بهامش الحرية الذي يشهده معرض البحرين للكتاب خلال هذا العام، ويؤكد أبو حمدان حرص «الساقي» على المشاركة الدائمة في معرض البحرين، لكن «يتعذر الحديث عن نسبة المبيعات، لأن الوقت لا يزال مبكرا»، بعد ثلاثة أيام من انطلاق المعرض.
وفي ركن آخر، تقدم ممثلة دار «رؤية» المصرية للنشر والتوزيع، تبريرها لارتفاع أسعار الكتب التي تبيعها بالقول: «تكلفة الطباعة ارتفعت.. قيمة الورق زادت.. سعر اليورو ارتفع، إلى جانب تكاليف النقل والشحن والمشاركة في المعرض»، مشيرة إلى أن كل هذه التحديات الجديدة لسوق الكتاب، ترهق الناشرين.
وفي محور آخر، يبدو وجود القارئ السعودي مؤثرا وواضحا في معرض البحرين الدولي للكتاب، بالنظر إلى القرب الجغرافي بين البلدين، إلى جانب أن هذا المعرض بمثابة فرصة لسكان المنطقة الشرقية في السعودية ممن فاتهم حضور معرض الرياض الدولي للكتاب الذي أقيم مطلع شهر مارس (آذار) الحالي.
ونلاحظ في هذه الدورة، تركيز القائمين على إدارة معرض البحرين الدولي للكتاب على الجوانب الدعائية والتسويقية بصورة كبيرة؛ إذ تغص شوارع المنامة حاليا باللافتات الضخمة للمعرض وبصورة مكثفة تفوق ما كان معمولا به خلال السنوات الماضية، وهو ما ينبئ عن نية إدارة المعرض في منافسة معارض الكتاب الخليجية؛ من خلال محاولة استقطاب أكبر عدد ممكن من الزوار.
وقد أقيم المعرض إلى جانب متحف البحرين الوطني، في خيمة بنيت له خصيصا، وجسر يصل بين مسرح البحرين الوطني ومتحف البحرين الوطني، وتصل مساحة خيمة المعرض إلى 8 آلاف متر مربع، لتكون بذلك أكبر قاعة مؤقتة تستقبلها ساحة المتحف منذ تأسيسه وحتى اليوم. وتضم الخيمة كل أقسام المعرض من أجنحة خاصة بدور النشر، وجناح المملكة الأردنية الهاشمية، ضيف شرف المعرض هذا العام، وقسم أنشطة الأطفال.. وغيرها من المرافق التي توفر الخدمات الضرورية لزوار المعرض.
إلى جانب القيمة الثقافية التي يقدمها معرض البحرين الدولي للكتاب، لا يمكن إغفال القيمة الجمالية كذلك، فواجهة خيمة المعرض المطلة على «بحيرة المسرح» زجاجية بأكملها، لتعطي بذلك الجمهور فرصة للاطلاع على مشهد انعكاس أضواء المسرح الوطني على مياه البحيرة، ويعد هذا المشهد واحدا من أبرز الملامح التي تشكل هوية مسرح البحرين الوطني العمرانية والجمالية، ولكي تكتمل التجربة الثقافية لزوار معرض البحرين الدولي للكتاب، تتوفر أكشاك خاصة ببيع المأكولات والمشروبات وجلسات مميزة تصلح أن تكون ختاما لجولة طويلة في ممرات المعرض.
يستضيف المعرض أكثر من 350 دار نشر ومؤسسة ثقافية وفكرية من الوطن العربي ومن كل العالم، من بينها كثير من المؤسّسات الحكومية والخاصة.
ويتسق المعرض هذا الموسم أيضا مع عام «وجهتك البحرين» الذي أطلقته هيئة البحرين للثّقافة والآثار في هذا العام. ويمكن القول إن هذا الموسم يشكل نقلةً نوعية على صعيد النشاط الثّقافي في محاولة المنامة لجذب أكبر قدر من الجمهور، وتقديم آخر النتاجات الفكرية والثقافية، مما يسهم في تهيئة بيئة تتحاور مع الثّقافات حول العالم، كما تشكل عنصر جذب للاستثمارات الثقافية فيها.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟