تحول ميدان المرجة، في قلب دمشق، لأيقونة لدماء الثورة، حيث امتزج تاريخه بآمال ومآسي أولئك الذين تجرأوا على التشكيك في سلطة سادة سوريا التاريخيين.
في عام 1916. أعدم الحاكم العثماني أحمد جمال باشا، الذي أطلق عليه لقب «السفاح»، ثوريين سوريين هنا، بجوار عمود من البرونز والبازلت ما يزال مرتفعًا داخل الميدان حتى اليوم. وفي وقت لاحق، فعل الفرنسيون المثل لمن قاتلوا ضد انتدابهم على سوريا. وتركت جثث القتلى شنقًا معلقة داخل الميدان كرسالة تحذير صارمة لآخرين.
اليوم، يعج الميدان بالقصص حول شتى صنوف المعاناة من ثورة أخرى، والتي تحولت بمرور الوقت إلى حرب تجذب إليها قوى عالمية وما تزال مستعرة رغم مرور خمس سنوات على اشتعالها.
وتفد هذه القصص على الميدان من الرقة ودير الزور وعدة مناطق مختلفة تقع تحت سيطرة تنظيم داعش، وما يزال الميدان ملاذا للمنشقين الذين تعرض بعضهم للتشريد حديثًا ولم يعد أمامهم ملاذ، بينما يزور آخرون العاصمة لإنجاز أعمال أو تلقي العلاج الطبي، وينوون العودة لديارهم. ويختلط هؤلاء بالموظفين خلال فترات استراحة الغداء، ومع الجنود خلال الدوريات ومع الأطفال الذين يقدمون الطعام لأسراب من الحمام تتجمع حولهم. ويبدو المشهد برمته شبيهًا بلوحة سريالية لأفراد تتناقض حياتهم على نحو عميق.
تحت واحدة من أشجار النخيل الأربع التي يزدان بها الميدان، اجتمعت مجموعة من النساء غطى الوحل ملابسهن الريفية. وبجوارهن على الأرض، وضعن كومات من القماش الملفوف تضم متعلقاتهن.
وقالت إحداهن، 30 عامًا، بأنها وأطفالها الخمسة فروا منذ أسبوعين من منزلهم الواقع خارج منبيج التي سيطر عليها «داعش». وتحول منزلها إلى خط مواجهة بين الجماعات المسلحة المدعومة من الولايات المتحدة و«داعش». وقد سيطر مسلحون على المنزل وخرقوا فتحات في جدرانه لاتخاذ أوضاع تأهب للقتال داخله، وأجبروا الأسرة على الرحيل.
ولدى وصولهم دمشق، استأجروا مسكنا قرب الميدان، لكن المال نفد منهم الآن، وطردوا من مسكنهم الجديد ذلك الصباح. وقالت وهي تشير إلى الأرض: «يبدو أننا سننام هنا الليلة». ومثلما الحال مع آخرين قادمين من مناطق يسيطر عليها «داعش»، رفضت السيدة كشف هويتها لحماية أقاربها الذين ما يزالون تحت سيطرة التنظيم.
وقام فريق مؤلف من سيدتين من وزارة الصحة السورية بالمرور على المجموعة، وقدم تطعيمًا ضد شلل الأطفال. ويمر هذا الفريق من المنطقة يوميًا بحثًا عن المشردين لتطعيمهم في محاولة لاحتواء تفشي الفيروس الذي عاود الظهور جراء تعطل إجراءات التطعيم بسبب فوضى الحرب.
وقالت جانيت عواد، 36 عامًا، أثناء تقديمها جرعة لطفل صغير: «نستهدف الأطفال القادمين من المناطق المشتعلة. وهناك الكثير منهم بهذه المنطقة».
على الطرف الآخر من الميدان جلس رجلان يرتديان أغطية رأس تقليدية باللونين الأبيض والأحمر، على طاولة في مواجهة عمود ضخم شيد في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني للاحتفال بمناسبة إقامة أول وصلة تلغرافية بالمنطقة.
قدم الرجلان من البوكمال في دير الزور، قرب الحدود مع العراق، لإنجاز بعض الأعمال. وقد زاد «داعش» من صعوبة مغادرة المدنيين للأراضي الخاضعة تحت سيطرته، لكنه أحيانًا يصدر تصاريح لأفراد راغبين في السفر لتلقي علاج طبي أو احتياجات أخرى. ووصف أحد الرجلين، 78 عامًا، أشار لنفسه باسم أبو رياض الوضع تحت سيطرة التنظيم بأنه «أسود وبائس».
أيضًا كانت هناك سيدة قادمة من دير الزور لتلقي العلاج لمعاناتها مشكلات بالقلب، تفاقمت جراء نقص الغذاء. وقالت: «إننا نتضور جوعًا، وأصبح من الصعب إيجاد عمل. كما أنهم يقتلون أبناءنا. إذا رفض شخص الانضمام إليهم، فإن أسرته قد تتعرض للقتل». أما الآن، فهي موجودة لفترة موجزة بقلب منطقة سيطرة بشار الأسد، الذي ارتفعت بالقرب منها صورة ضخمة له في الزي العسكري، مع صور لدبابات وقاذفات صواريخ وطائرات من حوله.
إضافة لذلك، يضم الميدان مبنى وزارة الداخلية السورية، ما جعله نقطة تجمع للمظاهرات التي خرجت عام 2011. عندما وصلت شرارة الثورة السورية دمشق للمرة الأولى. في وقت لاحق، ومع تحول الثورة لحرب، تحول الميدان لساحة لتفجيرات السيارات المفخخة.
على جانب آخر من الميدان، يقف مسجد بني محل مسجد مملوكي عتيق دمره والد بشار، حافظ الأسد، في سبعينات القرن الماضي لإعادة بنائه. وأطلق على المسجد الجديد اسم باسل، الشقيق الأكبر لبشار الأسد الذي لقي حتفه في حادث سيارة. وبدا المسجد ومركز تجاري خلفه خاليين تمامًا فيما وصفه البعض بنموذج على الفساد الذي تعانيه سوريا.
مع ذلك، فإنه حتى هنا في قلب دمشق، لم يخف بعض المسافرين عدم رفضهم لـ«داعش». ومن بين هؤلاء سيدتان كانتا في طريقهما من الرقة إلى لبنان لزيارة زوجيهما هناك وتنويان العودة لاحقًا. وقالت إحداهما وكانت ترتدي غطاء شعر يحمل طرفه تطريزا ذهبي اللون: «الوضع جيد للغاية، ولسنا بحاجة لتدخل أي شخص. فقط نريد أن نعيش في سلام».
وأثناء حديثها، مر موكب من سيارات «هامفي» مزدان بصور الأسد وزعيم جماعة «حزب الله» حسن نصر الله، احتفالاً بذكرى سيطرة حزب البعث على السلطة. واحتشد سكان البنايات المطلة على الميدان لالتقاط صور وفيديوهات. وتطلعت السيدات القادمات من الرقة لمشاهدة الموكب، ثم حولن أنظارهن بعيدًا.
* خدمة: «واشنطن بوست»
خاص بـ«الشرق الأوسط»
ميدان المرجة.. مفترق طرق للسوريين في قلب دمشق
يعج بالقصص حول شتى صنوف المعاناة من مختلف مناطق البلاد
ميدان المرجة.. مفترق طرق للسوريين في قلب دمشق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة