لغة سوداء تتصاعد من حرائق الوطن.. وسيارة إسعاف لا تنقذ أحدًا

في مجموعتين شعريتين من العراق «غرق جماعي» و«نزهة بحزام ناسف»

غلاف «غرق جماعي»  -  غلاف «نزهة بحزام ناسف»
غلاف «غرق جماعي» - غلاف «نزهة بحزام ناسف»
TT

لغة سوداء تتصاعد من حرائق الوطن.. وسيارة إسعاف لا تنقذ أحدًا

غلاف «غرق جماعي»  -  غلاف «نزهة بحزام ناسف»
غلاف «غرق جماعي» - غلاف «نزهة بحزام ناسف»

«نزهة بحزام ناسف»، مجموعة شعرية لكاظم خنجر؛ حيث «يتنزه» في محاولة لغوية للإنكار.. إنه لا يتنزه؛ بل يصرخ من قلب فوهة سلاح حربي وهو يحدق بالجثث. لعبة الشاعر هنا من الألعاب الخطرة، في مكان وزمان خطرين، وهو يكتب القصيدة التسجيلية، نوعًا شعريًا، كالشريط السينمائي التسجيلي، وما يتبقى هو مهارة المخرج، الذي هو هنا الشاعر، في تحويل الفوتوغرافي إلى شعري.
كثيرًا ما قال النقاد الكلاسيكيون بتجنب الفوتوغراف في الشعر، أو في الأدب عمومًا، كنقيصة فنية، لكن الفوتوغراف نفسه، كفن، قدم أروع القصائد المتحركة في شرائط السينما، وكاظم فنجان هنا يقدم شريطًا شعريًا فنيًا بحكم حاجة موضوعية يفرضها الحدث الدامي والجريمة الماثلة، ليبتكر لغة سوداء تتصاعد من حرائق الوطن.
تخبرنا قصيدة «خنجر» بأن لا حاجة بها إلى خيال الشعراء المترفين وهم يتأملون الشوارع من شرفات عالية، فهي قصيدة تكتفي بواقع «أغرب من الخيال» لتقوم بتدوينه وفق العين الحساسة رغم الدخان والدموع وحذقها في التقاط الاستثنائي من اليومي.
لا يبحث قارئ هذه المجموعة، بل يجد كل سطر مفخخا وقاتلا بحزام إرهابي وجثة مجهولة الهوية وعربة إسعاف تنقل أشلاء متفرقة لبشر كانوا في سوق الخضراوات أو أطفال في طريقهم إلى المدرسة.
المجموعة هي نفسها سيارة إسعاف تعبر الشوارع المهتزة بالتفجيرات ولا يملك طاقمها القدرة على إنقاذ أحد.
تنتقل قصائد المجموعة بين الحكاية وقد تحولت قصيدة، والقصيدة تحولت إلى حكاية، وهذا نلمسه بوضوح شديد في تجربة خنجر الشعرية، شاعرًا لا يأبه كثيرًا بعواقب «سرد النثر» في القصيدة، فالمهم هو الصدق الفني الذي يتسق مع المشهد الساخن، المتكرر، المفزع، الذي يتكون أو يتمزق أمام عينيه.
«يقول التقرير الطبي بأن كيس العظام الذي وقّعت على استلامه اليوم هو (أنت)، ولكن هذا قليل. نثرته على الطاولة أمامهم. أعدنا الحساب: جمجمة بستة ثقوب، عظم ترقوة واحد، ثلاثة أضلاع زائدة، فخذ مهشّمة، كومة أرساغ، وبعض الفقرات. هل يمكن لهذا القليل أن يكون أخًا؟».

لغة قاسية وصور وحشية؟

نعم، تنشأ اللغة في لاوعي القصيدة عبر تراكم خبراتها، فثمة نسيج لغوي يتشكل من مجموع الموجودات البصرية، المدركة، المحسوسة، الموجعة، المحزنة أو السعيدة، والشاعر ابن الحياة قبل أن يكون ابن الشعر، فهو جاء من الحياة إلى الشعر وليس العكس، فبماذا نطالب الشاعر ولغته إذا كان ابن الحريق؟ هكذا تأتي قصيدة «فنجان» وحشية النبرة وهو يكتبها بيد وباليد الأخرى يجمع أشلاء أخيه.
كيف للشاعر العراقي أن يرسم مشهد غروب رومانسيا على نهر دجلة بينما الحواجز الكونكريتية تغلق الأفق؟ لهذا يقول خنجر: «يشير التقرير الطبي إلى ذلك. أعدت العظام إلى الكيس. نفضت كفي من التراب العالق فيهما، ثم نفخت التراب الباقي على الطاولة، وضعتكَ على ظهري وخرجت».
يكتب خنجر، ومعه مجموعة من الشعراء الجدد قصائدهم وسط أنقاض التفجيرات ومخلفات الحروب وحقول الألغام محاولين «الخروج عن الصدد» في الافتراق عن النمطي والمكرس، تحت سطوة وجع ممض من دون بلاغة تهويمية غير بلاغة الواقع.. بلاغة وحشية في مكان وزمان وحشيين.
يذكر أن كاظم خنجر وزملاء له شكلوا جماعة شعرية أطلقوا عليها اسم «ميليشيا الثقافة» أي ضد «ثقافة الميليشيا» حسب بياناتهم ونصوصهم وحواراتهم المنشورة.
أما تجربة حمدان طاهر المالكي في مجموعته «غرق جماعي» فتأتي في سياق لغة مقتصدة؛ إذ الشاعر يدس اختباراته الشخصية كمادة خام ليشتغل في مساحة أخرى، مجاورة، هي القصيدة، أو محاورة، ليتبنى الشكل الأخير للنص الشعري، على أنه خلاصة تلك الاختبارات.
«غرق جماعي» عنوانًا يقف في غلاف المجموعة ينطوي على أشكال متعددة للغرق، حتى المرأة/ الحبيبة تطفو فوق الموج بقوة الحب، ينتشلها الشاعر بقبلة الحياة ليعيد توازن المشهد، وهو هنا عراقي فاضح، بين الموت والحب.
يكتب المالكي وهو ينظر إلى الشارع العراقي من ثقب في القلب، شارع منتهك بكل أنواع الحديد المشتعل، حيث يغرق الناس في الدم والدخان والذهول.
عنف الواقع يجد مكانه في لغة القصيدة، وهذا أمر مشروع حتى لو فُخِخت القصيدة لتقتل نمطية الموت وتقدم مرافعتها للدفاع عن الحياة.
«أحافظ على حياتي كثيرًا/ وكثيرًا أنساها/ أحافظ عليها من الرصاص اليومي/ أحافظ عليها من المركبات المسرعة/ وأحافظ عليها من الحروب/ الحروب التي دومًا تتسع/ ولا تترك فسحة للتفكير/ في حياةٍ أخرى/ أحافظ على حياتي/ لكني دائمًا أنساها/ مثل حقيبة جندي هارب».
تتكرر في القصيدة، أعلاه، لازمة الحفاظ على الحياة خمس مرات، فلماذا لم يكتف الشاعر بواحدة فقط؟
الحفاظ على الحياة غريزة لدى الإنسان والحيوان والنبات، وهو موقف أيضًا عندما يبديه الإنسان مدركًا للخطر الماثل، أما الشاعر فهو من يشير إلى ذلك الخطر بعلامة تحذير تتكرر خمس مرات وكأنه يرى باتجاهين: إنسان يمشي على الرصيف، وعربة مفخخة تقترب منه.
كثير من الشعراء العراقيين يكتبون قصيدة النثر المفخخة، بدورها، على أنها شاخص توجيهي يستمد مشروعيته من بيئة مفخخة؛ عرباتٍ وعقولاً وأحلامًا وغرف نوم.
يلجأ المالكي إلى أسلوب الومض المكثف، مختصرًا الكلام أكثر ما يمكن، وهذا أكثر ما يميز أسلوبه، وهي ميزة لا نجدها إلا نادرًا، فقصيدة النثر هي الأخرى حقل ألغام، على من يلجه أن يكون في غاية الاحتراس من نثر اللغة المغري، والانزلاق في التوليفات والتوليدات التي يقع تحت طائلة إغرائها كثير من شعراء النثر تحديدًا. استهل المالكي مجموعته هذه بعدد من الومضات القصيرة، ووضع لها عنوان: «نصوص قصيرة»، علمًا بأن بقية قصائد المجموعة نصوص قصيرة أيضًا، لكن التبرير النقدي يحيل إلى أن الشاعر أراد أن يقدم تلك الومضات على شكل فقرات قصيرة جدًا، لكنها تقع في نص واحد، وإن تفارقت في الدلالة والفكرة والقصد.
«أتسلق الأيام الوعرة
وأعرف أن الوصول ليس حلاً
*
ما دامت هذه الأيام أحجارًا
سأكون بئرًا».



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.