كوينتن تارانتينو: العنصرية ارتبطت بالتاريخ الأميركي وسادت العلاقات بين البيض والسود

المخرج العالمي قال في حوار خاص مع «الشرق الأوسط» إن كل فيلم من أفلامه 100% منه

كيرت راسل وسامويل ل. جاكسون في لقطة من «الكارهون الثمانية».  -  أثناء تصوير «الكارهون الثمانية»  -  كونتين تارانتينو
كيرت راسل وسامويل ل. جاكسون في لقطة من «الكارهون الثمانية». - أثناء تصوير «الكارهون الثمانية» - كونتين تارانتينو
TT

كوينتن تارانتينو: العنصرية ارتبطت بالتاريخ الأميركي وسادت العلاقات بين البيض والسود

كيرت راسل وسامويل ل. جاكسون في لقطة من «الكارهون الثمانية».  -  أثناء تصوير «الكارهون الثمانية»  -  كونتين تارانتينو
كيرت راسل وسامويل ل. جاكسون في لقطة من «الكارهون الثمانية». - أثناء تصوير «الكارهون الثمانية» - كونتين تارانتينو

الفترات التي تفصل بين كل فيلم وآخر بالنسبة للمخرج كوينتين تارانتينو عادة ما تمر وهو يفكر في مشروعه المقبل. يقول خارج هذه المقابلة: «لأشهر طويلة أنظر إلى صفحة بيضاء لا أعرف كيف أملأها». ما يعكسه تارانتينو هنا هو أنه ليس المخرج الذي ستطلبه هوليوود ليحقق فيلما تريدها منه. تسلمه سيناريو وتمنحه عقدًا مجزيًا وضوءًا أخضر فينهض من اللقاء ويدخل التصوير بعد أسابيع. تارانتينو، لن يحل محل مخرج «باتمان ضد سوبرمان» زاك سنايدر أو عوض مخرج «آيرون مان»، جون فافريو أو أي أحد من هؤلاء. هذا لأنه فنان يريد الحفاظ على صيته على هذا النحو.
في الوقت ذاته هو فنان مختلف عن فنانين كثيرين. سينمائي استلهم ما يحب من السينما من أفلام كرهها الفنانون الآخرون أو منحوها أهمية محدودة كأفلام ماريو بافا أو سيرجيو كوربوتشي أو حتى سيرجيو ليوني.
أنجز حتى الآن تسعة أفلام بدأت بـ«كلاب المخزن» واحتوت على «اقتل بيل» (الأول والثاني ولو أنه يعتبرهما فيلم واحد) و«جاكي براون» و«أوغاد غير جديرين» و«بالب فيكشن» الذي كان نجاحه الكبير الأول سنة 1994. السمة الغالبة في أعماله هي احتواؤها على قدر كبير من العنف. يجده متأصلا داخل الإنسان «فلم أتحاشاه؟» كما يقول. «الشرق الأوسط» التقت المخرج الشهير وكان لها هذا الحوار:
* في عدد من أفلامك هناك تطرّق لموضوع العنصرية. على نحو طفيف من «بالب فيكشن» ثم أقوى وصولاً إلى آخر فيلمين لك «دجانغو طليقا» و«الثمانية الكارهون» حيث الفيلمان مشبعان بهذا الاهتمام. ماذا يشكل لك هذا الموضوع؟
- العنصرية ارتبطت بالتاريخ الأميركي على نحو وثيق، وربما هذا معلوم لديك ولدى كل الناس. العنصرية سادت العلاقات بين البيض والسود في مختلف المراحل عبر هذا التاريخ وإلى اليوم. والمخيف أنها موجودة في مختلف أنحاء العالم. أينما كانت هناك أقلية، فإن هذه الأقلية عرضة للتصنيف عنصريًا. تعاملت في أفلامي كلها مع العنصرية على نحو أو آخر ربما بمجرد نظرة أو عبر إظهار لشعور ما في لحظة من الفيلم. وبصراحة لا أحاول أن أصنع أفلامًا عن العنصرية. لكن الموضوع لا يختفي بعيدًا عني. تقول في «عدد من أفلامك» لكن إذا نظرت جيدًا ستجد أنها جميعًا تتطرّق لموضوع العنصرية، ليس ضد السود دائمًا.
* أيضًا في أفلامك شخصيات تفعل عكس ما تضمره. في «الكارهون الثمانية» يُتاح لسامويل ل. جاكسون الإفصاح عن مخزون من المشاعر الكارهة بعدما اعتقدنا أنه سيبقى ضحية كما بدأ.
- وبقي ضحية حتى النهاية لكنه كشف عن جانبه الآخر، كما تقول. في أفلامي كلها هناك جزء من الفيلم أصرفه على الكشف بأن شخصية ما تتولّى إبداء شعور أو إدراك كانت تخفيه عن العيون. تقدم الشخصيات فكرة زائفة عن أنفسها قبل أن تكشف عن الحقيقة. القناع يسقط.
* إذن تقول إن اهتمامك بالقضية العنصرية نابع أساسًا من التاريخ؟ أليس عندك شعور معين حيال هذا الموضوع؟
- طبعًا، وهو شعور مناهض للعنصرية بالتأكيد.
* البعض، مما أقرأ وأسمع، ليس واثقا من أنه شعور مناهض. شخصية دجانغو في الفيلم السابق تنضوي على عنف شديد. أكثر منها شخصية سامويل ل. جاكسون في هذا الفيلم.
- أكثر منها، لكنهما صورتان مكتملتان. في «دجانغو» تستطيع أن تدرك أن الشخصية التي يؤديها جايمي فوكس تم دفعها للعنف بشدة. سامويل ل. جاكسون أحد هؤلاء الدافعين. ربما لا يبدو أنني مناهض للبعض، لأني دائمًا ما أبحث في الصورة كاملة. هناك سود عنصريون وسود أضروا بالسود الآخرين ربما أكثر مما فعل الإنسان الأبيض، لكن ما أكشفه هو الصورة الكاملة، لأني لا أريد اتخاذ مواقف تقليدية، فأغيب الحقيقة لقاء اختيار سهل.
* لديك ..
- (مقاطعًا) أحد زملائك قبل قليل سألني ما إذا كنت شخصًا أسود ببشرة بيضاء (يضحك). أكدت له أنني أبيض من أصل إيطالي وربما نقطة في دمي من أصل مغاربي، لكني لست أفرو - أميركيًا بالتأكيد.
* كان هناك فيلم حول رجل أسود ببشرة بيضاء ظهر في الخمسينات عنوانه «تريك بايبي»..
- لـ(المخرج) لاري ياست.. شاهدته.
* يقولون إنك شاهدت كل شيء.. كل فيلم أوروبي أو أميركي.
- (يضحك) ما زلت أعمل على إتمام المشاهدة.. لا. هذا ليس حقيقيًا بالطبع، لكني شاهدت عشرات ألوف الأفلام منذ أن كنت صغيرًا.
* ما الذي يبقى في بالك منها؟
- الفيلم الذي أهتم به يبقى. ليست كل الأفلام تستطيع أن تثير اهتمامي، وربما ستسألني ما الذي يثير اهتمامي إذن، أقول: قطاع كبير من الأنواع. أشاهد الأفلام على نحو متواصل، إما تبعًا لمخرج أريد مشاهدة كل أعماله أو على نحو حر. ألتقط فيلما وأشاهده.
* أفعل الشيء نفسه كل يوم، لكني أجد نفسي غير قادر على أن أضع منهجًا لذلك. ما هو أول فيلم أثر فيك؟
- كنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري عندما شاهدت «روكي». هذا الفيلم مهم جدًا بالنسبة لي. ليس أنني أردت بعد مشاهدته أن أصبح صانع أفلام، بل شدني إلى السينما بشكل عام. قصة ستالون جعلتني أفكر في الشخصيةـ وما أثر في أنني قرأت حينها أن ستالون كتب القصّة وأصر على التمثيل وأراد أن يخرج الفيلم أيضًا. لكن عمليًا فإن الأفلام التي دفعتني للتفكير بالسينما على نحو عملي كانت أفلام سيرجيو ليوني وماريو بافا. شاهدت «حدث ذات مرّة في أميركا» و«السبت الأسود» وقررت أن أصبح مخرجًا بعد ذلك.
* ما الخاص الذي لفت نظرك في «حدث ذات مرّة في أميركا»؟
- لو راقبت الفيلم بعناية لأدركت كيف أخرج ليوني الفيلم لقطة لقطة. إنه فيلم مثالي بالنسبة لمن يريد أن يعرف كيف تصوّر الفيلم وكيف تركّبه. من خلاله تعرف كيف يتم وضع العمل السينمائي بعضه على بعض ليصبح فيلما.
* منذ فيلمك الأول «كلاب المخزن» وحتى «الكارهون الثمانية» تغيرت هوليوود أم لم تتغير؟
- أمر غريب لأني أتذكر أن«كلاب المخرن» سنة 1992 لم يتكلف أكثر من مليون و500 ألف دولار. لو كان ذلك الفيلم من إنتاج استوديو كبير فإن التكلفة لن تقل عن عشرة ملايين دولار. كنت أستطيع أن أحقق قبله فيلما صغيرًا وآخذ هذا الفيلم إلى شركة كبيرة ليكون فيلما هوليووديا بعشرة ملايين أو باثني عشر مليونا مع ممثلين أكثر شهرة. لكن هذا لن يكون الفيلم نفسه، ولا هي الطريقة المثلى لتحقيق فيلم. عليك أن تنظر إلى الصورة الكلية لتعرف لماذا سينجح هذا الفيلم وكيف. بأي طريقة.
اليوم ميزانية هذا الفيلم أكثر من 50 مليون دولار. وهذا لا علاقة له بإذا ما كان الفيلم أفضل أو أردأ أو بنفس مستوى الفيلم السابق. قد لا يجيب ردّي كل سؤالك لأن التغييرات التي طرأت على هوليوود كثيرة جدًا.
* لكنك ما زلت تستطيع أن تنجز الفيلم كما تريد أنت.
- هذا هو الأمر الجيد. كل فيلم من أفلامي هو مائة في المائة مني.
* ماذا عن العنف في أفلامك؟ ذات مرّة تم انتقاد سام بكنباه بسبب العنف في أفلامه فأخرج فيلما خاليا من العنف هو «أنشودة غايبل هوغ»، وعندما سقط الفيلم قال: «ينتقدونني لكن عندما أحقق فيلما بلا عنف لا أحد يشاهده». هل العنف سمة سينمائية؟
- لا. تستطيع أن تحقق فيلما جيّدًا سواء أكان عنيفًا أو غير عنيف. أنت تعرف ذلك. لكن المسألة لها علاقة بأي نوع من الأفلام تصنعها. سام بكنباه كان على حق في تصوير مشاهد العنف مهما بلغت ضراوتها، لأنه كان يريد أن ينقل الواقع. أنظر إلى العنف النظرة ذاتها. لا أستطيع أن أتجاهله في أفلامي لأنه واقع فلمَ أتحاشاه؟
* هل واجهت معارضة ما عندما أعلنت أنك تريد تصوير «الكارهون الثمانية» بمقاس 70 ملم؟
- لا. لا أستطيع أن أقول معارضة. لكن كانت هناك أسئلة حول السبب في ذلك: «لماذا يريد تصوير الفيلم بمقاس 70 مم؟ ما الغاية؟». الحقيقة أنني كنت أستطيع تصوير الفيلم بكاميرا 16 مم وستكون النتيجة جيدة، لكني قصدت الضخامة. المتسائلون كانت لديهم وجهة نظر أفهمها وهي أن معظم أحداث الفيلم داخلية، فلم الحاجة للتصوير على مساحة كبيرة؟ هذا ما لا أوافق عليه. البعض يعتقد أن التصوير بمقاس الشاشة العريضة عليه أن يكون للأفلام التي تصوّر في الصحراء أو على الجبال، لكني لا أوافق.
* أعتقد أن التصوير بمقاس عريض في المشاهد الداخلية ساعد الفيلم من حيث أن المرء لم يجد نفسه محصورًا في نطاق غرفة ضيّقة.
- تمامًا. لم تكن الغرفة ضيقة، بل صالون واسع، لكن لو صوّرت فيها بمقاس عادي لما بدا اتساعها صحيحًا. لبدت مطبقة على النفس.
* إذا ما كان التأثير المباشر الأول هو فيلم الوسترن «حدث ذات مرّة في أميركا» فهل يعني ذلك أن نوع «الوسترن» هو النوع المفضّل لديك؟
- نعم على أوجه كثيرة، لكني عندما قررت أن أخرج فيلمي الأول اخترت أن يكون بوليسيًا معاصرا. في الحقيقة أرى أن عليك أن تنجز ثلاثة أفلام وسترن على الأقل حتى تستطيع أن تكون جديرًا بعبارة «مخرج أفلام وسترن». أقل من ذلك أنت تتسلى.
* إذن عليك أن تخرج فيلمًا ثالثًا من النوع.
- صحيح.
* كيف كان شكل التعاون بينك وبين الموسيقار الإيطالي إنيو موريكوني؟
- كان رائعًا بالفعل. عندي مجموعة كبيرة من موسيقى الأفلام التي وضعها والآن أضيف إليها موسيقى فيلمي هذا. لكني بصدق لم أكن أعلم إذا ما كنا سنعمل معًا عندما بدأت الحديث إليه. كنت أريد أن يكتب موسيقى فيلمي الأخير لكني لم أدر ما إذا كان يريد هو ذلك أو إذا ما كنا سنتوصل لاتفاق بشأن ما سيكتبه.
* لكن حبك لموسيقاه وحبه هو لأفلام سيرجيو ليوني والغرب عمومًا ساعد على التفاهم بينكما، أليس كذلك؟
- سأحكي لك ما حدث. التقيت به وبزوجته في منزله. كنت أرسلت له السيناريو مترجمًا إلى الإيطالية وأحبه. أعتقد أن زوجته أحبّت السيناريو أيضًا وهي التي دفعته لقبول فكرة العمل معي. لكنه قال لي فجأة: لماذا تطلب مني أن أضع لك موسيقى الفيلم بينما اعتدت أنت أن تستعين بمقطوعات مكتوبة سلفًا. أنت موهوب في هذا الشأن. قلت له، بصراحة، لأني أريد أن أعمل معك.
* عندما تم تسريب سيناريو «الكارهون الثمانية» على الإنترنت وأعلنت أنك لن تنفّذ الفيلم، هذا قبل سنة تقريبًا من البدء بتصويره، هل كنت تعني ما تقول؟
- نعم. فكرت جديا ألا أنفذ الفيلم. تسريب الفيلم ولد عندي طاقة من الألم والغضب والإحباط.
* هذه كانت المرّة الأولى التي يتسرب فيه سيناريو فيلم لك على الإنترنت؟
- لا. حدث ذلك سابقًا، لكن هذه المرّة كتبت النسخة الأولى من السيناريو على نحو مختلف. كنت فخورًا بنوع الكتابة وأنني أريد السيناريو أن يكون مسودّة لما أريد تصويره بالفعل. لكن سرقته هذا السيناريو كانت مؤلمة، لأني كتبته على نحو مختلف. أردت أن يبقى لي. غضبي كان لأننا نعيش عصر فساد ثقافي ما يؤدي إلى أن الناس الطيبين قد يتوقفون عن الاكتراث لمسائل لا التباس حول خطئها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)