إن أفضل منظور يرجى تبنيه عند اعتبار تهديدات التطرف الإسلاموي الحالية إزاء أوروبا هو المنظور التاريخي الممتد والعميق. فعلى مدى أربعين عاما منذ بداية موجة التشدد الحالية، تحول مركز جاذبية تلك الموجة على طول المحور القابل للتنبؤ والممتد من شرق الساحل الشمالي لأفريقيا إلى غربه مرورا بأوروبا الغربية وانطلاقا نحو بنغلاديش وأجزاء مترامية من الشرق الأقصى. وذلك هو خط العرض للتطرف، والذي يغطي تقريبا نصف مساحة العالم المعروف حاليا، مع معظم الأحداث والفعاليات الكبرى التي شكلت صورته واتجاهاته.
في فترة سبعينات القرن الماضي، ومع إشعال نزعات التطرف لمختلف الثورات، وحركات التمرد، وعمليات الاغتيال السياسية في مختلف البلدان مثالا بإيران ومصر، كان مرتكز أعمال العنف لا يكاد يغادر منطقة الشرق الأوسط بحال. وفي العقد التالي، ثمانينات القرن الماضي وبرغم كل شيء، تحركت بؤرة الصراع نازحة عبر آلاف الأميال في اتجاه الغرب صوب أفغانستان، حيث انشغل المجاهدون المزعومون بقتال الاتحاد السوفياتي البائد آنذاك، إلى جانب باكستان، التي اندلعت فيها معركة طائفية شديدة الشراسة بين جموع السنة والشيعة وسط حملة شعواء لبسط السيطرة على الدولة الواقعة جنوب القارة الآسيوية.
وتحركت بؤرة الصراع، خلال بدايات حقبة التسعينات من ذات القرن، نحو الغرب مرة أخرى إلى إقليم القوقاز حيث دويلة الشيشان الصغيرة، ثم إلى بلاد الشام وسواحل الشمال الأفريقي. ولامست تلك البؤرة المشتعلة القارة الأوروبية العتيقة للمرة الأولى عبر ساحات القتال المريعة في البوسنة والهرسك فضلا عن بعض الهجمات التي نالت فرنسا نصيبا منها آنذاك.
وفي نهاية التسعينات، ومع تمركز حركة طالبان وأسامة بن لادن في أفغانستان، تحول تركيز المتشددين على طول خط عرض العنف البغيض صوب الشرق. وذلك عندما شرعت الولايات المتحدة في مواجهة التهديدات الإرهابية في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) لعام 2001. حيث كانت أول مواجهة للولايات المتحدة داخل القارة الآسيوية.
كان التركيز منصبا على الشرق الأوسط منذ عام 2003. ثم نحو أوروبا في 2004 و2005، ثم في الشرق الأوسط مجددا، ثم إلى جنوب آسيا من 2008 وحتى 2011، إلى مقتل زعيم القاعدة بن لادن. ومع ظهور تنظيم داعش، يعاود تركيز بؤرة الصراع أدراجه إلى منطقة الشرق الأوسط المركزية، ثم نحو أوروبا عبر هجمات باريس الكبرى في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي.
ومن المرجح أن تظل أوروبا هي ساحة المعركة الرئيسية لبعض من الوقت، حيث تفيد البيانات الصادرة عن بعض الأفراد المعروفين بقربهم من تنظيم داعش، في أعقاب هجمات بروكسل الأخيرة، بتهديدات أشبه بالكوابيس المظلمة على أوروبا تلك التي لن تفيق منها حتى ترفرف الرايات السود فوق أراضيها. وهناك تحذيرات مريعة بحق ديفيد كاميرون والمملكة المتحدة.
ولدى «داعش» أسبابه الوجيهة لتوجيه الضربات إلى قلب أوروبا. فهي موطن القوى الاستعمارية السابقة والبغيضة مثل فرنسا وبريطانيا، كما أنها محل العقائد العلمانية التي تزدريها آيديولوجيات «داعش» المتطرفة. كما أن أوروبا، بعيدا عن الولايات المتحدة، هي مركز واحدة من أكبر تجارب وخبرات التسامح الإنساني، وتعدد الثقافات، والتكامل والاندماج المجتمعي. وبالنسبة لكافة التوترات الجارية عبر السنوات الأخيرة، فإن الحقيقة البارزة تكمن في أن أغلب أعضاء معظم الأقليات، ومن بينهم المسلمون، شهدوا ازدهارا كبيرا من خلال تواجدهم في الغرب، بالاستفادة من والمساهمة في تلك المجتمعات والدول والتي، إذا ما شهدت بعض الاضطرابات، لا تزال تتمتع بعوامل ثراء اقتصادية وثقافية كبيرة ومؤثرة.
وتعطيل مثل هذه التجربة وضمان فشلها يعد من الأهداف الاستراتيجية الرئيسية للتطرف الإسلاموي. ومن دون تحقيق هذه الغاية، فإن الخلافة الواهية التي أعلنها أبو بكر البغدادي في صيف عام 2014 لا يمكنها مطالبة الأمة الإسلامية بأسرها بإعلان الولاء الكامل لها والانضواء تحت رايتها.
أين يعظم التهديد الداعشي على القارة الأوروبية، ولماذا؟
حذر روب وينرايت، مدير اليوروبول، خلال الأسبوع الماضي من استراتيجية «داعش» «العدوانية» الجديدة، معربا عن عميق قلقه من «مجتمع الـ5000 مشتبه فيهم الذين تعرضوا لحملات مستمرة من التطرف والراديكالية داخل أوروبا، والذين تمكنوا من السفر إلى سوريا والعراق لتلقي خبرات القتال والصراع، وهم المقاتلون الأجانب الذين تمكن بعضهم كذلك من العودة راجعين إلى أوروبا مجددا».
وأضاف السيد وينرايت في تصريحه إلى إذاعة راديو فور الأوروبية قائلا: «بعض من أولئك المتطرفين سوف يكونون جزءا لا يتجزأ من الذين يشاركون في تنفيذ ما بات واضحا أنه استراتيجية داعش الجديدة حيال الغرب، ولكن بأساليب شديدة العدوانية من خلال استخدام فرق الإرهابيين ذوي التدريب والتخطيط الراقي من أجل تنفيذ الهجمات الإرهابية المتعددة التي تهدف إلى إيقاع الخسائر الجماعية المروعة بحق المدنيين الأبرياء».
من المرجح، وفق الاستراتيجية الإرهابية الجديدة، استهداف دول أوروبية بعينها أكثر من غيرها. ومن بين الأولويات في ذلك تبدو بريطانيا على رأس القائمة لتاريخها الاستعماري الطويل وسجلها القديم والحافل من دعم وتأييد الولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب ما تضمه على أراضيها من مجتمع إسلامي كبير ومتكامل إلى حد بعيد. وتعتبر فرنسا من الأهداف ذات الجاذبية الخاصة بالنسبة للإرهابيين من «داعش» أيضا. فهي أيضا من القوى الاستعمارية القديمة، وفي حين أنها ليست على صلات وثيقة بالولايات المتحدة مقارنة بجارتها الإنجليزية، إلا أنها قد اعتمدت سياسة تدخلية بعيدة الأثر خلال السنوات الأخيرة حيث عملت باريس على نشر قوتها العسكرية جوا وبرا في كل من ليبيا، ومالي، وسوريا. كما أن فرنسا تعتبر وبحق سفيرا عالميا لما يمكن تسميته بالعلمانية الاجتماعية، أو العلمانية الجمهورية، وهي العقيدة السياسية الاجتماعية التي تعلي من شأن الاستيعاب بدلا من التكامل متعدد الثقافات الملاحظ في المملكة المتحدة أو المعروف في الولايات المتحدة.
والمرشح الأخير للهجمات الإرهابية المحتملة لا بد أن تكون ألمانيا، والتي تمكنت من الفرار من عمليات العنف والإرهاب عبر السنوات الأخيرة. وتهدف استراتيجية «داعش» العدوانية إلى إشعال التوترات الطائفية لإيجاد المناخ المناسب لتفريخ التطرف. ولن يكون هناك من مكان تشتد أهميته للقيام بذلك من الدولة التي فتحت أراضيها لاستقبال مئات الآلاف من اللاجئين السوريين. إن المخاطر حقا كبيرة. حيث تواجه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ضغوطا سياسية داخلية رهيبة إثر قرارها السخي للسماح لذلك العدد المهول من اللاجئين بدخول البلاد. وإذا ما كان اللاجئون سعداء ومرتاحين في منازلهم الجديدة، فلن يكون إلا بمثابة ضربة موجعة ومؤلمة للخطاب الإسلاموي المتطرف الذي يشدد على استحالة التعايش السلمي ما بين الإيمان والكفر، والخير والشر، والغرب والإسلام في بيئة واحدة.
غير أن مجرد الرغبة في مهاجمة مكان ما تختلف تماما عن المقدرة على مهاجمة ذلك المكان فعليا. حيث كان السبب الرئيسي وراء ضرب بلجيكا – والتي لم تكن أبدا على رأس قائمة أولويات التنظيم الإرهابي – هو إمكانية تنفيذ ونجاح تلك الهجمات بمنتهى السهولة. فهناك سلسلة من الإخفاقات الأمنية المتكررة الناتجة عن القيادة الضعيفة غير الفعالة، والخدمات الأمنية القاصرة، والنظم الأوروبية الهزيلة، إلى جانب عوامل أخرى متعددة، هي السبب الرئيسي وراء تمكن المهاجمين المعروفين والمحددة هوياتهم من مواصلة تنفيذ عملياتهم. ومثل أولئك الأفراد يتواجدون في أماكن أخرى كذلك. وهناك نوعان رئيسيان منهم: المثالي والمجرم.
وخير مثال على النوع الأخير هي مجموعة المهاجمين التي نفذت هجمات باريس. حيث عاش أغلبهم حياة فارغة وفوضوية، كما شارك الكثير منهم في بعض الجرائم الصغيرة. ولم يكونوا من الفقراء – بل في الواقع كان عدد منهم يعيش حياة رغيدة – ولكنها حياة هامشية غير ذات تأثير. كان الإسلام المتطرف استمرارا لأسلوب حياة العصابات الإجرامية، وكانت قوة الجذب تتمثل في الصداقات الحميمة، وحب المغامرة، والشعور بالتمكين من أي شيء آخر. ويتماهى الأخوين البكراوي، الضالعين في هجمات هذا الأسبوع المروعة، مع تلك الصورة تماما. ولكن هناك أيضا الأفراد المثاليين، والذين يتمتعون بقدر معتبر من التعليم، وهم أكثر إدراكا للآثار الآيديولوجية للصراع السوري المشتعل حاليا.
والأمثلة النموذجية على هذا النوع هم الأفراد الممسكون بخيوط المؤامرة في المملكة المتحدة والتي تأكدت علاقاتها بتنظيم داعش وتم إحباطها في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2014. والتي اشتملت على شاب بعمر (22 عاما) كان يعرف باسم «الجراح» في المدرسة نظرا لرغبته في أن يصبح طبيبا منذ أن كان يبلغ الحادية عشرة من عمره. وكان طارق حسن قريبا من تحقيق حلمه ذلك عندما ألقي القبض عليه ووجهت إليه الاتهامات بتدبير خطة لتنفيذ عملية إطلاق نار من إحدى السيارات في لندن. ولقد أدين طارق بارتكاب جرائم الإرهاب الأسبوع الماضي، إلى جانب طالب الفيزياء في كلية كينغز في لندن والذي كان من بين أبرز الطلاب في مادة الرياضيات في كليته.
وفي بعض الحالات النادرة، يمكن لشبكات الإرهاب أن تنطوي على كل من «المجرمين» و«المثاليين» سويا، مما يصنع مزيجا معقدا وعسيرا على التنبؤ بالنسبة للأجهزة الأمنية.
ويبقى سؤال واحد: إلى أي مدى يمكن لتنظيم داعش الاستمرار في حملته الإرهابية داخل أوروبا؟ تتوقف إجابة هذا السؤال على ثلاثة عوامل رئيسية: توافر المجندين المحليين الذين يمكنهم تأمين الأسلحة والمتفجرات، وضعف جهود مكافحة الإرهاب الأوروبية، واحتفاظ «داعش» بقواعده في منطقة الشرق الأوسط.
من الناحية الواقعية، يمكننا فقط توقع ممارسة قدر طفيف من الضغوط على «داعش» خلال الشهور القليلة القادمة مع تحسن تدريجي في التدابير والإجراءات التي تتخذها الحكومات المعنية إلى جانب أجهزتها الأمنية للحيلولة دون وقوع المزيد من الهجمات في الداخل الأوروبي. وإذا ما كان هناك تناقص في عدد المتطوعين، فسوف تكون ميزة جديرة بالاعتبار، وإن كانت ليست عظيمة التأثير في الواقع بحال، حيث تفسح المجال أمام الآلاف من المجندين المحتملين إجمالا. والاحتمال المتوقع، بالتالي، هو أن العنف في أوروبا سوف يزداد سوءا بمرور الوقت قبل أن نشهد انفراجة لتلك الغمة قريبا.
* كبير مراسلي
«الغارديان» البريطانية