من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي

من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي
TT

من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي

من التاريخ: تطوّر النظام التجاري الدولي

لقد سعى الحلفاء عقب نهاية الحرب العالمية الثانية لتدشين نظام تجاري دولي، كما تابعنا في الأسبوع الماضي، حيث سعت الولايات المتحدة والتي كانت أكبر قوة اقتصادية دولية إلى اقتفاء أثر النظام النقدي والمالي الذي رسخته والمعروف بـ«نظام بريتون وودز»، إذ أسّس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية ليكونا ركيزتي هذا النظام.
ولكن مسعى الولايات المتحدة والحلفاء لم يستطع تطبيق نفس المبدأ على التجارة الدولية نظرًا للظروف المرتبطة بها وأثرها المباشر على التنمية والتطور في الدول، ومن ثم أكتفي بوضع نظام متعدد الأطراف لإدارة التجارة الدولية عرف باسم «الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات» (الغات) GATT التي أقرّت كثيرا من المبادئ، وعلى رأسها منع التمييز ومنح الدول المتعاقدة حق الدولة الأولى بالرعاية، أي أن ما يمنح لدولة يجب منحه للدول الأخرى. كذلك أقرّت الاتفاقية العمل على خفض التعريفة الجمركية وكسر مسألة الأفضليات والسعي لوضع حد للحصص التجارية Quotas وحسم مسألة الدعم، وهي كلها مسائل تهدف إلى تسهيل حركة التجارة الدولية لإقرار السلام عبر التكامل بين الدول. كذلك فقد نشأ نظام لتسوية المنازعات التجارية بين الدول، وبالفعل نجحت الاتفاقية في خلق بيئة دولية إيجابية نسبيًا، خصوصًا بعد «جولة كيندي للمفاوضات» التي ساهمت بشكل كبير في خفض التعريفات الجمركية بنسب متفاوتة.
ورغم الصعوبات المرتبطة بمسائل التجارة الدولية فإن الآمال كانت منعقدة على هذه الاتفاقية لتحقيق مزيد من الأهداف لمواجهة المشكلات التجارية. وبالفعل نجحت «الغات» حتى منتصف ستينات القرن الماضي لأسباب مرتبطة بشكل مباشر بالظروف الاقتصادية الدولية في ذلك الحين، والتي بدأت تتغير تدريجيًا وأثرت على النظام التجاري الدولي تمامًا مثل النظام النقدي الدولي، إذ شهدت فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي تطورات كثيرة أدت إلى تزايد المشكلات المرتبطة بالتجارة ورفع مستوى الحمائية بين الدول، وهو ما يتناقض تمامًا مع مبادئ الاتفاقية.
فلقد بدأ العالم يدخل في أزمته النقدية مع فقدان الولايات المتحدة القيادة، إذ أصبحت تعاني من أزمات اقتصادية أدت إلى تعويم الدولار وكسر قاعدة الذهب في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، وهو ما كان له أثره المباشر على التجارة الدولية، حيث حقّق الميزان التجاري الأميركي لأول مرة عجزًا بحلول عام 1971، وبدأت الولايات المتحدة تسعى جاهدة لمعالجة الأمر بمزيد من الحمائية، خصوصًا أن الكونغرس بدأ يدخل نفسه في هذا الإطار بعدما كان الأمر متروكًا للسلطة التنفيذية بالأساس.
أما على المستوى الدولي، فأصبحت اليابان وأوروبا الغربية في حالة اقتصادية جيدة بعدما عبرت أزمات الحرب العالمية الثانية وحققت نسب نمو عالية وعادت مرة أخرى إلى الساحة الدولية بقوة، بل أصبحت هذه الدول منافسًا قويًا للولايات المتحدة، وباتت الأوضاع تنذر باندلاع حروب تجارية بين الدول الكبرى، خصوصًا بعدما بدأ النظام الدولي يدخل في مرحلة التضخم المصحوب بالكساد بفعل الأزمة المالية، إضافة إلى ارتفاع أسعار البترول بعد حرب 1973، وهذا ما أدى إلى تفشي ظاهرة البطالة في هذه الدول وتذبذب أسعار الصرف. وأدى من ثم إلى إعادة العالم مرة أخرى إلى سياسات «على حساب الجار» التي دفعت بالحمائية لأقصى آفاقها منذ الحرب العالمية الثانية.
ولعل بداية ظهور التكامل الأوروبي كانت سببًا مضافًا إلى هذه الأزمة التجارية الدولية، إذ سعت أوروبا منذ إعلان «السوق الأوروبية المشتركة» إلى العمل على التكامل التدريجي إلى أن أصبحت «الاتحاد الأوروبي». وهي خطوات كان من شأنها تقوية الترابط التجاري الداخلي على حساب علاقاتها بالعالم الخارجي، خصوصًا بعد «اتفاقية ماستريخت» التي فتحت المجال أمام الاتحاد الأوروبي. وهذا ما دفع العالم للتخوّف من أن تصبح هناك «أوروبا المحصّنة» ضد التجارة الدولية، خصوصًا بعد توحيد المعايير والتعريفات أمام التجارة الدولية. ولكن هذا التكتل لم يكن التهديد الوحيد للتجارة الدولية، إذ وقّعت الولايات المتحدة وكندا والمكسيك اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية «نافتا» NAFTA عام 1992، ثم تبعتها دول من أميركا اللاتينية التي أعلنت عن إقامة «سوق الميركوسور»، وأصبحت هناك تكتلات تجارية دولية باتت تنظر بخطورة بالغة على التجارة الدولية.
ونظرًا لأهمية التجارة الدولية على المستوى المحلي، أخذت الدول تسعى لنوعية جديدة من الحمائية بعيدًا عن التعريفات الجمركية التي حسمتها اتفاقية «الغات» ومعها مسألة الحصص. وبالتالي وجد العالم نفسه أمام ممارسات ليست بالضرورة جديدة، لكنها صارت متفشية، وعلى رأسها ما هو معروف باسم «الحواجز غير الجمركية» Non Tariff Barriers، على رأسها: المعوّقات الصحية والمواصفات والمقاييس ومسألة الدعم للصناعات المحلية والتمييز ضد الشركات الأجنبية في المناقصات الحكومية والمسائل المرتبطة بالملكية الفكرية والضمانات الحكومية، إضافة إلى مشكلة التجارة في الخدمات، التي صارت النسبة الكبرى من التجارة، خصوصا بالنسبة للدول المتقدمة علميًا. ولقد مثلت الصادرات الأميركية من الخدمات أكثر من نصف صادراتها في مطلع التسعينات، وهي الموجة الجديدة التي بدأت تعيق حركة التجارة الدولية التي استخدمتها الدول لوقف الواردات من الدول الأخرى. كذلك لجأت الدول إلى ما هو معروف باسم «اتفاقيات التقيد الطوعية» والتي أخذت الدول توقّعها في ما بينها لتفادي الحمائية الجديدة والدخول في حروب تجارية.
إزاء كل هذه التطوّرات صارت الدول الكبرى تدرك أهمية إطلاق جولات جديدة للمفاوضات المتعددة الأطراف لمواجهة هذه الموجات الجديدة من العوائق التجارية لإيجاد الحلول المناسبة لها. وبالفعل انطلقت «جولة طوكيو» للمفاوضات عام 1973 لمواجهات آثار التقلّبات النقدية على التجارة الدولية بمبادرة أميركية. وطالت هذه المفاوضات لسنوات عدة، غير أنها انتهت بنجاح جزئي، حيث أدخلت تسويات جزئية وعلى رأسها حق الأطراف المتأثرة من أضرار الدعم الحكومي للتفاوض لإيجاد تسوية تعويضية، إضافة إلى وضع مدونات سلوك لمواجهة المسائل الخاصة بمنع الإغراق بعدما وضعت تعريفات دقيقة لهذه العملية، كما وضعت شروطًا واضحة بالنسبة لقطاع المناقصات في بعض المجالات لضمان المعاملة المتساوية النسبية بين الشركات المحلية والأجنبية. كذلك سهّلت كثيرا من الإجراءات الخاصة بالحصول على التصاريح والرخص بالنسبة للشركات المختلفة العاملة في دول أخرى، التي كانت محل تأخير. لكن الملاحظ هنا أن الاتفاقيات لم تكن شاملة لكل الأعضاء المشاركين في «الغات»، وهو ما كسر المبدأ الأساسي الذي كان معمولا به في إطار الاتفاقية، وهو مبدأ الدولة الأولى بالرعاية. فلقد أصبحت بعض الاتفاقيات تضم بعض الدول دون غيرها، وفي كل الأحوال فإن الدول لم تستطع مواجهة مشكلة حرية التجارة في السلع الزراعية، خصوصا بعدما أدخل الاتحاد الأوروبي السياسة الزراعية المشتركة التي جعلت التجارة في هذا المجال خارج النطاق تمامًا رغم الضغوط الأميركية القوية في هذا المجال.
ونظرًا لأن «جولة طوكيو» لم تحسم كثيرا من الأمور، أطلقت جولة جديدة من المفاوضات عرفت بـ«جولة الأوروغواي»، وبدورها استمرت لسنوات وظلت تحت ضغط الانهيار في أي لحظة بسبب الاختلافات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وضغوط الدول النامية. ومن ثم خلصت الجولة إلى كثير من النتائج الهامة، ولكنها كعادة هذه الجولات لم تكن شاملة، إذ أسفرت عن خفض إضافي للتعريفات الجمركية، وتوصلت إلى خفض الدعم على المنتجات الزراعية وصل إلى قرابة 21 في المائة على ست سنوات، فضلاً عن إلغاء نظام الحصص في صادرات المنسوجات والاستعاضة عنه بتعريفات جمركية التي يمكن النظر في خفضها فيما بعد. أيضًا جرى إدخال الاستثمار والخدمات في نظام التجارة الدولية وتطبيق مبادئ المعاملة الوطنية على هذا القطاع. وتم الاتفاق على حماية الملكية الفكرية داخل المنظومة التجارية بناءً على ضغوط الدول الصناعية الكبرى لحماية حقوقها من القرصنة وبيع المنتجات المصنعة عبر القرصنة.
وتم بالفعل التوقيع على الاتفاق في مدينة مراكش المغربية عام 1994 على أن يدخل حيّز التنفيذ عام 1995، وتقرر أيضًا بإبدال منظومة «الغات» بمنظمة التجارة العالمية والتي كانت مقرّرة وفقًا لـ«ميثاق هافانا» الذي لم يرَ النور، ومع ذلك انطلقت «جولة الدوحة» التي لا تزال مستمرة إلى اليوم لمعالجة أوجه القصور التي لم تتناولها «جولة الأوروغواي».
وهكذا تطوّر النظام التجاري بخطى أبطأ من النظامين النقدي والمالي الدوليين، لكنه لا يزال محكومًا بمبادئ أساسية للتجارة. ولا تزال الدول تبتكر وسائل لأنواع جديدة من الحمائية، ولكن المفاوضات الدولية تقتفي أثر هذه المتغيرات وتلاحقها شأنها شأن ما يحدث في النظام النقدي والمالي الدولي.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.