غاص في البحر يفتش عن «اللؤلؤ».. وفي الصحراء بحثًا عن التاريخ

د. عبد الله الغنيم الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية

د. عبد الله يوسف الغنيم
د. عبد الله يوسف الغنيم
TT

غاص في البحر يفتش عن «اللؤلؤ».. وفي الصحراء بحثًا عن التاريخ

د. عبد الله يوسف الغنيم
د. عبد الله يوسف الغنيم

اكتسب الدكتور عبد الله يوسف الغنيم، الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية 2016، مهارات الكفاح والصبر من والده يوسف الغنيم، الذي كان يشق عباب البحر في رحلات سفر دولية طويلة من غرب قارة آسيا إلى الهند في جنوبها، وإلى شرق أفريقيا، بحثًا عن كنوز اللؤلؤ التي لا تطفو على سطح البحر، بل تغوص في الأعماق، وهو ما توجه واقعًا بجهوده البحثية المضنية ونشاطه الميداني على مدى العقود الماضية، حيث لم يكتف بأداء دروسه ومحاضراته بالقاعات المغلقة، بل اصطحب طلابه في رحلات مكوكية يمتر أراضي الصحاري القفار، للوقوف على طبوغرافية المكان والواقع.
ومنحت جائزة الدراسات الإسلامية، للدكتور عبد الله بن يوسف الغنيم «لقاء مجموعة أعماله في الجغرافيا عند المسلمين؛ تأليفًا وتحقيقًا، وتميزه في إحياء مصطلحات عربية قديمة لأشكال سطح الأرض، وإعادة توظيفها في الجغرافية المعاصرة كما في كتاب (اللؤلؤ)، وكتاب (في التراث الجغرافي العربي)». وكذلك «لرصده التاريخي غير المسبوق للزلازل كما في كتابه «سجل الزلازل العربي»، وتتوج الجائزة «جهوده الحثيثة والمضنية ونشاطه الميداني على مدى العقود الماضية».
* هل لك أن تحدثنا على البدايات؟
- أنا من مواليد مدينة الكويت عام 1947، نشأت في أسرة كويتية تعود أصولها إلى نجد في وسط الجزيرة العربية، وكان الوالد - رحمه الله - ممّن ارتبط عملهم بالبحر والسفر إلى الهند وشرق أفريقيا، والمشاركة في رحلات الغوص للبحث عن اللؤلؤ، وكان حريصًا على أن يروي لنا حكايات مشوقة عن أحداث هذه الرحلات وما يكتنفها من مصاعب وعجائب.
* من كان له الأثر البارز في حياتك؟
- تأثرت أولاً في نشأتي بروح الجدية والمثابرة التي عرفت بها الأسرة الكويتية آنذاك، كما تأثرت كثيرًا بما وجدته من أخوالي آل الجراح من معرفة بقيمة العلم وأهمية السعي الجاد لاكتسابه، ومن النبوغ في مجالاته الفقهية والشعرية والفكرية.
* أين تلقيت التعليم؟
- تابعت مسيرتي التعليمية بعد إنهاء مراحل التعليم العام في الكويت عام 1965م في جامعة القاهرة؛ فحصلت على ليسانس الجغرافيا عام 1969م، وتابعت الدراسة فيها أيضا؛ حيث أسعدني الحظ بالتسجيل لرسالتي الماجستير والدكتوراه مع علمين من أعلام الفكر هما: الدكتور عبد العزيز كامل، والدكتور محمد صفي الدين أبو العز (رحمهما الله).
* خلال تلك الفترة، كانت القاهرة ثرية بمجالس الأدب، هل كان لك اتصال بها؟
- أتيحت لي في القاهرة فرص ارتياد المنتديات العلمية والتعرّف على أعلام الفكر والثقافة والجغرافيا في وطننا العربي آنذاك، وقد حرصت منذ كنت طالبا في جامعة القاهرة على التردد على عدد من المجالس العلمية التي كانت تزخر بها القاهرة؛ من مثل مجلس المحقق العلامة الأستاذ محمود محمد شاكر، رحمه الله، الذي كان يرتاده عدد من أعلام الفكر والثقافة والتحقيق العرب؛ من أمثال الدكتور شاكر الفحام من سوريا، والدكتور ناصر الدين الأسد من الأردن، والدكتور إبراهيم شبوح من تونس، والأستاذ الدكتور عبد الله كنون من المغرب.. وغيرهم. كما حرصت على الالتقاء بعلاَّمة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر (رحمه الله) الذي كان بالنسبة لي الشيخ المعلم والأب الودود والصديق المخلص، وتواصلت لقاءاتي معه حتى وفاته.
وهذا كله فتح لي آفاق الثقافة الموسوعية في مجال التراث العربي الذي كانت لي إسهاماتي الفكرية في موضوعاته ومخطوطاته الجغرافية.
* برأيك؛ ماذا ينقص الباحثين العرب؟
- العلماء والمفكرون العرب والمسلمون هم الذين صنعوا الحضارة الإسلامية التي اعتمد عليها الغرب في نهضته الحديثة، فهم قدموا للعلم حياتهم وأخلصوا له البذل والعطاء؛ من أمثال ابن رشد وابن حيان وابن النفيس وابن الهيثم.. وغيرهم، وما زالوا أعلامًا للفكر والعلم في مجالاته، ومن سار على دربهم ونهج نهجهم حقق مثل ما حققوه من ابتكار واختراع. وقديما قالوا «من جد وجد»، وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يعيها جيدًا الباحثون العرب في عصرنا، وأن يعملوا بها ليحققوا المأمول من الإنجازات والإبداعات في مجالات الفكر والعلم والثقافة.
* كيف تقيم حصولك على جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية لعام 2016؟
- الحقيقة حين أبلغت بفوزي بهذه الجائزة، انتابني شعور خاص بالسعادة والاعتزاز والراحة النفسية، وأود في هذا المجال أن أشير إلى أمر مهم، هو أن عملي وبحثي دائما كان الهدف منه في المقام الأول إرضاء ضميري والقيام بواجبي الإنساني والإحساس بأنني لم أدخر جهدًا في أداء ما ينبغي لي القيام به، ولم أعمل مطلقا وأنا أتطلع إلى الحصول على جائزة ما، ولكن التقدير من الآخرين كان يشعرني بأنني لم أقصر في النهوض بمسؤوليتي، كان هذا إحساسي مع كل جائزة أو تقدير أحصل عليه، وحين أبلغت باختياري للحصول على جائزة الملك فيصل العالمية تضاعفت سعادتي وأحسست بأن إنجازاتي مُقّدرة، خصوصا من هذه المؤسسة العالمية ذائعة الصيت رفيعة المكانة لحياديتها وموضوعيتها، وإنني لأعبر عن بالغ اعتزازي وفخري بالحصول على هذه الجائزة العالمية الرفيعة، وإنني لأتوجه بعظيم الشكر وصادق الامتنان لهيئة الجائزة التي يرأسها الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز لهذا الاختيار.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.