السرَّاج.. رجل طرابلس المُنتَظر

تسبقه خطة سريعة لترويض المسلحين

السرَّاج.. رجل طرابلس المُنتَظر
TT

السرَّاج.. رجل طرابلس المُنتَظر

السرَّاج.. رجل طرابلس المُنتَظر

في صمت.. وبهدوء.. وبعيدا عن الأضواء، أعطى فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي الليبي وحكومته التوافقية، الضوء الأخضر للجنة أمنية عليا في طرابلس، من أجل العمل على حل مشكلة الميليشيات المسلحة التي يرفض بعضها السماح له بمباشرة أعماله وأعمال حكومته من العاصمة. إن الرجل يهيئ الأرض بعيدا عن الأضواء. هذا ملمح مهم في شخصيته.
في حديثه لمجموعة مقربة منه، لا يفضل السراج إطلاق استخدام اسم الميليشيات أو الكتائب، كما هو معتاد في بعض وسائل الإعلام. هو يحبذ وصفها باسم «المجموعات المسلحة»، حتى لا يغضب أحدا. لكي تحل المشاكل الكثيرة عليك أن تضع اعتبارات و«تكتيكات». بعد ساعات من إعلان نيته التوجه للعمل من داخل العاصمة، استقبل السراج في مقر إقامته في تونس، مندوبين من عدة جهات ليبية لبحث ترتيبات الوضع في البلاد التي تعاني من الفوضى والاقتتال منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011.

دخل السراج من تونس في حوار عبر وسائل التواصل الإنترنتي، مع مؤيدين للحكومة في طرابلس، من بينهم مجموعة «من أجلك ليبيا»، التي اشتركت في جولات المفاوضات منذ بدايتها.. مفاوضات جرت وتعثرت ونهضت لمدة نحو 18 شهرا برعاية الأمم المتحدة. مها سليم، وهي من أعضاء مجموعة «من أجلك ليبيا» التي يقع مقرها في شارع بن عاشور في العاصمة، تقول لـ«الشرق الأوسط»: «نحن مجموعة منظمات مجتمع مدني نرى الوضع الصعب الذي يمر به الشعب الليبي. نؤيد حكومة التوافق. ونأمل أن نطوي صفحة الماضي، ونبدأ من جديد، من أجل بناء مستقبل أفضل للجميع».
السيدة مها سليم تمثل، في هذه المجموعة، منظمتها التي يقع مقرها في شارع ميزران بالمدينة، وهي منظمة معنية بحقوق الإنسان اسمها «المواثيق». وعلى كل حال، كما يرى كثيرون هنا، سيكون على السراج تخطي الكثير من العقبات والعراقيل، على رأسها مشكلة عدم عقد جلسة برلمانية لمنح الثقة لحكومته.. منح الثقة خطوة معتادة وأساسية في كثير من نظم الحكم. كما أن منح الثقة أمر منصوص عليه في النصوص الدستورية التي تعمل بها سلطة مجلس النواب المنتخب من الشعب في صيف عام 2014. يعلم السراج أيضا أن هناك مشاكل أخرى يتطلب إيجاد حلول لها مسألة وقت. منها رفض بعض المسلحين في العاصمة السماح لفريقه بالعمل انطلاقا من طرابلس.
يحظى السراج بتعاطف من قطاعات في الشارع الليبي خاصة مع اشتداد الأزمة الاقتصادية. ومن لجان شبابية وحقوقية أخرى تؤيد الحكومة، يقول حسين المحمودي أحد النشطاء الحقوقيين ممن وقفوا مع الحوار: أعتقد أن فكرة «التوافق» هي التي تتغلب على السيد السراج.. سيكون هذا منهاج عمله وهذا ما نأمله. السراج لديه القدرة، ونحن نثق في ذلك. يسود الاعتقاد في أن السراج، بفريقه الرئاسي والحكومي، يمكنه جمع الفرقاء الليبيين في طرابلس وفي طبرق وبنغازي، حول تفاهمات بشأن تقسيم الأدوار لخدمة الدولة، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى تخص شخصيات عسكرية وأمراء حرب.
ووفقا لمصادر في العاصمة، فإن المفاوضات الجارية تشمل أطرافا مختلفة من الشرق والغرب، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تفاهم سريع حول مستقبل المؤسسة العسكرية في الشرق والمسلحين في الغرب. وبالتالي فتح باب الأمل للحكومة الجديدة. الاتصالات الجارية حول تأمين الحكومة تشمل أيضا مشاورات مع أطراف إقليمية ودولية، من أصدقاء ليبيا.. يمكن أن يسفر ذلك عن استقبال السراج وفريقه الرئاسي والحكومي في منطقة محمية، أو ما يطلق عليه البعض «المنطقة الخضراء». هذا اقتراح موجود بالفعل ويمكن أن يكون موقع «المنطقة الخضراء» قرية سياحية محصنة في ضاحية جنزور بالعاصمة.
ولد السراج عام 1960 في طرابلس. وينتمي لعائلة عريقة ومحافظة أثَّرت على نشأته الهادئة ومسيرته السلسة، إضافة إلى طبيعته الصبورة والمثابرة.. تقول السيدة سليم إنها تدعم الحكومة بشكل متكامل، وليس لشخص السراج وحده.. تضيف أنها حضرت لقاءات معه منذ بداية جولات الحوار في عدة بلدان كان من بينها الصخيرات المغربية. خلافا للاعتقاد الذي يردده البعض بأنه كان منعزلا عن أعضاء البرلمان، حيث إنه عضو فيه، تقول السيدة سليم: يمكنني القول إن السراج «رجل متزن ويفتح الفرصة للتفاهم مع الجميع وبين الجميع. كما أنه ليس منغلقا على نفسه».
رئيس حكومة التوافق ليس غريبا عن عالم السياسة والحكم، كما يقول الناشط المحمودي. فوالد السراج عاش في شبابه الزخم القومي الذي كانت تمر به المنطقة، خاصة بعد صعود جمال عبد الناصر على رأس السلطة في مصر، وانشغال الليبيين بتأسيس دولة الاستقلال ووضع الدستور الجديد للبلاد في بداية الخمسينات. ينظر كثير من السياسيين والنشطاء الليبيين للسراج على اعتبار أنه تأثر بوالده الذي يعد من المؤسسين لدولة ما بعد الاحتلال الأجنبي. فقد شغل والده في ذلك الوقت عضوية مجلس النواب الليبي ومواقع وزارية خلال العهد الملكي.
جرى اقتراح اسم السراج للمنصب الجديد، بعد نحو 18 شهرا من المفاوضات المكوكية لحل الأزمة برعاية الأمم المتحدة. لم تكن محاولة سهلة، في بلد غير متمرس على الاختلاف السياسي ويعج بالسلاح والمسلحين. السراج نسيب عائلة تاريخية معتبرة من بلدة مصراتة التي لها كلمة على قسم من ميليشيات طرابلس، ولهذا، كما يفيد مصدر مقرب من المجلس الرئاسي: «نجت اللجنة الأمنية في إيجاد أرضية مبشرة للتفاهم في طرابلس».
عمليا، يواجه السراج تمسك الحكومتين اللتين تعملان في البلاد، بموقعيهما، حيث إنهما ترفضان التخلي عن العمل وتقفان ضده. الحكومة الأولى هي المنبثقة عن البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، وهي برئاسة عبد الله الثني، ويطلق عليها اسم «الحكومة المؤقتة». والثانية منبثقة عن المؤتمر الوطني المنهية ولايته (البرلمان السابق)، وهي برئاسة خليفة الغويل، ويطلق عليها «حكومة الإنقاذ». يأتي هذا بينما توجد في يد السراج ورقة ضغط مهمة مستمدة أساسا من أوروبا والأمم المتحدة، وهذه الورقة تتلخص في تلويح المجتمع الدولي بفرض عقوبات رادعة ضد معرقلي عمل حكومة التوافق.
طوال الخطوات الصعبة التي قطعها الحوار في ليبيا، وحتى نهايته، وقفت دول منها تركيا وقطر والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإيطاليا ومصر وغيرها، مع هذه الجهود أملا في إيجاد حكومة تنهي الفوضى وتتفاهم مع المجتمع الدولي بشأن مواجهة تنظيم داعش. رحبت كل تلك الدول بـ«اتفاق الصخيرات» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ودعت الليبيين إلى الموافقة عليه.
مثل الكثير من القيادات الاجتماعية النسائية والشبابية التي تقف مع الاتفاق الليبي ومخرجاته، تقول مها سليم: نحن لم نؤيد الحوار فقط، بل أخذنا الموضوع بشكل جدي، وبدأنا من داخل الحوار منذ انطلاقه. عكفنا على الكثير من الملفات، واليوم نسعى لرؤية النتيجة، ولهذا أتمنى من الله أن يكتب النجاح للاتفاق السياسي الليبي والمؤسسات المنبثقة عنه، لكي تضع نهاية لمعاناة المواطنين الليبيين.. «توجد مشكلة في السيولة المالية، والناس بشكل عام أصابها اليأس، ونحتاج لأفق جديد».
تخرج السراج في كلية الهندسة (قسم العمارة) في طرابلس عام 1982. ثم استكمل دراسة الماجستير (في إدارة الأعمال) عام 1999 في وقت كان فيه نظام القذافي يخضع لعقوبات دولية، ويقف بصرامة ضد معارضيه، لكن السراج تمكن من تجنب إثارة غضب النظام ولم يعرف له نشاط سياسي يذكر، على عكس كثير من حكام الدولة الجدد ممن لجأوا إلى أوروبا أو قاسوا الأمرين في سجون النظام السابق.
عمل السراج في عهد القذافي في صندوق الضمان الاجتماعي في طرابلس، ولذلك من السهل أن ينتقده من يرفضون تكليفه بحكومة التوافق على أساس أنه «ليس سياسيا مخضرما في ظروف تحتاج لسياسي محنك».
هل سيكون السراج قادرا على قيادة السفينة؟ يقول المحمودي والذي يروج مع مجموعات شبابية أخرى في العاصمة للحكومة التوافقية، ويتواصل مع أعضاء في مجلسها الرئاسي: المواطن الليبي لم يعد لديه اليوم رفاهية الانتظار. لقد مل من طول الجدل بين طرابلس وطبرق وبين المؤتمر الوطني والبرلمان وبين المجموعات المسلحة والجيش. الاتجاه العام اليوم مع الاستقرار.. أي مع توفير الخبز والكهرباء والبنزين. أعتقد أن السراج لديه القدرة على استقطاب الجماعات التي سارعت برفض وجوده في طرابلس أو تلك التي لا تريد لبرلمان طبرق أن ينعقد لمنحه الثقة. هو يعمل على تسوية هذه الملفات دون صخب.
منذ البداية، وفي أول كلمة له موجهة لليبيين، قال السراج: لن تكون بعد اليوم حرب. انتهى زمن الحروب والاستقطاب بين الإخوة. لن أسعى لاستخدام القوة أو التلويح بها. شعاري تعالوا نعمل فسيرى الله عملنا والمؤمنون. لن أهدد ولن أقصي. أمامي لاجئون في الداخل والخارج. أمامي اقتصاد منهار، وارتفاع في الأسعار. أمامي أمن وأمان مفقود. أمامي شعب سيحاسبني الله عليه يوم القيامة إذا أغفلت عن خدمتهم يومًا ما. أمامي مصالحة وحوار وحروب وفتن يجب أن تخمد فورًا. أمامي إرهاب وخطر التطرف ولن أقف صامتًا عنه.
لم يكن السراج وحده في حوار الصخيرات. كان معه قيادات من الغرب والشرق، ظهروا في وسائل الإعلام، لكن يبدو أن رئيس الحكومة الجديد سيجد دعما غير محدود من جانب منظمات المجتمع المدني. يوم أول من أمس التقى السراج في تونس مجددا باثنين من مجموعة «من أجلك ليبيا» كما التقى هؤلاء بباقي أعضاء المجلس الرئاسي.
تقول مسؤولة جمعية الميثاق لحقوق الإنسان، إنها والشخصيات الاجتماعية الأخرى التي تسعى لإنهاء الأزمة الليبية، تقدموا خلال مشوار الحوار بمقترحات في المسودة الأولى والمسودة الثانية للاتفاق. لكنها تضيف أن «حكومة الوفاق الوطني تواجه تحديات صعبة، لا يمكن حلحلتها لوحدها من دون الدعم والمساهمة من جميع القوى الحية في المجتمع المدني».
وعن قضية عدم وقوف السراج وحكومته أمام البرلمان لكسب ثقته أولا، بأغلبية الثلثين زائد واحد، يرى الكثير من النشطاء الليبيين أن هذه ليست مشكلة بعد أن وقع أكثر من هذه النسبة من نواب البرلمان على تأييد الحكومة. وتقول مسؤولة جمعية الميثاق لحقوق الإنسان: لن تكون هناك مشكلة.. أنا مع المائة نائب الذين أعطوا الموافقة للحكومة، لكن لا يخفى على أحد أن هناك من يسعى لعرقلة دعم الحكومة. وتضيف قائلة إن النقطة الأهم أننا «مجموعة تعمل على مساعدة ومساندة من يحترم ويقدر معاناة المواطن وتضحيات هذا الشعب ومطالبه المتواضعة والإنسانية في تأسيس دولة المؤسسات».
ووفقا لمصادر عسكرية تعمل في «المجموعات المسلحة» في طرابلس، فإن مفاوضات اللجنة الأمنية برعاية السراج، تشمل الكتائب والميليشيات، سواء القيادات التي لديها «شرعية تابعة للدولة» أو ليس لديها هذه الشرعية.. «السراج كان حريصا على أن تضم اللجة الأمنية ضباطا من الجيش والشرطة في العاصمة. هم يقومون حاليا بنوع من الحوار مع المجموعات المسلحة. من المستحيل أن تدخل الحكومة إلى طرابلس دون الوصول لحل مع هذه المجموعات.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.