تمثل المسيرة الفكرية لجورج طرابيشي نموذجا للمراحل التي يمر بها المفكرون في التحرر من برمجة الطفولة؛ فهو مسيحي، وقد نشأ شديد التدين، ثم صدمته الوقائع وحاصرته الشكوك، فأبصر الأطواق الثقافية التي طوقته تلقائيا في الطفولة، وتعززت بالتنشئة فأخذ يتحرر من هذه الأطواق واحدا بعد آخر....
إن جورج طرابيشي من أبرز المفكرين العرب القلة الذين واجهوا المجتمع العربي بالحقائق الصادمة التي لا يريد العرب سماعها.. لقد جهر بالنقد الصريح وكانت تحولاته الواعية نموذجا لما يتعرض له الإنسان المفكر، وهو يكتشف بالتدريج حقائق التاريخ ومرارات الواقع.
كان متجها للتعريف بالفكر العالمي بمختلف قطاعاته الفلسفية والأدبية فأصدر كتابه (معجم الفلاسفة) ووعد بإصدار معاجم أخرى للتعريف بأهم الإبداعات في المجال الفلسفي والإبداع الروائي وغير ذلك من مجالات الإبداع... لكن مشروع المفكر محمد عابد الجابري هزه بقوة وغيَّر مساره.. إعجابا به في البداية ثم تفرغ لنقده فصار إنتاجه في نقد الجابري هو الأكثر حضورا وهكذا هو حال المفكرين العرب ترفضهم البيئة وتلفظهم الثقافة السائدة ولا يكتفون بهذا الخنق بل يحارب بعضهم بعضا، فقد أحس الجابري بمرارة قاتلة بهذا الهجوم المركز الذي حاصره به جورج طرابيشي.
لقد انصرف طرابيشي عن مشروعه الأساسي في التعريف بالإبداعات العالمية واستنزف طاقته في نقد الجابري، وفي هذا خسارة مزدوجة فقد حدثت بلبلة قللت من التأثير الإيجابي للمشروع الفكري العظيم الذي أنجزه الجابري.. أما الخسارة الثانية فهي أننا خسرنا توقف طرابيشي عن مشروعه الأنفع في التعريف بالمبدعين العالميين والتعريف بإبداعاتهم.
إن تحولات جورج طرابيشي تؤكد أن التحولات الفكرية الحاسمة لا تُكتسب من الرتابة التعليمية، ولكن أحداثا مزلزلة هي التي تؤدي إلى قلب الاتجاه قلبا كاملا وتغيير المسار، فما حصل لجورج طرابيشي حصل لعظماء الفلاسفة من أمثال ديكارت وكانط وغيرهما، فحدثٌ واحد مزلزل يؤدي إلى نتائج حاسمة لم تكن في الحسبان، ولم ترد في أي مخطط فردي أو جماعي.
وهكذا هو الفكر والعلم والفن وهكذا هو التطور الحضاري لا يسير ضمن مسالك رتيبة وإنما يأتي على شكل طفرات تؤدي إلى تحولات فاصلة في حياة الفرد والمجتمع والعالم.
* مفكر سعودي وعضو مجلس الشورى
طرابيشي أبصر الأطواق الثقافية وتحرر منها
طرابيشي أبصر الأطواق الثقافية وتحرر منها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة