بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967، حصلت التحولات الكبرى في الفكر القومي العربي في اتجاهين: ماركسي، بشكل أساسي، ووجودي ثانيا (وإن لم يرتفع إلى مستوى التبني الفكري الكامل، كما حصل عند عبد الرحمن بدوي مثلا، الذي أطلق عليه جان بول سارتر لقب «الوجودي العربي الوحيد»). لقد كشفت الهزيمة المدوية تهافت الفكري القومي العربي، إذا سميناه كذلك تجوزا، فهو لم يرتفع إلى مستوى بنية فكرية متراصة، بل خليط من مقولات من أفكار اشتراكية عائمة فيما يخص الوحدة والحرية والاشتراكية، وحتى شذرات من الفكر الفاشي فيما يخص الأمة والقومية والدولة، إضافة إلى خليط من أفكار ميشيل عفلق ونديم البيطار، اللذين تبلورت أفكارهما السياسية بتأثير الاشتراكيين الفرنسيين، ولا سيما أندريه جيد ورومان رولان في تصوراتهما الطوباوية عن «المجتمع الإنساني المنشود وقد زال منه الظلم والاستعباد والبؤس والفساد، وتحررت فيه الشعوب والأفراد من كل قهر وضيم». هذه التحولات الكبرى، على مستوى الأفراد والمنظمات السياسية، وخاصة الفلسطينية التي انشقت عن فتح «القومية»، كالجبهة الشعبية، التي انشقت عنها لاحقا الجبهة الديمقراطية لتتبنى «الفكر الماركسي - اللينيني - لم تكن تماما حقيقية، بمعنى أنها لم تستوعب هذا الفكر تماما، وإنما تبنت مقولات من هنا وهنا بشكل انتقائي يتناسب مع ظروفها السياسية والتنظيمية، حاملة معها في تشكيلاتها الجديدة كل موروثها القديم، الذي تجلى في ممارستها العملية والنظرية، أكثر مما تجلى الفكر الجديد».
ويصح هذا الأمر أيضا على المستوى الفردي. قلة فقط قطعت مع ماضيها الفكري، بعد نقد ذاتي شديد، وقراءة واعية لتجاربها الشخصية والعامة، وهما شرطان لازمان لأي تحول حقيقي. ومن هذا القلة، كان جورج طرابيشي، وأسماء أخرى قليلة.
ولأن طرابيشي من طينة أولئك الناس الذي يسائلون أي شيء، ولا يصبغون على أي شيء صفة الإيمان المطلق، سرعان ما أخذ يطرح أسئلته الحارقة على الفكر الماركسي نفسه، وخاصة بعدما «تأدلج» منذ الفترة الستالينية. وكان على حق كامل في نقده، إذ حذر ماركس نفسه من تحويل الماركسية إلى إيديولوجية.
وأذكر أني دخلت في سجالات مع الراحل منذ نحو عشرين سنة حول الماركسية والعالم الثالث، نشرتها جريدة «الحياة» عبر ثلاث مقالات. وكان في رده مهذبا، منفتحا على الآراء التي قد تختلف معه. وأكثر من هذا، نشر هذه السجالات في كتاب له.
كان طرابيشي يسمي هذه الانتقالات محطات، ولكنها في الحقيقة تحولات كبرى، تتوافق مع التطور الكبير، الذي عرفه المجتمع العربي والإنساني عموما منذ النصف الثاني من القرن العشرين. وإذا لاحظنا أن قسما من المثقفين العرب قد «انتكسوا» إلى الخلف بعد خيبات الأمل الكبيرة، وسقوط الأفكار التي كانوا يؤمنون بها، وقسم منهم التجأوا للحلول الشخصية، أو الخلاص الشخصي، فإن طرابيشي بحث عميقا في مشكلات عصرنا الآنية، وأسباب التراجعات والانكسارات، وأسباب النهوض أيضًا، بعيد عن التنظير الذي قد نجده عند كثير من الباحثين والمفكرين، وبذلك ساهم حتى آخر حياته في تنويرنا وإغناء معرفتنا بأنفسنا وشعوبنا ومجتمعاتنا.
ولعل كتابه «هرطقات»، الذي جاء في جزأين، مثال واضح على ذلك على انغماسه الفكري في المشكلات التي نعيش. فقد حذرنا فيه من تنامي ظاهرة الطائفية في أكثر من بلد عربي، ومن تحول الفئوية الطائفية إلى ظاهرة اجتماعية مما يؤدي إلى خلل خطير في تطبيق مبدأ التمثيل الديمقراطي. فإذا كانت الديمقراطية تعني حكومة العدد الأكبر، فإن الأكثرية العددية هي، من المنظور الفئوي الطائفي، أكثرية عمودية لا أفقية، ومجال صراعها مع القوى الأخرى، ليس عبر المؤسسات الدستورية، بل في عمق المجتمع نفسه. الأكثرية هنا ليست أكثرية حزبية أو كتلة سياسية ينعقد عقدها وينفرط داخل البرلمان، بل هي أكثرية طائفية اجتماعية. وهذا يؤدي، بكلمات طرابيشي، إلى تصويت جماعي، ينتصر فيه الناخبون لمرشحهم من دينهم أو طائفتهم ضد المرشح الذي من غير دينهم أو طائفتهم. وفي هذه الحالة، تبتلع السلطة الدولة، وتأكل الطائفة الوطن وهي تسبح باسمه في الجامع والمسجد.
وكم كان طرابيشي صائبا في تشخيصه هذا.
فالطائفية لا يمكن أن تحقق ذاتها سوى بإلغاء الوطن بمعناه الواقعي جدًا، والروحي جدا، بجغرافيته المادية والروحية، التي تحققت عبر التاريخ، مازجة الكل في واحد، والواحد في كل. الوطن هو تجاوز للعشيرة والفئة والملة والطائفة، بعد أن يحتويها جميعا ويرتفع بها، والطائفية معادلة لا تقبل القسمة سوى على واحد. وهي معادلة لا يمكن أن تستمر طويلاً، لأنها تعني الانتحار، لكنها قد تكلف الكثير من الألم والعذاب، كما حصل في فترة الفاشية.
تحولات طرابيشي الكبرى
تحولات طرابيشي الكبرى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة