طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (6 من 7): ميليشيات طرابلس تسعى لتعزيز قواتها بجلب مسلحين من آسيا وأفريقيا

ضمن خططها إغراء أقليات عرقية في الجنوب للتخلي عن مساندة الجيش الوطني

طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (6 من 7): ميليشيات طرابلس تسعى لتعزيز قواتها بجلب مسلحين من آسيا وأفريقيا
TT

طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (6 من 7): ميليشيات طرابلس تسعى لتعزيز قواتها بجلب مسلحين من آسيا وأفريقيا

طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (6 من 7): ميليشيات طرابلس تسعى لتعزيز قواتها بجلب مسلحين من آسيا وأفريقيا

عدة مئات من المقاتلين الأفارقة والآسيويين دخلوا إلى ليبيا بعد أن جلبهم زعماء لميليشيات متباينة التوجهات في طرابلس، بغرض المساعدة في مواجهة قوات الجيش الليبي بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، لكن بمجرد دخول هؤلاء المقاتلين، في الأيام الأخيرة، عبر الحدود البرية والموانئ البحرية، انضموا إلى «داعش»، ما أدى إلى خيبة أمل وخوف داخل العاصمة التي كانت حتى شهور قليلة مضت تخضع لقوة الميليشيات التقليدية.
دخل ليبيا خلال بضعة أيام دفعة جديدة تضم المئات من العناصر والقادة، من أفغانستان وباكستان، ومن الجزائر، ومن تونس والسودان، والنيجر غيرها. المفاجأة أنهم أخذوا في مبايعة «داعش» تباعا. بدأت هذه القصة الخطيرة، أولا، من خلال خطة طرحها في اجتماع عقد في وقت متأخر من ليل يوم 23 الشهر الماضي، عضو في المؤتمر الوطني (المنتهية ولايته)، لجلب مقاتلين من الخارج ومن الأقليات العرقية في الداخل، للرد على تقدم قوات الجيش الوطني الليبي في المنطقة الشرقية.
تتناول الحلقة السادسة من سلسة التحقيقات التي تجريها «الشرق الأوسط» عن التطورات في العاصمة الليبية، مسارات التوافق والتباين التي ظهرت على السطح بين قادة الميليشيات والأذرع السياسية والأمنية التابعة لكل منها، خلال الأيام القليلة الماضية، بشأن كيفية التماسك فوق أرض تبدو غير مستقرة، وآفاق غير واضحة المعالم.
المسألة لا تتعلق فقط باقتحام الجيش لأوكار المتطرفين في بنغازي، ولكنها تخص ملابسات أخرى، مثل الضغط الدولي لفرض الاستقرار في هذا البلد من خلال حكومة الوفاق الوطني التي اقترحتها الأمم المتحدة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، برئاسة فايز السراج.
بعيدا عن الكلام الكثير، يبدو أن ما يجري على الأرض هو الأهم. نعم.. الجيش تمكَّن من توجيه ضربات موجعة للعناصر المدججة بالأسلحة في عدة ضواح في بنغازي، منذ أواخر الشهر الماضي، لكنه لم يستطع فرض السيطرة الكاملة على المدينة حتى الآن.
وفي المقابل بدأ المدد يصل من طرابلس إلى قوات المتطرفين في بنغازي والتي تتكون من خليط من العناصر المنتمية لـ«داعش» و«الإخوان» والجماعة الليبية المقاتلة (القريب من تنظيم القاعدة). حدث هذا عقب قرارات سريعة اتخذها، بشكل منفرد، قادة من الميليشيات ومن «داعش»، إلا أن الهدف كان واحدا؛ ألا وهو العمل على إحباط تقدم القوات المسلحة.
قبل أن يجلس قادة الميليشيات في طرابلس ليضعوا الخطة (التي قلبت توازنات القوة لصالح «داعش»)، كان المقاتلون والأسلحة والأموال قد بدأت تتدفق على الجبهة الشرقية بالفعل.. هجمات مرتدة من جانب المتطرفين، تعززها دعوات حماسية عن «النفير العام» و«الجهاد ضد الكفار والعلمانيين وأنصار النظام السابق»، ومقولات من هذا القبيل..
في الخلفية كان بعض القادة يخشون من العواقب، ويبحثون عن مخرج آخر، بيد أن أصواتا كهذه كانت خافتة وبعيدة عن التأثير. أما الإجراءات العملية التي ترتبت على التعليمات السريعة لكثير من قادة التنظيمات في طرابلس فكانت كالتالي.. أولا تخصيص 15 مليون دولار لمساندة المقاتلين المتطرفين في بنغازي. ثم زيادة المبلغ بعد ذلك بيومين إلى 200 مليون دولار ليشمل جلب مئات المقاتلين من قبائل في جنوب ليبيا، وعناصر متشددة من دول أفريقية وآسيوية، لتعويض الخسائر في الأرواح.
هنا بدأ السؤال: مَن الذي ستكون له الكلمة العليا في إدارة مجرى العمليات. «داعش» أم «الإخوان» أم «القاعدة». في مكاتب طرابلس بدأ كل طرف يعمل من خلف الستار خوفا من التطورات المقبلة. لقد قتل في اليوم الأول لهجوم الجيش على بنغازي، وفقا لإحصاءات اطلعت عليها «الشرق الأوسط» في محاضر اجتماعات في العاصمة، وتنشر للمرة الأولى، 250 عنصرا، من حي الليثي فقط.
وارتفع عدد القتلى في اليوميين التاليين إلى 319 في صفوف جبهة المتطرفين في عموم بنغازي، بحسب تقرير أعده اثنان من قادة طرابلس، وأمكن الاطلاع عليه أيضا، الأول يلقب بـ«الشيخ أبو حازم» من «الجماعة الليبية المقاتلة»، والثاني يدعى «الشيخ رشيد»، من تنظيم «جند الحق». وهما، وفقا لمصادر أمنية في طرابلس، من القيادات التي تتعاون في الخفاء مع «داعش».
هكذا كانت الأمور تجري.. اتفاق عام، معلن، على «انتفاضة ضد حفتر»، وخلاف عام، خفي، بين الجماعات الثلاث؛ «داعش» و«الإخوان» و«المقاتلة».. عزز من الصراع بين هؤلاء، الذي ما زال مستمرا حتى الآن، تباين مواقف بعض القوى الإقليمية التي اعتادت منذ عام 2011 دعم الميليشيات الليبية عموما تحت اسم «دعم ثورة الليبيين ضد القذافي»، مع أن «الثورة انتهت والقذافي قتل، والدنيا تغيرت»، كما يردد أحد الضباط السابقين في يأس، وهو يشاهد الخراب الذي دمر البلاد.
التقدم الذي أحدثه حفتر لم يربك الحسابات المحلية فقط، ولكن وصل تأثيره إلى إقليم منطقة الشرق الأوسط، وإلى عواصم دول غربية. بدأ الحديث عن الحاجة لوقف إطلاق النار وإيجاد ممرات إنسانية. كان الكثير من المتطرفين في بنغازي يصرخون مطالبين قادتهم بالمدد.. الجبهة آخذة في الانهيار. ولجأ المقاتلون في الجناح الغربي من المدينة إلى احتجاز عائلات بأكملها داخل الضواحي الضيقة.
«هذا وضعكم.. فقولوا لي كيف يمكن أن نساعدكم؟». جاءت هذه الكلمات على لسان مسؤول عسكري إقليمي، بعد أن حط بطائرته على عجل في مطار مصراتة. لقد وصل يوم 23 الشهر الماضي أيضا، وقال في اجتماع عقد في الساعة السادسة مساء في المدينة نفسها، وحضره زعيم في الجماعة المقاتلة من طرابلس، إن «حفتر وأنصار القذافي أخطر من داعش». ونصح المتشككين والخائفين من تنامي تنظيم داعش في ليبيا، بطرد هذه الهواجس من رؤوسهم، والتحالف، جميعا، من أجل مواجهة «من يسعون للانقلاب على ثورة 17 فبراير».
المشاورات لا تتوقف. غادر المسؤول العسكري الإقليمي إلى بلاده، ورجعت القيادات لاستكمال الاجتماعات في العاصمة. في الأثناء كان سيل من «برقيات النصائح» يصل إلى عدد من القادة في طرابلس، من بينها رسالة وصلت من جهاز مخابرات تابع لدولة إسلامية في البحر المتوسط، تدعو إلى تركيز القتال ضد حفتر والمواليين للقذافي، بدلا من الخوف من «داعش».
وقال نص الرسالة التي اطلعت «الشرق الأوسط» على فحواها: حفتر يتلقى أسلحة من دولة (كذا وكذا) وأنصار القذافي ينشطون، ولا بد من تحجيمهم في مناطقهم.. هذه المناطق تُعطى الأولوية، من جانبكم، قبل أي قلق من سرت (التي يسيطر عليها «داعش»)، لأن المناطق التي دخلها حفتر وأيضا المناطق التي يوجد فيها أنصار القذافي، أخطر على ثورة 17 فبراير وعلى استقرار الوضع في ليبيا من تنظيم الدولة (داعش)».
أحد الاقتراحات المثيرة للجدل، الذي جاء ضمن خطة مواجهة حفتر المشار إليها، تقدم به في اجتماع العاصمة، عضو في المؤتمر الوطني المنتهية ولايته، والمعروف عنه ولاؤه القديم لتنظيم القاعدة. تحدث عن ضرورة نشر قوة أكبر في جنوب البلاد، ودعمها بالمعدات والذخائر، ومحاولة استقطاب عناصر من قبائل «التبو» و«الطوارق»، وإبعادها عن القبائل ذات الأصول العربية التي تتعاون معها، مثل قبيلة «المقارحة» و«القذاذفة» و«ورفلة». ومن ثم، أي بعد تجميعهم، يدخلون للمعاونة في الحرب.
وقال العضو، وهو أصلا من أبناء الجنوب الليبي، إنه بصدد الاتصال بمجموعات من شمال مالي وأخرى موجودة في منطقة جبال تبستي في جنوب ليبيا «بهدف منحها الجنسية الليبية، بأثر رجعي، وتشكيل قوة منها، تتمركز أولا في موقع خلف البوابة رقم 17 الموجودة جنوب مدينة سبها، قبل نقلها إلى بنغازي وسرت». الهدف من هذا كما تقول مصادر الميليشيات، جمع قوات إضافية يمكنها مؤازرة العناصر التي تحارب الجيش الوطني في الشمال.
لم يعجب هذا الطرح بعض القادة ومن بينهم مسؤول في ميليشيا «قوة الردع الخاص» يدعى حمزة. أعرب هذا المسؤول عن مخاوفه من أن تنضم العناصر الجديدة، بعد جلبها من الخارج أو من الجنوب، إلى تنظيم داعش. وقال، وفقا لمحضر الاجتماع: «من الممكن أن تنتمي هذه المجموعات لتنظيم داعش، ويصعب السيطرة عليها بعد ذلك، ونصبح أمام عدو آخر».
واتضح من الردود التي شارك فيها زعماء في «القاعدة» (الجماعة الليبية المقاتلة) وفي تنظيم الإخوان، أن هناك محاولات لاستعادة تحالف الجماعات المتطرفة في بوتقة لا يكون عليها خلاف، وهي أن كل عناصر هذه الجماعات ما زالوا «ثوارا» ضد أنصار القذافي. قال عضو آخر في المؤتمر الوطني: «أي داعش هذه التي تتحدث عنها.. هل أنتم تصدقون وجود تنظيم داعش في ليبيا. هذه أكاذيب الأميركان والغرب. إنهم يقولون عنا إننا نحن أيضا داعش، بينما نحن ثوار، ولا علاقة لنا بداعش التي لا وجود لها مطلقا».
أثار كلام عضو المؤتمر بعض الحاضرين في الجلسة، خاصة أن تنظيم داعش أصبح منتشرا بالفعل في عدة مدن ليبية، بطريقة لم تعد تخفى على أحد. وعلى ذلك استطرد العضو نفسه، قائلا: «هؤلاء (أي من يقال عنهم إنهم داعش)، إخوتنا.. اختلافنا معهم في بعض الأحكام الفقهية، وهم على صواب، ونحن على صواب.. الاختلاف رحمة».
تمت الموافقة على الخطة، لكن على مضض.. أحد مصادر الميليشيات، الذي يعرف باسم «الأفندي» كان في الماضي ضابطا برتبة مقدم في الجيش الليبي، يقول معلقا إن الخيارات كانت صعبة أمام الجميع.. «ولهذا كانت النهاية هي استحسان مسألة دعم قوات إضافية لتعزيز الموقف ضد جيش حفتر».
التوصيات التي جرى رفعها للقيادات العليا في العاصمة، تنص على «تشكيل قوة عسكرية من مالي وتيبستي واستعجال جلب مقاتلين من دول أخرى منها الجزائر والسودان والنيجر».
بعض القيادات الكبيرة في جهاز مخابرات طرابلس ينتمي إلى مدينة مصراتة، ولديها علاقات قوية مع زعماء من جماعة الإخوان في عدة مدن. ويفترض أن الجهاز يرفع تقاريره إلى رئاسة المؤتمر الوطني. أحد ضباط المخابرات وهو برتبة نقيب، يقول لـ«الشرق الأوسط»: في الحقيقة نحن لسنا سلطة تنفيذية، لكن الهدف هو الحفاظ على ليبيا، بغض النظر عن التوجهات السياسية. عقب الخطة المشار إليها، رصدنا دخول 300 مقاتل من النيجر ومالي وموريتانيا عبر السودان. والجهاز قدم تقريرا قال فيه إن هذا أمر خطير.
اتضح بعد ذلك أن عضو المؤتمر صاحب خطة الاستعانة بعناصر أجنبية، هو من أشرف على إدخال المقاتلين بالتنسيق من البر والبحر. قال الضابط نفسه: «هذه أخطر وأكبر عملية إدخال متطرفين بهذا العدد»، مشيرا إلى أنه جرى بعد ذلك بعدة أيام إدخال أعداد كبيرة، عبر الصحراء الشرقية لليبيا.. مصادرنا السرية من خبراء الصحراء على الحدود، شاهدوا دخول مجموعات بالعشرات، فالتقوا بهم وشربوا معهم الشاي، وعرفوا وجهتهم.. أبلغونا أنهم مصريون وفلسطينيون جاءوا لمبايعة داعش».
وفي درنة بدأت تظهر مجموعات أخرى وكذلك في سرت. يقوم بالتنسيق بين هؤلاء، الذين يتحركون تحت رايات «داعش» السوداء، قيادي جزائري اسمه «مواسي». علمت «الشرق الأوسط» أن «مواسي» كان في الأصل ينشط في الجنوب الليبي مع جماعة القيادي الجزائري في تنظيم القاعدة، مختار بلمختار، حيث تقول المعلومات إنه عمل مساعدا له لبعض الوقت، وبدأ يظهر أخيرا كقائد داعشي يمكن الاعتماد عليه في ليبيا.
ومن بين سطور التقارير الأمنية التي تخص هذا القائد «مواسي»، أنه انضم لـ«داعش» مع عشرات من المقاتلين الجزائريين، إلا أنهم «ظلوا في ليبيا خلايا نائمة، إلى أن أعلنوا عن وجودهم وانتمائهم الحقيقي». ويقول ضابط مخابرات ليبي في طرابلس: «عدد مجموعة مواسي زاد في الفترة الأخيرة بعد أن انضم إليه عرب آخرون من تونس ومصر والسودان جاءوا ضمن خطة جلب المقاتلين من الخارج.. مجموعته اليوم تملك إمكانات كبيرة، تمكنت من الاستيلاء على شحنة أسلحة كانت قادمة من البحر إلى مصراتة.. استولى عليها في عرض البحر، وأخذوها إلى سرت».
بحسب تقارير أخرى تخص شركات أمن غربية تعمل في العاصمة الليبية، يتواصل «مواسي» في الوقت الحالي مع مكاتب لعدد من قادة الميليشيات في طرابلس وينسق تحركاته معهم. كما إن له علاقات مع مكتب تنظيم داعش في طرابلس، من خلال داعشي مصري في المكتب يدعى «إسلام».
تضيف هذه التقارير أن «مواسي» لديه مجموعة أخرى من المقاتلين الذين دخلوا بالفعل إلى ليبيا من جنوب البلاد. كما أدخل عدة عشرات من المتطرفين عن طريق واحة الكفرة، إلى جهة منطقة الشاطئ. هذه المجموعة الجديدة كانت بقيادة رجل من تنظيم بوكو حرام اسمه «رحم الله».
تبين بعد ذلك بعدة أيام أن «مواسي» وثق علاقاته مع قياديين داعشيين آخرين، أحدهما باكستاني الجنسية يدعى «نصر الحق» والثاني كويتي يلقب بـ«الهاجري»، بعد أن وصلا إلى ليبيا، واستقرا على مشارف مدينة إجدابيا التي تعد أقرب منطقة مواجهات بين الجيش الليبي والمتطرفين، أي الجهة الغربية من بنغازي.
الولاء لـ«داعش» يحدث بشكل سريع بين المقاتلين الجدد القادمين من وراء الحدود. من المجموعات التي وصلت من الجنوب حديثا أيضا، من ناحية منطقة أوباري، عدد يصل إلى نحو 45 سيارة دفع رباعي تحمل مقاتلين جنسياتهم نيجيرية ومالية وسودانية. كان يفترض أن تتوجه هذه القافلة، وفق الخطة، إلى قيادات الميليشيات التقليدية في طرابلس، للتنسيق بشأن الحرب في بنغازي، لكن «طابور السيارات توجه إلى مركز تنظيم داعش في سرت».
وتبقى خطة عضو المؤتمر الوطني مصدر خوف للجماعات التي تخشى من تغوّل «داعش» وتسرب مقاتلي الميليشيات إلى العمل مع التنظيم الدموي.. لقد تبين كذلك أن القائد الأفغاني في تنظيم القاعدة، والمعروف باسم «الشيخ مسعود حق الدين»، بايع، قبل وصوله إلى سرت بأيام، الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي، بعد أن كان زعماء في الجماعة المقاتلة في طرابلس يعتقدون أنه ما زال مواليا لهم باعتبارهم الأقرب إلى «القاعدة».
ويلقب «الشيخ حق الدين»، بأنه «عاشق إقلاق العواصم»، بسبب ما ينسب له في بعض التحقيقات الأمنية من مسؤولية عن عمليات تفجير شهدتها عواصم آسيوية وعربية في السنوات الماضية. وجاء إلى سرت من سوريا لكن عبر تركيا، مع مجموعة من المقاتلين الأفغان والباكستانيين والعرب.
كما جرى جلب قيادي متشدد من أصل فلسطيني من جنوب أفريقيا، بواسطة اثنين من «الجماعة الليبية المقاتلة». اسم هذا الرجل «سراج الدين». الهدف المساعدة، مع المقاتلين الآخرين، في مواجهة الجيش الوطني، إلا أنه، وبعد أن كان مواليا لتنظيم القاعدة، انشق فور وصوله من جنوب أفريقيا، وأعلن الولاء لزعيم «داعش».
الفلسطيني المشار إليه يلقب في بعض الملفات الأخرى بـ«الشيخ أبو عبيدة»، وتشير سيرته إلى أنه «سبق وفر خارج ليبيا، بعد ورود اسمه في حوادث التفجيرات في فندق المهاري في طرابلس في صيف عام 2013».. وأنه «وصل أخيرا إلى ليبيا عبر تونس، رفقة قياديين داعشيين تونسيين أحدهما يدعى صفوان والآخر أبو ليلى». ومثل هذه التحولات في الولاء أصابت الخطة بالارتباك، وتبادل الاتهامات بين الكثير من زعماء الميليشيات في العاصمة.
غدا في الحلقة الأخيرة:
* ميليشيات تأثرت بها.. وبعضها يتفاخر بامتلاك منظومة «للتجسس والتصفية»
* صراع أجهزة المخابرات ينهك الجسد الليبي ويحول طرابلس إلى مدينة للرعب



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».