طرابلس.. مدينة السلاح والميليشيات (5 من 7): شخصيتان لزعيم داعش «المدهوني» تربك الاستخبارات

«الشرق الأوسط» تكشف هويتهما.. الأول تربطه علاقة مع إيران.. والثاني مهندس إنشاءات عسكرية

أحد عناصر «داعش» يترصد قوات الجيش الوطني الليبي في كمين قرب منطقة الفتايح («الشرق الأوسط»)
أحد عناصر «داعش» يترصد قوات الجيش الوطني الليبي في كمين قرب منطقة الفتايح («الشرق الأوسط»)
TT

طرابلس.. مدينة السلاح والميليشيات (5 من 7): شخصيتان لزعيم داعش «المدهوني» تربك الاستخبارات

أحد عناصر «داعش» يترصد قوات الجيش الوطني الليبي في كمين قرب منطقة الفتايح («الشرق الأوسط»)
أحد عناصر «داعش» يترصد قوات الجيش الوطني الليبي في كمين قرب منطقة الفتايح («الشرق الأوسط»)

في بداية إعلان تنظيم داعش عن نفسه في ليبيا، بمدينة درنة أولاً، عام 2014، ثم انتقاله إلى سرت في صيف العام الماضي، ظهر اسم رجل غامض في ملفات المراقبين الأمنيين الذين يتابعون التحولات الجارية في هذا البلد الذي يموج بالفوضى. ظهر من رصد المراكب التي تنقل المتطرفين والأسلحة عبر البحر المتوسط، تردد اسم الرجل ولقبه، لكن الأوصاف التي تأتي من المصادر السرية كانت دائما تعطي انطباعا بأنهما اثنان وليس شخصا واحدا.
اللقب هو «المدهوني»، وحين انتقل التنظيم للعمل من خلال العاصمة طرابلس، تبين أن هناك شخصية داعشية أخرى بالفعل تحمل اللقب نفسه، وأنه ربما كان هو الزعيم الحقيقي، أو أنه هو الرجل ذاته، لكنه يناور للهروب من الرقابة، وتطلب الأمر مزيدا من العمل لمعرفة الملابسات حول هذه القضية. حدث ذلك بالتزامن مع اتجاه أنظار العالم إلى ليبيا بصفتها بؤرة جديدة لـ«داعش»، بعد الضربات التي تلقاها التنظيم في العراق وسوريا.
يقول ضابط استخبارات غربي متقاعد يعمل انطلاقا من طرابلس، لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لنا في الشركة (شركة أمنية)، لاحظنا منذ البداية أنهما اثنان.. أحدهما هو القائد الفعلي للتنظيم».
بينما يشير مصدر أمني آخر يعمل في شركة «ستراتفور» المتخصصة في عمليات الاستخبارات الجيوسياسية وتوفر التحليل الاستراتيجي والتنبؤ، للأفراد والمنظمات في جميع أنحاء العالم، إلى أنه أمكن الحصول على صورة لواحد من الرجلين.. «لقد اعتقل أخيرا وهو على مركب يحمل أسلحة في البحر المتوسط».
كانت أوروبا تشعر بالقلق من تنامي «داعش» على سواحلها الجنوبية، خصوصًا عقب تفجيرات باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وما تبعها من تهديدات التنظيم بـ«غزو أوروبا» و«فتح روما»، انطلاقا من ليبيا. جرى رصد انتقال مئات المقاتلين من مواجهات العراق وسوريا إلى شمال أفريقيا، والتمركز في ليبيا.
على هذا بدأت طلائع الفرق الأمنية الغربية تصل إلى كل من طبرق وبنغازي وطرابلس، لمراقبة الوضع، واختبار الخيارات المطلوبة للجم قوى التطرف. وحصلت «الشرق الأوسط» من مصادر في «ستراتفور» على تفاصيل عن معسكرات لضباط أمن غربيين حطوا في مواقع محمية من جانب قوات محلية في ليبيا.
لقد أربك تشابه لقب «المدهوني» مسار التحقيقات لعدة أسابيع. يرجع السبب في الأساس إلى حالة الغموض والبعد عن الأضواء، وهي من التعليمات الصارمة التي ينفذها قادة «داعش» المنتشرون في عدة مدن في شرق ليبيا وغربها، وفي بعض مناطق الجنوب أيضا، وفقا للمصادر الأمنية.
ويضيف ضابط المخابرات السابق أنه «في البداية جرى تتبع المعلومات الموجودة سلفا، التي وافتنا بها مصادر ليبية سرية في مدينة درنة.. وتتحدث عن أن لقب الزعيم الخفي للدواعش في المدينة هو (محمد المدهوني)، وأن أوصافه كذا وكذا، لكن بعد أن ظهر (داعش) في طرابلس، بدأت ترد معلومات تتضمن أوصافا مختلفة عن رجل يحمل اللقب نفسه».
يقول المثل الشائع في أوساط الضباط المتقاعدين في الشركات الأمنية الغربية: «نفِّذ الأمور بسرعة.. لكن ببطء». هذا يعني أنه عليك أن تنجز المطلوب منك في أقل وقت ممكن، لكن بشرط أن يأتي الناتج على أكمل وجه.. «حين أصبح لقب (المدهوني) يتردد بوصفه زعيما لـ(داعش) في ليبيا»، كما يقول الضابط نفسه، «وجدنا أنه شاب عمره 34 عاما، ينشط في تحريك شحنات الأسلحة بين المجاميع المتطرفة في ليبيا وعبر الحدود، لكن المعلومات المسبقة التي كانت لدينا تقول إن سنَّه أكبر من ذلك بكثير، وإنه ذو خبرة ليست هينة. كان الأمر محيرا بطبيعة الحال».
يحمل كثيرٌ من الليبيين والعرب أسماء مماثلة للقب «محمد المدهوني»، لكن كان الأمر مختلفا في مناطق نفوذ الدواعش في درنة وسرت وطرابلس، لارتباط الاثنين اللذين يحملان اللقب نفسه بتحركات التنظيم المتطرف، سواء عبر الموانئ البحرية على شواطئ ليبيا، أو على الأراضي الممتدة بين جانبي البلاد.
المصادر الأمنية كشفت عن أن الأول، الذي يعد أكبر قيادي في «داعش ليبيا»، في الوقت الراهن، ليبي من العائدين من سوريا، ويحمل جواز سفر عراقيًا، والاسم المدون في جواز سفره هو «محمد المدهوني»، (الاسم مكتوب ثلاثيا)، ويقيم في الوقت الحالي في منطقة عين زارة في طرابلس، ورتبته في سجلات دولة الخلافة المزعومة في العراق هي: «أمير ديوان الفقه والإرشاد والتجنيد في دولة الخلافة الإسلامية في ليبيا».
أما الثاني، الذي تفيد المصادر بأنه أصغر سنا، وأنه معتقل حاليا في إحدى دول البحر المتوسط، فاسمه في جواز السفر هو «محمد المدهون» (الاسم مكتوب رباعيا، واللقب الأخير من دون حرف الياء في نهايته). أما مهنته الأساسية، فمهندس إنشاءات عسكرية منذ عهد القذافي.
تقول التفاصيل التي تخص «المدهوني» الكبير، والتي اطلعت عليها «الشرق الأوسط» من تحقيقات مصادر استخباراتية غربية في العاصمة، إنه من مواليد مدينة طرابلس الغرب، سنة 1953، وأن مقر إقامته القديم (قبل أن يغادر ليبيا في ثمانينات القرن الماضي، للقتال في أفغانستان)، هو منطقة «عين زارة» بوسط العاصمة، وأنه بعد أن دخل إلى ليبيا مجددا.. «ظهر، أول الأمر، في درنة، ثم انتقل في 2015 إلى الموقع السابق نفسه، أي في عين زارة».
تعود بداية الصدام بين المدهوني الكبير والسلطات الليبية إلى عام 1988، وذلك حين فتح جهاز الأمن الداخلي في عهد القذافي تحقيقا بشأن علاقة هذا الرجل بعملية هدم المقابر التي كانت تقوم بها بعض الجماعات الناشئة في ليبيا في ذلك الوقت. وورد اسم «المدهوني»، للمرة الأولى، في واقعة هدم مقبرة «سيدي المنيذر» في وسط طرابلس.
يعتقد أن «المنيذر» المعروف في كتب التاريخ باسم «الأفريقي»، من المسلمين الأوائل الذين شاركوا في فتح شمال أفريقيا، ودخل الأندلس مع جيش موسى بن نصير. وتعرضت مقبرته للنبش مجددا بعد سقوط نظام القذافي من جماعات غير معروفة.
مسؤول أمني معني بمتابعة خط سير المدهوني الكبير، يقول إنه يبدو أن الرجل فرَّ بعد تحقيقات الثمانينات حول الجماعات التي تهدم القبور، من ليبيا إلى أفغانستان، حيث ظهر اسمه أولا في قوائم «المجاهدين العرب» وهم يحاربون القوات الروسية هناك، ثم جاء اسمه، بعد ذلك، بوصفه أحد «الأفغان العرب» الذين يحاولون العودة إلى بلادهم في تسعينات القرن الماضي.
المعلومات تشير إلى أن المدهوني حاول دخول ليبيا في أواخر التسعينات، عن طريق السودان، إلا أن المواجهات التي اندلعت في ذلك الوقت في منطقة الجبل الأخضر شرق ليبيا، بين المتشددين ونظام القذافي، أجبرته على العودة مرة أخرى إلى أفغانستان، حيث ظل هناك إلى أن وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، في الولايات المتحدة الأميركية.
وقتها تمكن الرجل من الدخول من «أبواب اللجوء» التي فتحتها إيران للعشرات من قيادات تنظيم القاعدة العرب الفارين من «الغزو الأميركي والدولي» لأفغانستان. وأقام لمدة في شرق طهران «حيث كان يتلقى إعانة ورعاية». وفي عام 2012، وفقا للتحقيقات، تبيَّن أن المدهوني حصل على جواز سفر عراقي، منسوب صدوره لمدينة بغداد، وبدأ في التواصل مع بعض قيادات الحكم الجديدة التي جاءت بعد مقتل القذافي.. «أي قيادات من بين أولئك الذين كانوا يرفعون شعار تطبيق الشريعة الإسلامية في ليبيا».
يقول أحد الضباط المتقاعدين ويعمل في شركة أمنية غربية في طرابلس: «هذا الرجل (المدهوني) بدأ بالفعل في الاتصال بقيادي كبير في المجلس الانتقالي الليبي. وفي عام 2013 توطدت علاقته، مثل متشددين ليبيين آخرين، بقيادي المجلس الانتقالي المشار إليه».
يبدو من أوراق التحقيقات أن أطرافا أخرى معنية بليبيا شعرت بغرابة التواصل بين المتطرفين العائدين من «الجهاد» في آسيا، والقيادي الليبي الذي كان قد ترك المسؤولية في المجلس الانتقالي بعد تسليم السلطات إلى البرلمان المنتخب منذ عام 2012. حين سُئل عن طبيعة هذه الاتصالات، وأن هناك شخصيات خطرة من بين المتشددين يمكن أن يثيروا القلاقل مستقبلا في هذا البلد، قال هذا المسؤول إنه يعتقد أن المدهوني «ذو نهج وسطي»، وأنه «غير متشدد ولا متطرف».
الوثائق التي اطلعت «الشرق الأوسط» على جانب منها تضيف أن المدهوني ظهر في ليبيا بالفعل عام 2013 بجواز السفر العراقي، لكنه اختفى مجددا لعدة أشهر، قبل أن يتم رصده ضمن ما كان يعرف بـ«لواء الأمة» في سوريا، وهي خلية كانت تضم متطرفين عربًا التحق كثير من عناصرها، فيما بعد، بتنظيم داعش، وأسسها ليبي من أصل آيرلندي، يعيش حاليا في طرابلس ويشغل فيها منصبا في الحكم المحلي للعاصمة التي تسيطر عليها الميليشيات.
في طرابلس يقول أحد المقربين من مؤسس «لواء الأمة» الذي أصبح من المسؤولين في العاصمة، إن المدهوني ومعه قيادي آخر يدعى «أبو حفص الليبي» كانا من بين قيادات «اللواء» الليبيين، ممن بدأوا يتجهون، في سوريا، للانخراط في تنظيم داعش، بدلا من التركيز على مشاركة قوى المعارضة السورية في حربها ضد نظام بشار الأسد. وبسبب إصرار كثير من السوريين، خصوصا «الجيش الحر»، على الابتعاد عن خطط «داعش» والتركيز على محاربة جيش النظام السوري، توجه المدهوني إلى العراق.
الظهور الجديد للمدهوني داخل ليبيا كان مع إعلان تنظيم داعش عن وجوده في البلاد في أواخر عام 2014. استقر به المقام، أول الأمر، في مدينة درنة الساحلية. تضيف المصادر أنه أقام لدى رجلين معروفين بأنهما من قيادات تنظيم القاعدة، الأول يلقب بـ«بن قمو»، والثاني بـ«عزوز». تشير التحقيقات إلى أن المدهوني قاد كثيرا من المعارك في درنة لتمكين «داعش» من المدينة، وضم جماعات أخرى له، من تنظيم «أنصار الشريعة»، سواء الليبي أو التونسي أو المصري.
حصار الجيش الليبي لمدينة درنة وحربه في مدينة بنغازي، جعل تنظيم داعش ينتقل، في صيف العام الماضي، سريعا إلى سرت مسقط رأس القذافي، وتقع على مشارف الهلال النفطي، وهي منطقة تضم أكثر من 60 في المائة من مخزون النفط الليبي. يقول ضابط أمن ليبي يعمل في جهاز المخابرات في طرابلس: «اسم الشخص الذي نقل تنظيم داعش إلى سرت هو (أبو معاذ)». لكن الضابط الأميركي المتقاعد يقول وهو يجلس في فيلته على شاطئ طرابلس: «تبين فيما بعد أن (أبو معاذ) هو (المدهوني الكبير) نفسه».
يعتقد المحققون أن المدهوني متزوج من اثنتين؛ واحدة ليبية، والأخرى سورية. وتوجد نحو خمس ورقات، أمكن الاطلاع على الأسماء الواردة فيها، ويظهر منها أن المدهوني لديه علاقات واسعة بأطراف في الداخل الليبي، وشخصيات أخرى كان على علاقة بها في أفغانستان وباكستان وتضم، بالإضافة إلى الشخصيات «الجهادية» الآسيوية، جزائريين ومصريين وموريتانيين ويمنيين وآخرين من الخليج. أما في داخل البلاد، وبالإضافة إلى اتصالاته القديمة مع أعضاء في المجلس الانتقالي، فقد رصد المحققون اتصالات به تجريها قيادات ليبية «تتحرك في ثوب سياسي»، وأخرى من عدة ميليشيات متطرفة في كثير من المدن الليبية.
لقد تطورت طريقة عمل المدهوني بعد انتقاله من سرت إلى طرابلس في مطلع العام الماضي. أوراق التحقيقات تشير إلى أنه تمكن من اتباع طرق توصف بالمتقدمة في العمل، والانتشار في العاصمة.. هو على اتصال مستمر برجل يدعى الشيخ ياسين في مكتب «الخليفة» المزعوم أبو بكر البغدادي. كما استقبل قيادات متطرفة من بلاد مختلفة طوال الشهور الماضية، بعضهم تسلل إلى طرابلس عبر الأراضي السودانية، والبعض الآخر من الأراضي الجزائرية، إلى جانب التونسيين الأقرب إلى مقره في «عين زارة» في طرابلس.
وللرجل معسكرات ومقرات في العاصمة وما حولها، من بينها معسكر مجاور لمطار «امعيتيقة» الذي يقع تحت سيطرة الميليشيات في طرابلس، وهو المطار نفسه الذي وصلت عن طريقه ثلاث فرق أمنية أميركية على الأقل، بمعداتها، خلال الشهرين الأخيرين. كما يقيم في بعض الأحيان في منتجع على البحر بجوار شاطئ القربولي، في العاصمة، يسميه «دار الحسبة»، ولديه مقر صغير آخر اسمه «المشتل» غير بعيد عن مقر منظمة الصحة العالمية في طرابلس.
بحسب إفادة من مصدر أمني في مخابرات العاصمة الليبية، فإن المدهوني لديه إمكانات مالية هائلة، وغالبا لا يظهر بنفسه في الواجهة. يقول إن الرجل تعرض للتوبيخ من «الشيخ ياسين» الموجود في مكتب البغدادي.
يضيف قائلا إن «من يديرون الأمور للمدهوني في طرابلس، مجاميع مختلفة؛ سواء تلك التي تعمل تحت اسم (داعش)، أو عناصر وقادة آخرين في عدة ميليشيات يتعاونون معه في الخفاء.. يبيعون له شحنات أسلحة، بما فيها كميات من غاز «السارين» المحرم دوليا (من مخلفات مخازن القذافي) ويقدمون له المعلومات».
وللتحقق من معلومات عن وقائع أخرى حصلت عليها «الشرق الأوسط» من مصادر في ميليشيات طرابلس، بشأن امتلاك «داعش ليبيا» القدرة على مراقبة تحركات المسؤولين والشخصيات الكبيرة في العاصمة، قال مسؤول في شركة أمن غربية: «ما لدينا من تقارير تؤشر إلى أن (داعش) في طرابلس لديه قدرات كبيرة وصلت إلى درجة إرسال مساعدات مالية إلى العناصر المنتمية للتنظيم في المنطقة.. لديه كذلك منظومات متقدمة باهظة الثمن لمراقبة الهواتف».
من جانبه، يضيف المصدر في مخابرات العاصمة أنه لوحظ أن المدهوني يصر على لف نفسه بالغموض.. «طبعه العام يتسم بالهدوء، والابتعاد عن المشكلات مع الخصوم والأنصار.. كأنه مدرب جيدا، فهو لم ينفعل رغم كثير من المواقف التي مرت عليه وعلى أتباع التنظيم، ليس في طرابلس فقط، ولكن في سرت وبنغازي ودرنة وصبراتة».
يبدو أن محققي الاستخبارات الغربية والليبية في طرابلس تيقنوا، في نهاية المطاف، من شخصية «المدهوني الكبير» الذي يبغ عمره 63 عاما، حيث إنها تختلف تماما عن «المدهون الصغير (من دون حرف الياء)» الذي يبلغ عمره 34 عاما، وفقا لما ورد في معلومات جواز سفره الليبي (حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه ضمن أوراق من محاضر التحقيقات).
أما قبل سقوط نظام القذافي، فقد كان «المدهون» يعمل مهندسا إنشائيا، بعد تخرجه في معهد للهندسة البحرية، حيث إنه أشرف على الإنشاءات الخاصة بكثير من المقار العسكرية التي كانت تابعة للجيش في عموم البلاد أيام النظام السباق، ومنها «معسكر الرحبة» و«معسكر المدفعية» في طرابلس، و«معسكر رحبة الدروع» في الجفرة.
يضم ملف «المدهون»، معلومات أقل من تلك التي تخص «المدهوني»، منها على سبيل المثال أنه من مواليد منطقة تاجوراء في العاصمة، وأنه متزوج وأب لطفلة، ويتقن اللغة الإنجليزية. كما كان من عناصر «الجماعة الليبية المقاتلة» بعد مقتل القذافي، ثم انضم إلى «داعش»، وأصبح من المسؤولين العسكريين والضالعين في تمرير شحنات الأسلحة للتنظيم، ليس في ليبيا فقط، ولكن في دول بالمنطقة أيضا. يقول أحد ضباط الأمن إن المدهون الصغير «ما زال محتجزا مع مركب أسلحة في مكان ما في شرق البحر المتوسط»، معربا عن اعتقاده بأن توقيفه أزال كثيرا من الغموض عن الفرق بين الرجلين.



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.