صدر عن غرفة تجارة إسطنبول كتاب بعنوان «رحلة بدر الدين الغزي إلى إسطنبول»، تحقيق الدكتور عبد الرحيم أبو حسين أستاذ التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية في بيروت وطارق أبو حسين الطالب في برنامج الدكتوراه في مركز الدراسات الشرق أوسطية في جامعة هارفارد.
وقد اهتمّت المقدّمة التي كتبها إبراهيم جاغلار رئيس هيئة الإدارة في غرفة تجارة إسطنبول بالإضاءة على أهمية تحقيق عمل من هذا النوع.
قام الباحثان بتحقيق ودراسة رحلة بدر الدين الغزي بعنوان «المطالع البدرية في المنازل الرومية» من خلال مخطوطتين.. المخطوطة الأولى كاملة محفوظة في مكتبة كوبريلي في إسطنبول، أما الثانية فهي غير مكتملة وموجودة في المتحف البريطاني في العاصمة البريطانية لندن.
وقد أكّد المحققان أن «الغزي لم يذهب إلى إسطنبول لأسباب استطلاعية أو استكشافية فحسب، فتأليفه للمطالع البدرية يدل على نوع من الاهتمام بعالم الأورام وما تضمنه من عناصر اجتماعية ودينية وثقافية متعددة».
تلقي هذه الدراسة الضوء على محاور متعددة منها تاريخ العلاقات التركية العربية والقيمة الأدبية للرحلة المدونة بالسجع بالإضافة إلى الكتابة النثرية الرائعة ووصف الأماكن والطبيعة. فعلى سبيل المثال وليس الحصر قال في وصفه للأماكن:
«ومدينة حماه هذه من أحسن بلاد الشام وألطفها وأملحها وأظرفها وأنزهها وأترفها. وبها قلعة شامخة باذخة، حصينة مانعة واسعة مكينة، مليحة الأبراج والأبواب، لكنها أبادتها يد الخراب». وأظهر إعجابه بمدينة حلب قائلاً:
«وحلب مدينة عظيمة، كبيرة قديمة، صحيحة الهواء خفيفة الماء، واسعة الفناء، حسنة البناء، عظيمة المآثر والمعاهد، كثيرة الجوامع والمعاهد».
كما جاء في وصفه للطبيعة:
«قد بسط الربيع بسطًا سندسية ومطارف عبقرية، ترتاح لرؤيتها الأرواح وترتع النفوس منها في مراتع الارتياح».
ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الدراسة تعطينا معلومات وفيرة عن العلماء والأعيان الذين قابلهم بدر الدين الغزي في رحلته هذه، أمثال الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد شمس الدين الخناجري الشافعي وغيره.
فلم تنحصر رحلته على وصف الأماكن والطبيعة بل تطرق بدر الدين الغزي إلى وصف الأشخاص الذين كان يلتقي بهم وصفًا دقيقًا من حيث مكانتهم في المجتمع آنذاك وشكلهم الخارجي وأخلاقهم.
فقال عن لقائه بالإمام ملا خجا جلبي عبد الرحيم بن علي بن المؤيد واصفًا مكانته:
«هو صدر من صدور أئمة الدين وكبير من كبراء الأولياء المهتدين، وقدوة في أفراد العلماء الزاهدين. حامل لواء المعارف ومحرز التالد منها والطارف، محافظ على الكتاب والسنة، قائم بأداء الفرض والسنة».
وفي شكله الخارجي قال:
«ضعيف البنية قديم السن عسر المشية».
أما عن أخلاقه فحدثنا قائلاً:
«قابلني بالرحب والترحيب وعانقني معانقة الحبيب الحبيب، بالغ في الثناء وابتهل في الدعاء. وَلَمْ يدع شيئا من أنواع الكرم وأصناف الاحترام وأجناس التلطف في الكلام. فلم أر أحسن من لقائه، ولا أزين من ولائه، ولا أجلى من محادثته، ولا أحلى من منافثته».
رحلة مشحونة بالمشاعر الصادقة. فكانت دموع الغزي تنهمر من فرط شوقه لأهله وأصحابه.. شعور شبهه بـ«الشامة البيضاء في الثور الأسود».
ويوضح لنا الكاتبان أن الغزي كان شديد التعلق ببلاده لدرجة أنه كان ينظر إلى العالم الخارجي بمنظور شامي.
كما تحمل لنا هذه الرحلة صورة واضحة وغنية عن التبادل الفكري والثقافي بين علماء تلك الحقبة الزمنية.
إنها دراسة تساعدنا على التنقل على الجسور المعرفيّة الممتدة بين العرب والأتراك. وقد استطاع الكاتبان أن يعكسا لنا بدقة «الفتح الثقافي» الذي قام به بدر الدين الغزي بعد عقد ونصف من الفتح العسكري العثماني الذي قام به السلطان سليمان الأول. ويمكننا القول من خلال طريقة سرد الأخبار إن الغزي كان يسجل بشكل تلقائي كل ما يحدث معه حتى صغائر الأمور. مثلاً يروي لنا بالتفصيل الممل حادثة السرقة التي تعرض لها وجماعته خلال الرحلة ويقول فيها:
«وإذ باثنين من السراق يظن أنهما من الرفاق. فوقف المملوك يظن أنهما من الرفاق. فوقف المملوك الماشي أمامي وحار وخاف منهما وجبن وخار..».
وقد أوضح المحققان من خلال دراستها لهذه الرحلة الصراع الداخلي الذي كان يعيشه بدر الدين الغزي في نظرته لمدينة إسطنبول. فهو من جهة كان يعتبرها «دار الطمأنينة» و«أم المدائن» وعاصمة لدار الإسلام، ومن جهة أخرى كانت تمثل قاعدة للأروام وتختلف كل الاختلاف عن هويته الجغرافية الثقافية.
ورغم صعوبة الفصل بين ما هو أدبي وما هو تاريخي، فإنهما في تعاملهما مع هذا النص غلبا الاعتبارات التاريخية على تلك الأدبية.
ولا يجد القارئ هنا أي تقصير من ناحية إبراز الجماليات الأدبية للنص، بل على العكس، جاءت الدراسة غنية بمنحييها الأدبي والتاريخي. ومن أجمل الأبيات الممزوجة بالصدق والألم، قول بدر الدين الغزي:
لم أنس يوم الفراق المر حين دَنا والقلب باك وطرف العين منبهت
ونور عيني المفدّى أحمد ولدي يمشي قليلاً أمامي ثم يلتفت
يمكننا القول إن هذه دراسة قيمة مضافة لمكتباتنا العربية وستسهل طريق البحث أمام الباحثين والطلاب المهتمين بتلك الحقبة التاريخية.
رحلة بدر الدين الغزي إلى إسطنبول
نسخة وحيدة موجودة في المتحف البريطاني
رحلة بدر الدين الغزي إلى إسطنبول
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة