لا يحتاج العنف الاجتماعي والديني غير العاطفة أو الغضب، ولا يحتاج الغضب إلا العاطفة والانفعال، أما الفعل والحوار الحضاري الواعي بعصره وتحدياته، وتراثه وأزماته، فيحتاج التأمل والتدبير والتأسيس العميق للفعل تنظيما وتنظيرا.
من هنا يمكننا أن نرصد نشأة التنظيمات المتطرفة - تنظيمات الغضب الإسلامي - كما يحلو للبعض أن يسميها كحالة من هشاشة التأسيس الفكري والفقهي منذ بدايتها وحتى قمتها وصعودها الحالي، والإصرار على اللاتاريخية بل الانقلاب على التاريخ وعدم احترام قوانينه، وعلى تجذير القضايا الواقعية والوضعية دينا وإيمانا لا يقبل التدرج، ويرفض التطور في آن، بل كانت - وما زالت - مقصلة وحائط صد قويا للإصلاح والنهضة الإسلامية التي كانت حينها تنبت أزهارها وتؤتي آثارها. سنعرض دليلا على ذلك، نموذجا من نشأة تنظيم الجهاد المصري الذي أسسه مجهول تخلى عنه واختفى بعد ذلك، حركه الشعار واستمد له سندا دينيا مجزوءا، فتوى أو صفحة واحدة، من خمسة وثلاثين مجلدا هي مجموع فتاوى ابن تيمية، والأدهى أنه نقلها خطأ ولكن على أساسها كان قتال الأنظمة والمجتمعات وتكفيرها والحكم بردّتها كما اتضح في التأسيس الثاني والأهم عند محمد عبد السلام فرج.
حول النشأة المتطرفة واغتيال الحداثة
> ثمة روايتان - نرصدهما - لنشأة الجماعات المتطرفة:
أولاهما: تنسب هذه النشأة لمؤلفات الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - قد مهدت الأرض لصعود الفكرة والمجموعات المتطرفة، التي خرجت من مخاض الصدام الحاد مع الأنظمة القومية والناصرية بعد الاستقلال في خمسينات وستينات القرن الماضي، ويعد أيمن الظواهري أبرز مؤرخي هذه الرواية الأكثر شيوعا، حيث يقول: «بدأت الحركة المتطرفة في مصر مسيرتها الحالية ضد النظام بعد منتصف الستينات حينما قام النظام الناصري بحملته الشهيرة في سنة 1965 ضد الإخوان المسلمين، وأودع السجون سبعة عشر ألف مسلم، وتم إعدام الأستاذ سيد قطب رحمه الله واثنين من رفاقه، وظن النظام أنه بذلك قد قضى على الحركة الإسلامية في مصر بلا رجعة»، كما تناولها كثيرون غيره من أعضاء ومؤرخي الحركات المتطرفة.
> ثانيتهما: الشاب المجهول نبيل البرعي:
شاب مجهول اختفى بعد ذلك، تأثر وآمن بفكر الإسلام السياسي، وتجربة الإخوان وحزب التحرير في استهداف وتقديم هدف الدولة الإسلامية، كشرط لإيمان المسلمين وحياتهم ومجدهم، ومن بذرته وجرثومته كانت شجرة الجهاديات القطرية والعالمية في المنطقة والعالم.
جند الظواهري والشيخ فضل، انشق عن الإخوان واعتمد على فتاوى متناثرة في الجهاد طار بها، ومن هنا نرى النشأة المتطرفة مجهولة الهوية وهشة في التأسيس مما ساعد على عظم تأويلها وانحرافها فيما بعد، حيث كانت قطيعتها مع كل المدارس الفقهية والمؤسسات الإسلامية - كالأزهر والزيتونة وغيرها - ولكن الأهم أنها طعنت وكادت وتكاد تقتل تجربة الإصلاحية الإسلامية التي مثلتها أسماء كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي والزهراوي في مصر والشام، وأسماء كعبد الحميد بن باديس وعلال الفاسي في المغرب العربي.
نجد هذا التأسيس المجهول في شهادة موثقة للدكتور محمد مورو في كتابه المبكر عن تنظيم التطرف الصادر سنة 1995 حين قال: «يؤكد الشهود الذين شاركوا في بدايات التنظيم، أو الذين أتيح لهم الحديث مع هؤلاء الذين بدأوا بإنشاء التنظيم، أن تنظيم التطرف نشأ عام 1958 على يد شاب يدعى نبيل البرعي، وكان يبلغ من العمر وقتها 22 عاما، وحسب رواية نبيل البرعي فإنه قد عثر يوما ما على أحد كتب ابن تيمية على سور الأزبكية، في إطار اهتمامات شاب متدين بالكتب الدينية، وما إن قرأ البرعي هذا الكتاب حتى أعجب بابن تيمية، وراح يبحث عن المجموعة الكاملة لكتبه، لقراءتها والتزود منها، بما يريد أن يعلمه، وإذا كان ابن تيمية، ذلك العالم الذي ترك ثروة فقهية وفكرية إسلامية كبيرة، والذي شارك بسيفه في كفاح التتار، وانتهى به الأمر ليموت في سجن القلعة بسبب مواقفه السياسية، قد آثار نبيل البرعي، وكثيرا ما آثار انتباه الشباب والشيوخ الذين يقرأون في كتب العلماء عموما، فإن المفارقة هنا جاءت من اهتمام نبيل البرعي بشكل خاص بكتب وفتاوى ابن تيمية الخاصة بالجهاد والتي كان ابن تيمية قد كتبها في إطار الجهاد ضد الصليبيين والتتار».
وحسب رواية د. محمد مورو رفض نبيل البرعي فكر وآليات جماعة الإخوان المسلمين مؤمنا بدعوته للجهاد الخاص به بعد محاورات له معهم وانشقاقه عليهم، وهكذا تنسب الرواية الثانية التأثير والفعل الأول لفتاوى عند شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو ما أسسه فيما بعد محمد عبد السلام فرج في أول نص المعنون: «الفريضة الغائبة».
التأثر بالفتاوى والوعي اللاتاريخي
رغم غياب أو انعدام أدبيات المجموعات المتطرفة في هذه الفترة، فإننا نرجع تأثرها بالفتاوى دون سواها، وخصوصا فتوى التتار، التي أسقطها الجهاديون على حكم الدولة المصرية المعاصرة، وأنهم حكام كافرون لحكمهم بغير ما أنزل الله، يجب الخروج على حاكمها تحكيم شرع الله فيها، بشكل رئيس، ومما يدعم هذه الرواية ما نلاحظه من التوجه السلفي في التأسيس للمنهج الجهادي، وتجنب عدد من أبرز منظريها المتطرفين المصريين لاستخدام مفهوم «الحاكمية» فلم يرد هذا اللفظ في كتابات محمد عبد السلام فرج، وخصوصا الفريضة الغائبة، كما لا نجد سيد إمام الشريف أو د. عبد القادر بن عبد العزيز يتجنب استخدامه بالكلية كذلك، وفي سؤاله عن ذلك قال إنه تعبير غير شرعي، ويستخدمون التعبير القرآني والسلفي المعهود في مدونات الفقه عن الحكم بغير ما أنزل الله.
عموما، من الخطأ الذي وقع فيه بعض المراقبين أو المؤرخين لتنظيم الجهاد، التأريخ لظهور هذا التنظيم مع ظهور تنظيم محمد عبد السلام فرج عام 1979، متجاهلين المجموعات المتطرفة التي ظهرت قبل هذا التاريخ، والأصح أن تنظيم الجهاد لم يكن تنظيما واحدا في بداياته، ولكن مجموعات متفرقة، جمعها فكر الجهاد أولا والتأثر بفتوى التتار وجهاد ابن تيمية، خصوصا بجوار التأثر بفكر الحركات الإسلامية السابقة، كما نجح محمد عبد السلام فرج في تجميعها تحت لواء تنظيم واحد.
تبدو رسالة «الفريضة الغائبة» نصا بسيطا ومختصرا ومباشرا، مكتوبا بلغة المحاضرة والمذكرات أكثر منه كتابا أكاديميا يخضع لقواعد البحث العلمي والأكاديمي، ورغم أنه قد تلتها كتابات أخرى للتنظيم مثل كتاب «منهج جماعة الجهاد الإسلامي» والذي كان أعده عبود الزمر (ليمان طره 1986) والذي يشير إلى الخلافة باعتبار أن سقوطها أفقد المسلمين سيفهم ودرعهم وقطع أوصال الدولة، ويشير إلى احتلال فلسطين وأفغانستان واضطهاد المسلمين، وأنهم أشتات في مواجهة عدو يستجمع قوته وأنصاره، ورسالة الإحياء الإسلامي يشير كاتبها «أبو عبد الرحمن (كمال حبيب)» في 1986 إلى أحداث مصر وإيران وأفغانستان والحروب الصليبية والاستعمار والصهيونية والخضوع لأميركا، وكل ما يؤسس للصراع المؤبد ويؤكد على التأثر بنجاح الثورة الخمينية - دون اعتبار للاختلاف المذهبي - فالقضية دولة وليست أطرا عقدية أو فقهية.
لكن تظل الفريضة الغائبة النص الأهم، وتحركت بغاية قطبية حاكمية، بل لم تعرف منه إلا فتوى التتار التي نقلتها خطأ عن نص مصحف عن مخطوطة الفتاوى، فكان تأويل خاطئا وتأسيسا خاطئا معا، فمن المعروف أن مبحث الحاكمية والدولة رغم كثرة كتابات ابن تيمية كان مبحثا مهملا لم يكتب فيه، بل رفض أن تكون قضية الإمامة عقيدة أو شرطا لإيمان أو غير ذلك، في نقده للشيعة في ورد على ابن المطهر الحلي، كما لم يعتن ابن تيمية بغير دولة الشريعة والأمة ودورها وإصلاح عقائدها، وهو ما نجده كذلك عند سلفه شيخ الحرمين الإمام الجويني في «غياث الأمم».