الرقة والموصل .. صورة غامضة

واشنطن لم تجد شريكًا سوريًا لقتال «داعش» في الأولى .. والعجز أمام تحرير الثانية

صورة تعود إلى عام 2014 تظهر عناصر من داعش على ظهر دبابة تجوب إحدى ضواحي {الرقة} الشمالية (رويترز)
صورة تعود إلى عام 2014 تظهر عناصر من داعش على ظهر دبابة تجوب إحدى ضواحي {الرقة} الشمالية (رويترز)
TT

الرقة والموصل .. صورة غامضة

صورة تعود إلى عام 2014 تظهر عناصر من داعش على ظهر دبابة تجوب إحدى ضواحي {الرقة} الشمالية (رويترز)
صورة تعود إلى عام 2014 تظهر عناصر من داعش على ظهر دبابة تجوب إحدى ضواحي {الرقة} الشمالية (رويترز)

كثر الحديث في الأسابيع الماضية عن العمليات التي ستستهدف معاقل تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في مدينتي الرقة السورية والموصل العراقية. وفي الوقت الذي تجري فيه التحضيرات على قدم وساق للمعركة المقبلة في الموصل، يبدو أن الأمور مختلفة إلى حد ما بالنسبة إلى مدينة الرقة. فوفق تقرير صدر عن وزارة الخارجية الأميركية، يسعى التحالف الدولي في عملياته المستمرة إلى «عزل مدينة الرقة» الواقعة في شمال وسط سوريا، إذ أعلن رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد أن العمليات العسكرية الأخيرة تهدف إلى «قطع صلة الوصل بين المدينتين السنيتين السورية العراقية اللتين جعل منهما التنظيم أبرز قواعد سيطرته».
واعتبر دانفورد أن «العمليات متواصلة» وكذلك «الإنجازات التي حققتها قوات البيشمركة (الكردية) في سنجار وعملية الشدادي في سوريا، ساهمت في قطع خطوط الاتصال بين الرقة والموصل»، مضيفا أنه «سيصار إلى إعداد المقاتلين في التحالف العربي - السوري، وأنه ليس هناك حاليا من جدول زمني محدد لمعركة تحرير الرقة، التي ستعتمد أساسًا على ظروف كثيرة مثل حجم القوة التي ستنفذ الهجوم، وتحركات العدو على الأرض، مع الأخذ بالاعتبار ما يجري حاليا شرق منطقة الشدادي وغربها بهدف تحضير الأرضية ودعم الهجوم المرتقب».
نقل موقع «سوريا نت» أن الجنرال جوزيف فوتل، المرشح لقيادة «المنطقة الوسطى» في القوات المسلحة الأميركية، التي تشمل الشرق الأوسط ضمن نطاق صلاحياتها، عبر أمام مشرّعين أميركيين أمس عن قلقه من «الافتقار إلى شريك يُعتمد عليه في سوريا للقتال ضد تنظيم داعش». وذكر الجنرال فوتل، خلال جلسة للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي أنه «إذا صادقت اللجنة على تعيينه لقيادة المنطقة الوسطى، فسيسعى إلى إيجاد استراتيجية متناغمة وذات موارد جيدة للسعي وراء معاقل داعش».
وتابع فوتل كلامه أمام اللجنة «في العراق لدينا شريك ولدينا حكومة، لكننا لا نملك هذا في سوريا، وبالتالي، أنا قلق من كيفية تقدمنا في سوريا بغياب العامل السياسي الداعم لذلك». فوتل، أكد كذلك قدرة قوات المعارضة السورية على استعادة مدينة الرقة من تنظيم داعش، بيد أنه أوضح أنه سيكون «من الصعب» الاحتفاظ بها بعد ذلك.
فضلا عن ذلك، اعتبر الخبير في الشؤون العسكرية السورية كريس كوزاك، من «معهد دراسات الحرب» الذي تحدث إلى «الشرق الأوسط» أن التحالف الأميركي يهدف إلى السيطرة على الرقة والموصل هذا العام، شارحًا أن مشكلة الرقة تكمن في أن معظم القوات المقاتلة ضد «داعش» تنتمي إلى (ميليشيا «وحدات حماية الشعب» (الكردية) التي ليس لديها الدافع الكافي للسيطرة على المدينة. وتابع كوزاك شرحه قائلا: «الرقة مدينة ذات أغلبية عربية تقع خارج المنطقة الطبيعية لأكراد سوريا الممتدة من الحسكة إلى عفرين. وعليه تحاول قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة حشد تحالف عربي - سوري لمعركة الرقة، ومن المحتمل أن نرى المزيد من الخطوات لقطع خطوط الإمداد مثل استهداف الطريق السريع بين الرقة ودير الزور، فضلا عن الحدود التركية». إلا أنه - بحسب الخبير - فإن السيطرة على الرقة «ليست أولوية حاليًا لا لنظام الأسد ولا لروسيا، اللذين يركزان معظم جهودهما على تخفيف الضغط عن خطوط الإمداد في منطقة حلب».
أما بما يخص الوضع في الموصل فإنه يختلف اختلافًا شديدًا عما هو عليه في الرقة، حسب تصريحات عدد من المسؤولين الحكوميين العراقيين، بمن فيهم رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذين أكدوا أن عمليات الموصل ستبدأ خلال فترة الربيع أو الصيف. مع ذلك، يستبعد العقيد الأميركي المتقاعد هاري شوت من جهته، هذا الأمر، معتبرا أنه لا يزال من الصعب تحديد متى سيقع هجوم الموصل، مشيرا إلى أن «هناك عمليات تحضيرية تسبق هكذا هجوم وعلى الأرجح ستتم في الأشهر الستة المقبلة». وتشمل هذه الخطوات التحضيرية، التي يبدو أنها قد بدأت، إضعاف «داعش» أكثر فأكثر من خلال ضرب مصالحه المباشرة والاستراتيجية وخطوط الإمداد لديه، والسيطرة كذلك على بعض المواقع الاستراتيجية.
ووفقًا لشوت: «التحالف بقيادة الولايات المتحدة يعمل بشكل متواصل على استهداف مصالح مباشرة أو استراتيجية للتنظيم»، واستطرد الضابط الأميركي موضحًا أن المصالح المباشرة تتمثل في العناصر المسلحة والمعدات العسكرية التي يملكها التنظيم في حين تشمل مصالحه الاستراتيجية البنية التحتية للنفط وغيرها من الموارد التي تؤمن له مدخولاً.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أنه مع السيطرة على مدينة سنجار، ذات الكثافة السكانية الأيزيدية التي تقع غربي الموصل في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عمدت الميليشيا الكردية المدعومة من القوات الجوية الأميركية، إلى قطع خطوط الإمداد العائدة للتنظيم المتطرف عبر السيطرة على الطريق السريع رقم 47. وبالتالي، يعتبر شوت أنه «لا بد من السيطرة الآن أيضًا على المدن والمناطق الرئيسة الأخرى، قبل أي هجوم على الموصل، فضلا عن تحرير ما تبقى من منطقة دجلة، لا سيما منطقة مدن مثل القيارة وتلعفر، وربما الفلوجة أيضًا، لتسهيل سقوط الموصل. ونشير عند هذه النقطة إلى أنه خلال الأسابيع الماضية وقعت اشتباكات في الفلوجة بين سكان المدينة وعناصر من «داعش».
أما بالنسبة لمدينة القيارة، فيتوقع المحللون والخبراء الاستراتيجيون أن يكون لها دور فعال في معركة الموصل باعتبارها خط إمداد مهمًا جدًا يسمح لتنظيم داعش بالاتصال بمنطقة الحويجة، كذلك فإن السيطرة على مدينة هيت، بعرب محافظة الأنبار، ستشكل مقدمة لأي عمليات في الموصل.
ولكن، «حتى بعد قطع خطوط الإمداد والاستيلاء على المناطق الاستراتيجية، سيبقى تقدم القوات الحكومية العراقية نحو الموصل إشكالية بحد ذاته نظرًا للكثافة السكانية العالية في المدينة»، بحسب الخبير العسكري أحمد شوقي. ويوضح شوقي أن العدد السكاني الهائل (في ثانية كبرى مدن العراق من حيث عد السكان) يجعل من المدينة هدفا صعبا. وفي المقابل، يرى الناشط السياسي غانم العابد، أنه سيكون من السهل نسبيا السيطرة على المناطق المحيطة بالمدينة وتلك الواقعة على الجانب الأيسر منها، بما أن الكثافة السكانية فيهما أقل، كما أنها مناطق حديثة إلى حد ما، بعكس مدينة الموصل نفسها على الجانب الأيمن، والتي تعد قديمة وبالكاد يمكن الوصول إليها بالسيارة، ما من شأنه أن يعقِّد العملية العسكرية ويتسبب بخسائر فادحة في الأرواح.
في أي حال، ما سيزيد الأمور صعوبة في عملية استعادة السيطرة على مدينة الموصل ذات الغالبية السنية، هو تعدد اللاعبين المحليين والإقليميين المنخرطين في شمال العراق الذين يملك كل منهم أجندته الخاصة التي تختلف عن الآخر. وهذا ما يتطرق إليه العابد بقوله: «الموصل ليست معقدة بسبب عدد السكان الكبير فحسب، بل أيضًا بسبب الأعراق المتعددة، ما يعني أن لاعبين مختلفين سيدخلون في العملية»، ثم يضيف مفصلاً أن المنطقة «تضم جماعات عرقية ودينية مختلفة بل متنافسة في غالب الأحيان على غرار السنة والشيعة والمسيحيين والأكراد والتركمان والأيزيديين». ويضاف إلى هذا كله، مسألة حسّاسة أخرى ترتبط بمشاركة ميليشيا «الحشد الشعبي» - ذات الأغلبية الشيعية - في العملية. ولقد أوردت مقالات نشرت أخيرًا عبر قناة «العربية» و«المدى برس» ما جرى تداوله بين رئيس الوزراء حيدر العبادي ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري حول دور «الحشد الشعبي» في معركة الموصل، الأمر الذي رفضه أعضاء محافظة نينوى، وعاصمتها الموصل. وبعيدا عن المناوشات السياسية حول هذه المسألة بالذات، تتزايد المظاهرات في بغداد المندِّدة بالفساد المستشري في مؤسسات الدولة، ما دفع العبادي إلى اقتراح تشكيل حكومة جديدة.
هذه الخلافات العميقة والاضطرابات الاجتماعية المتعددة، أمام الخلفية المذهبية والطائفية، قد تؤدي مرة أخرى إلى تأجيل عملية الموصل التي كانت قد أجمعت مصادر مختلفة على أنها ستحصل في شهر يونيو (حزيران) المقبل. وللعلم، فإن الحكومة العراقية لا تملك من جهتها سوى إطار زمني محدود للمضي قدما في هجومها لتحرير الموصل إن أرادت أن تنفذ العملية قبل حلول فصل الشتاء الذي بالتأكيد لن يكون لصالحها وسيصعِّب عليها عملياتها العسكرية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.