الرقة والموصل .. صورة غامضة

واشنطن لم تجد شريكًا سوريًا لقتال «داعش» في الأولى .. والعجز أمام تحرير الثانية

صورة تعود إلى عام 2014 تظهر عناصر من داعش على ظهر دبابة تجوب إحدى ضواحي {الرقة} الشمالية (رويترز)
صورة تعود إلى عام 2014 تظهر عناصر من داعش على ظهر دبابة تجوب إحدى ضواحي {الرقة} الشمالية (رويترز)
TT

الرقة والموصل .. صورة غامضة

صورة تعود إلى عام 2014 تظهر عناصر من داعش على ظهر دبابة تجوب إحدى ضواحي {الرقة} الشمالية (رويترز)
صورة تعود إلى عام 2014 تظهر عناصر من داعش على ظهر دبابة تجوب إحدى ضواحي {الرقة} الشمالية (رويترز)

كثر الحديث في الأسابيع الماضية عن العمليات التي ستستهدف معاقل تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في مدينتي الرقة السورية والموصل العراقية. وفي الوقت الذي تجري فيه التحضيرات على قدم وساق للمعركة المقبلة في الموصل، يبدو أن الأمور مختلفة إلى حد ما بالنسبة إلى مدينة الرقة. فوفق تقرير صدر عن وزارة الخارجية الأميركية، يسعى التحالف الدولي في عملياته المستمرة إلى «عزل مدينة الرقة» الواقعة في شمال وسط سوريا، إذ أعلن رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد أن العمليات العسكرية الأخيرة تهدف إلى «قطع صلة الوصل بين المدينتين السنيتين السورية العراقية اللتين جعل منهما التنظيم أبرز قواعد سيطرته».
واعتبر دانفورد أن «العمليات متواصلة» وكذلك «الإنجازات التي حققتها قوات البيشمركة (الكردية) في سنجار وعملية الشدادي في سوريا، ساهمت في قطع خطوط الاتصال بين الرقة والموصل»، مضيفا أنه «سيصار إلى إعداد المقاتلين في التحالف العربي - السوري، وأنه ليس هناك حاليا من جدول زمني محدد لمعركة تحرير الرقة، التي ستعتمد أساسًا على ظروف كثيرة مثل حجم القوة التي ستنفذ الهجوم، وتحركات العدو على الأرض، مع الأخذ بالاعتبار ما يجري حاليا شرق منطقة الشدادي وغربها بهدف تحضير الأرضية ودعم الهجوم المرتقب».
نقل موقع «سوريا نت» أن الجنرال جوزيف فوتل، المرشح لقيادة «المنطقة الوسطى» في القوات المسلحة الأميركية، التي تشمل الشرق الأوسط ضمن نطاق صلاحياتها، عبر أمام مشرّعين أميركيين أمس عن قلقه من «الافتقار إلى شريك يُعتمد عليه في سوريا للقتال ضد تنظيم داعش». وذكر الجنرال فوتل، خلال جلسة للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي أنه «إذا صادقت اللجنة على تعيينه لقيادة المنطقة الوسطى، فسيسعى إلى إيجاد استراتيجية متناغمة وذات موارد جيدة للسعي وراء معاقل داعش».
وتابع فوتل كلامه أمام اللجنة «في العراق لدينا شريك ولدينا حكومة، لكننا لا نملك هذا في سوريا، وبالتالي، أنا قلق من كيفية تقدمنا في سوريا بغياب العامل السياسي الداعم لذلك». فوتل، أكد كذلك قدرة قوات المعارضة السورية على استعادة مدينة الرقة من تنظيم داعش، بيد أنه أوضح أنه سيكون «من الصعب» الاحتفاظ بها بعد ذلك.
فضلا عن ذلك، اعتبر الخبير في الشؤون العسكرية السورية كريس كوزاك، من «معهد دراسات الحرب» الذي تحدث إلى «الشرق الأوسط» أن التحالف الأميركي يهدف إلى السيطرة على الرقة والموصل هذا العام، شارحًا أن مشكلة الرقة تكمن في أن معظم القوات المقاتلة ضد «داعش» تنتمي إلى (ميليشيا «وحدات حماية الشعب» (الكردية) التي ليس لديها الدافع الكافي للسيطرة على المدينة. وتابع كوزاك شرحه قائلا: «الرقة مدينة ذات أغلبية عربية تقع خارج المنطقة الطبيعية لأكراد سوريا الممتدة من الحسكة إلى عفرين. وعليه تحاول قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة حشد تحالف عربي - سوري لمعركة الرقة، ومن المحتمل أن نرى المزيد من الخطوات لقطع خطوط الإمداد مثل استهداف الطريق السريع بين الرقة ودير الزور، فضلا عن الحدود التركية». إلا أنه - بحسب الخبير - فإن السيطرة على الرقة «ليست أولوية حاليًا لا لنظام الأسد ولا لروسيا، اللذين يركزان معظم جهودهما على تخفيف الضغط عن خطوط الإمداد في منطقة حلب».
أما بما يخص الوضع في الموصل فإنه يختلف اختلافًا شديدًا عما هو عليه في الرقة، حسب تصريحات عدد من المسؤولين الحكوميين العراقيين، بمن فيهم رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذين أكدوا أن عمليات الموصل ستبدأ خلال فترة الربيع أو الصيف. مع ذلك، يستبعد العقيد الأميركي المتقاعد هاري شوت من جهته، هذا الأمر، معتبرا أنه لا يزال من الصعب تحديد متى سيقع هجوم الموصل، مشيرا إلى أن «هناك عمليات تحضيرية تسبق هكذا هجوم وعلى الأرجح ستتم في الأشهر الستة المقبلة». وتشمل هذه الخطوات التحضيرية، التي يبدو أنها قد بدأت، إضعاف «داعش» أكثر فأكثر من خلال ضرب مصالحه المباشرة والاستراتيجية وخطوط الإمداد لديه، والسيطرة كذلك على بعض المواقع الاستراتيجية.
ووفقًا لشوت: «التحالف بقيادة الولايات المتحدة يعمل بشكل متواصل على استهداف مصالح مباشرة أو استراتيجية للتنظيم»، واستطرد الضابط الأميركي موضحًا أن المصالح المباشرة تتمثل في العناصر المسلحة والمعدات العسكرية التي يملكها التنظيم في حين تشمل مصالحه الاستراتيجية البنية التحتية للنفط وغيرها من الموارد التي تؤمن له مدخولاً.
هنا، لا بد من الإشارة إلى أنه مع السيطرة على مدينة سنجار، ذات الكثافة السكانية الأيزيدية التي تقع غربي الموصل في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عمدت الميليشيا الكردية المدعومة من القوات الجوية الأميركية، إلى قطع خطوط الإمداد العائدة للتنظيم المتطرف عبر السيطرة على الطريق السريع رقم 47. وبالتالي، يعتبر شوت أنه «لا بد من السيطرة الآن أيضًا على المدن والمناطق الرئيسة الأخرى، قبل أي هجوم على الموصل، فضلا عن تحرير ما تبقى من منطقة دجلة، لا سيما منطقة مدن مثل القيارة وتلعفر، وربما الفلوجة أيضًا، لتسهيل سقوط الموصل. ونشير عند هذه النقطة إلى أنه خلال الأسابيع الماضية وقعت اشتباكات في الفلوجة بين سكان المدينة وعناصر من «داعش».
أما بالنسبة لمدينة القيارة، فيتوقع المحللون والخبراء الاستراتيجيون أن يكون لها دور فعال في معركة الموصل باعتبارها خط إمداد مهمًا جدًا يسمح لتنظيم داعش بالاتصال بمنطقة الحويجة، كذلك فإن السيطرة على مدينة هيت، بعرب محافظة الأنبار، ستشكل مقدمة لأي عمليات في الموصل.
ولكن، «حتى بعد قطع خطوط الإمداد والاستيلاء على المناطق الاستراتيجية، سيبقى تقدم القوات الحكومية العراقية نحو الموصل إشكالية بحد ذاته نظرًا للكثافة السكانية العالية في المدينة»، بحسب الخبير العسكري أحمد شوقي. ويوضح شوقي أن العدد السكاني الهائل (في ثانية كبرى مدن العراق من حيث عد السكان) يجعل من المدينة هدفا صعبا. وفي المقابل، يرى الناشط السياسي غانم العابد، أنه سيكون من السهل نسبيا السيطرة على المناطق المحيطة بالمدينة وتلك الواقعة على الجانب الأيسر منها، بما أن الكثافة السكانية فيهما أقل، كما أنها مناطق حديثة إلى حد ما، بعكس مدينة الموصل نفسها على الجانب الأيمن، والتي تعد قديمة وبالكاد يمكن الوصول إليها بالسيارة، ما من شأنه أن يعقِّد العملية العسكرية ويتسبب بخسائر فادحة في الأرواح.
في أي حال، ما سيزيد الأمور صعوبة في عملية استعادة السيطرة على مدينة الموصل ذات الغالبية السنية، هو تعدد اللاعبين المحليين والإقليميين المنخرطين في شمال العراق الذين يملك كل منهم أجندته الخاصة التي تختلف عن الآخر. وهذا ما يتطرق إليه العابد بقوله: «الموصل ليست معقدة بسبب عدد السكان الكبير فحسب، بل أيضًا بسبب الأعراق المتعددة، ما يعني أن لاعبين مختلفين سيدخلون في العملية»، ثم يضيف مفصلاً أن المنطقة «تضم جماعات عرقية ودينية مختلفة بل متنافسة في غالب الأحيان على غرار السنة والشيعة والمسيحيين والأكراد والتركمان والأيزيديين». ويضاف إلى هذا كله، مسألة حسّاسة أخرى ترتبط بمشاركة ميليشيا «الحشد الشعبي» - ذات الأغلبية الشيعية - في العملية. ولقد أوردت مقالات نشرت أخيرًا عبر قناة «العربية» و«المدى برس» ما جرى تداوله بين رئيس الوزراء حيدر العبادي ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري حول دور «الحشد الشعبي» في معركة الموصل، الأمر الذي رفضه أعضاء محافظة نينوى، وعاصمتها الموصل. وبعيدا عن المناوشات السياسية حول هذه المسألة بالذات، تتزايد المظاهرات في بغداد المندِّدة بالفساد المستشري في مؤسسات الدولة، ما دفع العبادي إلى اقتراح تشكيل حكومة جديدة.
هذه الخلافات العميقة والاضطرابات الاجتماعية المتعددة، أمام الخلفية المذهبية والطائفية، قد تؤدي مرة أخرى إلى تأجيل عملية الموصل التي كانت قد أجمعت مصادر مختلفة على أنها ستحصل في شهر يونيو (حزيران) المقبل. وللعلم، فإن الحكومة العراقية لا تملك من جهتها سوى إطار زمني محدود للمضي قدما في هجومها لتحرير الموصل إن أرادت أن تنفذ العملية قبل حلول فصل الشتاء الذي بالتأكيد لن يكون لصالحها وسيصعِّب عليها عملياتها العسكرية.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.