طرابلس ليبيا.. عاصمة للإرهاب (2 من 7) قيادات طرابلس تخشى انتفاضة العاصمة.. ومصراتة تشكو من العزلة

بعد الانتصارات التي حققها الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، ضد أوكار المتطرفين في بنغازي، وإعلانه عن قرب توجهه لتحرير إجدابيا وسرت من المجموعات المسلحة، بما فيها تنظيم داعش، رصد العقيد مصطفى نوح، رئيس جهاز المخابرات المدعوم من المحكومة غير المعترف بها دوليا في طرابلس، هروب عائلات لقادة سياسيين وعسكريين من العاصمة الليبية، ومن مدينة مصراتة الثرية المجاورة، إلى خارج البلاد.
كما تقدم نوح بمذكرة للمسؤولين في الحكومة والبرلمان المنتهية ولايته في طرابلس، اطلعت عليها «الشرق الأوسط» تكشف عن عمليات محمومة لجمع العملات الأجنبية من الأسواق، بلغت مليارات الدولارات، ما أدى إلى انخفاض قيمة العملة المحلية وتراجع أسعار العقارات. وبعد ذلك بيومين أعلن قادة الجيش الذي يقوده حفتر أن الخطوة التالية ستكون محاربة باقي المتطرفين وصولا إلى طرابلس، دون تفرقة بين الدواعش والميليشيات التابعة لجماعة الإخوان والأخرى التابعة للجماعة الليبية المقاتلة.
كان العقيد نوح، من بين من ظهروا في اجتماعات فندق ريكسوس المستمرة منذ عدة أيام. أحد الحلول المطروحة للتغلب على حفتر والقبائل المحسوبة على القذافي، تشكيل تحالف سريع من ميليشيات الإخوان والجماعة المقاتلة وعناصر «داعش»، من أجل تكبيد الجيش خسائر وإعادة الطمأنينة إلى قيادات العاصمة، ومنع جمع العملات الصعبة من أسواق طرابلس ومصراتة.
«هذه خطوة محفوفة بالمخاطر».. هكذا قال أحد المجتمعين، ويلقب بـ«الشيخ حمزة»، وهو من قوة «الدرع الخاص امعيتيقة». وأبدى مخاوفه من أن هذه الطريقة قد تؤدي إلى تغلب «داعش»، على الجميع، عمليا فيما بعد. أي أن التنظيم، بما لديه من أموال ضخمة وإمكانات، يمكن أن يستقطب باقي العناصر، وينقلب على ميليشيات طرابلس.
هنا تصدى له قيادي يدعى الشيخ. قال له في لهجة حاسمة وتنم عن القوة: هذه الأمور ليست من اختصاصكم، وليست معروضة هنا للرأي، بل للعلم فقط. ويشغل الشيخ عضوية المؤتمر الوطني (المنتهية ولايته)، وهو أيضا قيادي في الجماعة الليبية المقاتلة (الموالية لتنظيم القاعدة).
العقيد نوح شارك في خمسة اجتماعات على الأقل، مع أمراء الحرب في طرابلس، خلال الأسبوعين الأخيرين، أي منذ دحر قوات الجيش الوطني لمواقع المتطرفين في بنغازي. كما حضر لقاءات خاصة عقدها في أروقة ريكسوس مع قيادات السلطة في العاصمة، من المؤتمر الوطني، الذي يرأسه نوري أبو سهمين، وحكومة الإنقاذ التي يرأسها خليفة الغويل.
كان نوح يتولى موقع نائب رئيس جهاز المخابرات، أيام حكومة الدكتور علي زيدان.. معلوم أن السلطة الشرعية في ليبيا والمعترف بها دوليا، هي الحكومة التي تدير أعمالها من مدينة البيضاء في شرق البلاد، برئاسة عبد الله الثني. هي حكومة ضعيفة، لكنها معتمدة من البرلمان الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق المجاورة.
ويعد الجيش بقيادة حفتر القوة الحقيقية في المنطقة الشرقية. هو يكافح رغم إمكانات التسليح المتواضعة، لكسر شوكة المتطرفين، وهزيمتهم، وبسط نفوذ السلطات الشرعية في عموم البلاد. بينما يعتمد مؤتمر أبو سهمين وحكومة الغويل، في طرابلس على الميليشيات، وعلى الأجهزة الإدارية والأمنية والمالية في العاصمة.
على كل حال.. وفي اليوم الثالث من انتصارات الجيش في بنغازي، كانت حركة الميليشيات في طرابلس تعكس حالة الذعر.. ازدياد عدد نقاط الحراسة. حواجز يقف عليها ملثمون متحفزون. إجراءات تفتيش صارمة. أما تحركات الأهالي في المدينة فقد تراجعت. بعد أذان العصر بقليل بدأت السيارات المصفحة لأمراء الحرب وقادة الدولة (فرع طرابلس) في التوافد، من جديد، على ريكسوس.
قدم العقيد نوح ورقة تضمنت تقييمه كرئيس للمخابرات للأمور في المنطقة الشرقية، وتداعيات تقدم الجيش في بنغازي. الخلاصة التي انتهى إليها على الطاولة أن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ.
وبينما يقول أحد مساعدي نوح، لـ«الشرق الأوسط»، إن الرجل يبدو محل احترام من جانب ضباط غربيين من العاملين في الشركات الأمنية التي تراقب الموقف من فيلات على شواطئ طرابلس، يعلق ضابط مخابرات أميركي سابق في إحدى فيلات منتجع «كورنثيا»، قائلا إن طريقة عمل العقيد نوح نزيهة.. «المقصود أنه يمكن الاعتماد على ما لديه من معلومات».
الضابط الأميركي كان يتحدث هنا عن برقية وجهها العقيد نوح إلى أبو سهمين، ليلة انتصار الجيش في بنغازي وقال له فيها إنه، ومن خلال متابعة الأحداث الجارية في المنطقة الشرقية، يمكن القول إن «الظروف تسير إلى الأسوأ بشكل سريع». وتحدث عن «انهيار منظومة مجلس شورى بنغازي». يضم هذا المجلس مقاتلين محليين وأجانب من أنصار الشريعة والإخوان و«داعش».
تضمنت البرقية، التي أمكن الاطلاع على نصها باللغة الإنجليزية، قول العقيد نوح كذلك، إن الخسائر التي لحقت بمجلس الشورى في بنغازي، وما تحققه قوات حفتر من تقدم، بوتيرة متسارعة ومفاجئة، ألقى بظلاله على الوضع الأمني داخل طرابلس، وعلى قادة الميليشيات وعلى عائلاتهم.. «إنهم يشترون الدولارات من محال الذهب ويتوجهون إلى المطارات.. بعضهم يسافر إلى تركيا والبعض إلى مصر والبعض الآخر إلى تونس».
يتحدث تقرير المخابرات أيضا عن ظهور خلايا في العاصمة تناصر حفتر، ووجود حالة من التعبئة داخل الشارع بمدينة طرابلس، مشيرا إلى أن أهالي العاصمة يخططون للخروج ضد المؤتمر الوطني وضد حكومة الغويل، ويقول إنه إذا انطلقت شرارة الغضب من جانب سكان طرابلس، فإن الموازين كلها ستنقلب رأسا على عقب.
ووفقا لما جرى ذكره في اجتماعات ريكسوس فإنه، وأمام هذه التطورات، يتطلب الأمر عدة إجراءات فعالة تحد من حالة السقوط الذي يخيم على العاصمة، أولها منع عملية تهريب النقد الأجنبي، الذي بلغ ذروته عبر سوق الذهب وتجار العملة في طرابلس، ومن يتعاون معهم من ذوي النفوذ في المدينة، والمقصود بهم بعض أمراء الحرب.
قدم جهاز المخابرات كشفا يضم من قال: إنهم متورطون في نشاط تحويل الأموال للخارج، بالقيمة النقدية للعملة التي تم تحويلها خارج ليبيا. الكشف تضمن القول إن قيمة ما جرى تحويله من أموال للخارج، بلغ في يومين فقط (يومي 20 و21 الشهر الماضي) نحو 500 مليون دولار، مشيرا إلى أن المبلغ يفوق هذا الرقم بكثير لأن عملية جمع العملات الصعبة جارية على مدار الساعة، ومنذ عدة أيام، وحتى تاريخه (أي مطلع هذا الأسبوع).
جهاز المخابرات اعترف بأن هذه الإحصائية مستمدة مما جرى تتبعه بطريقة عشوائية، معربا عن اعتقاده في أن المبلغ الحقيقي الذي جرى تحويله خارج البلاد خلال اليومين المشار إليهما فقط، يبلغ مليارات الدولارات، ناهيك عما جرى تحويله في الأيام السابقة والتالية، وأن «هذا الأمر لا بد أن يتوقف الآن، إذا كنا جادين ونريد أن نحافظ على طرابلس.. من يرسل عائلته إلى الخارج لن يكون لديه مبرر لمواجهة أعداء الثورة (يقصد قوات الجيش الوطني وقوات القبائل)، وسيلحق بعائلته بمجرد انفجار الأوضاع في طرابلس».
لاحظت تقارير جهاز المخابرات أن الكثير من عائلات القيادات السياسية والعسكرية، بدأت في مغادرة البلاد بالفعل، مما زاد من حدة الغضب. وفي هذه المرحلة تدخل أحد قادة جهاز المخابرات للحديث مباشرة مع كل من أبو سهمين والغويل. وطلب من رئيس المؤتمر الوطني، إصدار أمر بمنع قادة طرابلس من إرسال عائلاتهم إلى الدول الأخرى، مشيرا إلى أن عائلات لشخصيات سياسية وعسكرية وأمنية توجهت إلى تركيا ومصر وتونس، وأن هذا أمر محبط ولا يمكن السماح باستمراره ولا يمكن السكوت عليه.
كما اقترح العقيد نوح على رئيس المؤتمر، دعوة الدبلوماسيين العرب والأجانب في طرابلس لمؤتمر صحافي، قال: إنه لتوضيح «جرائم حفتر ضد أهالي بنغازي»، و«مطالبة المجتمع الدولي للتدخل لحماية المدنيين، وفقا للقرار رقم 1973 الساري المفعول».
يقصد بذلك القرار الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي ضد قوات القذافي عام 2011 ويقضي بفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، واتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لحماية المدنيين. كما دعا العقيد نوح أيضا إلى «تفعيل دوريات التأمين في طرابلس بالشكل الذي يضمن سيطرة سريعة بشكل فعال وجاد».
يبدو أن كل الإجراءات التي كان يريدها العقيد نوح لم يتحقق منها أي شيء.. ففي اليوم التالي بدأت ترد تقارير من مدينة مصراتة المجاورة لطرابلس عن تزايد الأعداد في أوساط عائلات السياسيين وقادة الميليشيات أيضا ممن يسافرون عبر مطار المدينة، بحجة السياحة والعلاج، ولا تعود. واقترن هذا مع عمليات بيع محمومة للبيوت، إلى درجة انخفاض أسعار العقارات في مصراتة، بعد أن انخفضت بالفعل في طرابلس.
العقار الذي كان سعره يبلغ 100 ألف دولار، انخفض إلى ما بين 60 و70 ألف دولار. المحل التجاري الذي كان سعره لا يقل عن 300 ألف دولار في شارع عمر المختار وسط السوق التجارية في العاصمة، تراجع ثمنه بنسبة تتراوح حول 30 في المائة. حتى دكاكين سوق طرابلس الشعبية بدأت تشكو من الركود.
وفي مصراتة اشتكى قادة من المدينة، ومن بينهم نائب شهير محسوب على جماعة الإخوان، من فرار عائلات بأكملها من المدينة بمجرد تحقيق حفتر للانتصار في بنغازي. لكن لوحظ أن النائب كان يشكو أيضا من تزايد قوة «داعش» في سرت التي تبعد عن مصراتة بنحو 200 كيلومتر، وتقترب منها وتقوم بالتهديد بغزوها عبر الإذاعة المحلية.
بيع العقارات في مصراتة، خاصة الفيلات والشقق الفاخرة، ضرب السوق، وأصبحت حالة من الخوف من المستقبل تسيطر على المدينة التي كان لها مقاتلون يشاركون في عمليات عسكرية تابعة لميليشيات فجر ليبيا، ضد عدد من المدن الليبية. الكثير من عناصر هذه الميليشيات رجعوا إلى المدينة، واليوم يبحثون عن مخرج سياسي قبل فوات الأوان. وتؤيد معظم الأجنحة في مصراتة حكومة التوافق الوطني، وهي ترى في موقف ميليشيات طرابلس أنه «تعنت لن يؤدي إلى أي حلول».
في اجتماع آخر عقد في الليل، استمر حتى الساعات الأولى من الصباح، جرى طرح الأمر برمته على بعض المشاركين في اجتماعات ريكسوس. من المعروف أن العلاقة بين كثير من زعماء طرابلس وعدد من زعماء مصراتة لم تعد على ما يرام لعدة أسباب من بينها الموقف من دعم حكومة فايز السراج، والمخاوف من اقتراب «داعش» من مصراتة نفسها.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن قوات «فجر ليبيا» التي خاضت معركة مطار طرابلس الشهيرة في صيف عام 2014. تآكلت إلى حد كبير، منذ خروج غالبية كتائب مصراتة منها. وحل محل هذه القوة في طرابلس، في الوقت الراهن، ما أصبح يعرف باسم «لواء الصمود».
رئيس لواء الصمود يحمل رتبة عقيد يشغل أيضا رئاسة أركان الجيش في حكومة الغويل، وموقع منسق الغرفة الأمنية العليا وغرفة تأمين طرابلس. ويريد، وفقا لما ظهر في عدة اجتماعات في ريكسوس، أن يمسك العصا من المنتصف. وهو يرى، مثل كثير من قادة الميليشيات والكتائب، أنهم يدافعون عن الثورة التي أطاحت بمعمر القذافي، وأن مصراتة عليها أن تستمر في مساندتهم والدخول بقوة تحت راية لواء الصمود.
وفي المقابل كان عدد ممن شاركوا في الاجتماعات، يضعون الخطط لجلب مقاتلين أجانب من مالي وتشاد، للوقوف ضد حفتر والقبائل المحسوبة على القذافي، حيث أبدى رجال مصراتة وبعض قادة طرابلس مخاوف من تغير التحالفات.
يخشى قادة مصراتة من أن تؤدي تصرفات زعماء طرابلس إلى خلو مدينتهم الثرية، ذات الطابع الصناعي والتجاري، ممن يمكن أن يدافعوا عنها في حال قام تنظيم داعش باستهدافها. في الحقيقة لوح «داعش» بذلك حين قصف تخوم المدينة قبل أسبوع، وعلى هذا بدأت عملية النزوح عن المدينة تتزايد.
يقول الدكتور محمد الزبيدي، المستشار السابق لمؤتمر القبائل الليبية: «تصرفات قادة طرابلس، أيا كانت وجهتها، تجعل تنظيم داعش يحقق مكاسب. المشكلة أن البعض يعتقد أنه يستخدم التنظيم لصالحه، بينما التنظيم يبدو أنه يتلاعب بالجميع، بمساعدة أطراف خارجية».
في ريكسوس تبدو الخيارات المطروحة ضعيفة، وقادرة على إحداث خلافات. يجري هذا بينما يجمع تنظيم داعش بقيادة المدهوني، المقاتلين والأسلحة في معسكرات خاصة في طرابلس، دون أن يثير البلبلة أو يستعدي باقي الميليشيات ضده.
تنشط مجموعات تابعة لـ«داعش» في مناطق تقع خارج العاصمة. يبدو أن الغرض هو نشر الخوف والرعب. بعد أن استولت مجموعات من الدواعش على أجهزة البث الإذاعي في سرت، شنت حملة تهديد وخطب تقول فيها إنها تعتزم غزو المدينة الواقعة على البحر.
«أين الطائرات الأميركية من هذا». هكذا تحدث أحد نواب مصراتة في الاجتماع. كان غاضبا بالفعل. لقد قصف تنظيم داعش المباني الواقعة على مشارف مصراتة، بينما الطائرات الأميركية وجهت ضرباتها لمنزل في صبراتة، في إشارة إلى الغارة التي استهدفت مقرا للدواعش في تلك البلدة الواقعة إلى الغرب من العاصمة.
يمكنك أن تتأمل عدة وقائع رئيسية تجري هذه الأيام في طرابلس وتثير الغضب والإحباط وعدم القدرة على الفهم. لكن النتيجة الوحيدة حتى الآن، كما يقول أحد القادة العسكريين في مصراتة، تتركز حول مسألتين. الأولى تقدم الجيش بقيادة حفتر، والثانية تزايد قوة «داعش» بشكل مثير للريبة «كما يظهر من نشاط المدهوني في العاصمة تحت سمع وبصر الفرق الأمنية الغربية».
غدًا في الحلقة الثالثة
* أمراء حرب بالعاصمة زاروا زعيم التنظيم الدموي «للاطمئنان على سلامة مقاتليه» وحصلوا على وعود بمهاجمة الجيش في بنغازي
* «داعش ليبيا» يسحب مقاتليه من صبراتة قبل ساعات من الغارة الأميركية ويستعرض قدراته أمام ميليشيات طرابلس