صوت الأكثرية الصامتة في المسافة الفاصلة بين الثورة والدولة

عرفان نظام الدين يأسف على مآل الربيع العربي في «ربيع الأمل والدم»

جانب من مظاهرات بميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير المصرية ({الشرق الأوسط})
جانب من مظاهرات بميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير المصرية ({الشرق الأوسط})
TT

صوت الأكثرية الصامتة في المسافة الفاصلة بين الثورة والدولة

جانب من مظاهرات بميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير المصرية ({الشرق الأوسط})
جانب من مظاهرات بميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير المصرية ({الشرق الأوسط})

من شرارة صغيرة ألهبت النار في جسد شاب تونسي بائس كان يحتج على إهانة شرطية له بينما كان يحاول أن يكسب دنانير قليلة من اقتصاد مغرق في استقطابه وتخلفه، من هذه الشرارة انطلقت عاصفة عاتية عبر العالم العربي كسّرت أصنام الخوف وأسقطت أنظمة لم يظن أحد من قبل أنها ستسقط فامتلأت القلوب بآمال التغيير والغد الأفضل. لكن هذه الموجة التي أطلق عليها أحدهم تسمية الربيع العربي قياسًا ربما على ربيع براغ 1968، تحولت بعد خمس سنوات إلى مأساة خالصة. لا يزال التاريخ هنا طازجًا وهنالك كثير من سوء الفهم المتعمد أو غير المتعمد في نقل وتحليل ما يجري وما قد جرى ويصعب بالتأكيد رؤية تأثيراته الحاسمة على مستقبل المنطقة العربية وشعوبها على المدى القصير. لكننا بالضرورة بحاجة إلى توثيق شهادات الخبراء الذين عاشوا المرحلة لتكون دليلا تستند إليه الأجيال لقراءة ما جرى، من هنا تأتي في رأينا قيمة كتاب «ربيع الأمل والدم» لمؤلفه عرفان نظام الدين.
أمضى نظام الدين قرابة نصف قرن في كواليس السياسة والصحافة المكتوبة والمرئية في العالم العربي، محاورا لمعظم الملوك والرؤساء والقادة والزعماء والدبلوماسيين العرب. وعلى مقربة منهم، شهد صعود وسقوط كثير من دول المنطقة العربية وتحولات الأزمنة فيها، فضلاً عن مشاركته الكثيفة - عبر كتبه ومقالاته وأنشطته التأسيسية والإدارية والاستشارية لكثير من مؤسسات صناعة الإعلام العربي. لذا فهو عندما يقدم لنا وجهة نظره في مآلات الربيع العربي، ربما ينبغي لنا أن ننصت جيدًا لما يقول.
في «ربيع الأمل والدم» الصادر عن دار الساقي - لندن 2015. يأخذنا المؤلف في مسيرة حافلة بالتساؤلات لاستكشاف أبعاد هذا «الربيع» ويحلل لنا خفاياه وأسبابه ويصف جذور انطلاقته وطاقة الأمل التي فتحها منذ مطلع العام 2011 ومن ثم خيبة أملنا جميعًا في تداعيات أحداثه الدموية التي ما زالت مستمرة إلى اليوم في غير بلد عربي.
يبدأ نظام الدين كتابه بفصل عن «جذور المحنة» يحلل فيه أصل الداء وعوامل المرض وهو في ذلك يرى أن «الأسباب الموجبة للثورة والاعتراض ليست ابنة ساعتها بل هي قديمة تعود إلى عمر الأنظمة وبدايات انطلاقتها بعد الاستقلال» وقيام الدول ضمن حدود سايكس - بيكو.
هو يتحدث عن بدايات الربيع، فيلاحظ بعين الخبير غياب القيادة الموحدة للثورات وتسرعها في الهدم دون البناء؛ إذ يقول إن كثيرًا من الظواهر الأولى للربيع تتشابه حد التطابق مع المشروع الأميركي المدعوم إسرائيليًا المعروف بالفوضى الخلاقة في إطار مشروع «الشرق الأوسط الجديد» ذلك رغم اعترافه بحسن نيات الغالبية الساحقة من المنتفضين، كما يحدد مركزية المشروع الصهيوني في قلب أزمات المنطقة العربية وتداخل ذلك حتميًا مع الصراعات الدولية الكبرى. ومن ثم يأخذنا إلى فصل ثان «عن دنيا العرب» يتطرق فيه إلى مواقع ضعف وهزال المنظومة المجتمعية والسياسية العربية التي حتمت على الربيع العربي أن يكون فصلاً من التاريخ أقرب إلى شتاء في «بلاد العجائب» منه إلى الربيع.
في الفصل الثالث جولة خاطفة على دول الربيع العربي: من تونس وثورة الياسمين حيث «دروس وعبر ثمينة»، إلى مصر التي انتهت ثورتها الفاشلة إلى الجمود والانقسام مع التشديد على الخطر الكامن في جماعات الإسلام المسيس، ثم إلى ليبيا حيث الفوضى العارمة التي تفتقد إلى الأفق، وسوريا الجريحة بحربها العبثية التي دمرت البلاد والعباد، قبل أن يصف تجربة السودان بوصفه كان ضحية التجربة الأولى في التقسيم على أسس عرقية وهو النموذج الذي يسعى البعض لتطبيقه في بقية البلدان بعد إسقاط أنظمتها الحاكمة. يتساءل الكاتب هنا عن «ربيع القدس»، لكنه يريده - بعد أنهار الدماء التي سالت في العالم العربي - لأن يكون ربيع نضال سلمي يوفر دماء الناس ويتحدى آلة القمع الإسرائيلية دون عسكرة غير متكافئة.
موقف نظام الدين من «الربيع العربي» إذن نقدي بامتياز، وقد أسهب كثيرًا في تحليل حتمية هبوب عاصفة التغيير على بلاد العرب إن آجلا أم عاجلاً بسبب انسداد الأفق وانعدام الأمل مع تفشي الفساد والتفرد بصنع القرار، لكنه لا ينكر أن لهذا الربيع فضيلة كسر جدار الخوف وأصنام الرعب، فـ«بين الحلم والواقع مسافة فاصلة»، وهذا ما سيكتشفه الشباب العرب عندما ينتقلون من «ميادين الثورات إلى أرض الواقع» وفيضان العواطف إلى عالم الممارسة العملية ومقتضيات تقديم التنازلات وفق معادلة الممكن والمستحيل وتقاطعات القوى وتناقضاتها. في الفصل الرابع «إلى أين؟»، الذي ربما يكون أهم فصول الكتاب، يهمس في أُذن شباب العرب بحكمة الشيخ المجرب «ما من ثورة، عبر التاريخ، استمرت إلى ما لا نهاية، بل وصلت إلى حدّ وجدت نفسها أمام واقع يستدعي الانتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة». ورغم قناعته بأن الأنظمة العربية قد وصلت إلى «نقطة لم يعد فيها معظم القادة العرب يملكون فيها أجوبة ولا خطة ولا حلاً ولا حتى قدرة على مواصلة مهامهم» فإنه يحذر من استبدال ديكتاتورية النخب بديكتاتورية الشارع، لأن الأخيرة «وصفة للدمار الشامل وجواز سفر مجهزٍ لقوى الظلام» وهو قلق كثيرًا ليس من ثورة مضادة، بل إن «الخوف الحقيقي هو على الثورة من الداخل».
ويعطي نظام الدين إضاءة على التحديات الحقيقية التي هي بانتظار شباب العرب ما بعد الثورات فيقول: «وبانتظار بلورة الشكل الجديد المعدّل لأنظمة الحكم المستقبلية.. وبعيدًا عن السياسة وشجونها وما يخطط له من دساتير وقوانين وانتخابات وصراعات وتنافس أحزاب.. لا بد من دق نواقيس خطر لقضية شائكة تتعلق بحياة الناس وحاضرهم ومستقبل أجيالهم: إنها القضية الاقتصادية». ويذكرنا بظاهرة «الحيطيست» الجزائرية وكيف أن البطالة تولد النقمة والأحقاد ولا تأتي إلا بشر مستطير. فكيف لأمة أن تنهض وفيها «52 مليونا يعيشون تحت خط الفقر.. و65 مليونا يعانون من الأمية..»..
وليؤكد على ما سماه «فساد مآلات الربيع المزعوم» يفتح نظام الدين ملفي الإعلام والثقافة في العالم العربي. ولا ينكر بأي حال مأزومية الإعلام العربي (خريف في ربيع) حتى من قبل (الربيع)، إذ يستنكر ظهور طبقة المحللين الثرثارين «الذين صبوا الزيت على النار»، وأيضًا «انعدام الأخلاقيات المهنية وتقلب المواقف. فيبدي خيبة أمل كبيرة بحال الثقافة كالمثقفين الذين كان ينبغي اعتبارهم الرابح الأكبر من رياح التغيير، لكنهم كانوا أول ضحاياه : «جرت الرياح بما لا تشتهي السفن الثقافية».
ثم يخصص الكاتب الفصل الخامس من كتابه ليتحدث عن «الإسلاموفوبيا» وفيه يفرق مبدئيا بين الدين الإسلامي - القائم على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة - والإسلام السياسي بتجاربه الخطرة في أكثر البلاد العربية. يرفض الكاتب حفلات العسكرة كما العنف المجنون ودعوات القتل التي ترتكب باسم الإسلام، معتبرا إياها سبب دمار الربيع العربي، بينما يستشهد بما تركته الانتفاضة الفلسطينية الأولى من تأثيرات هائلة في وجدان العالم.
أما آخر فصول الكتاب «ما العمل؟» فهو بمثابة إشارات لتصحيح المسيرة لمرحلة مقبلة مع تحذيره المسبق بأن «المشوار طويل والطريق محفوف بالمخاطر»، ثم يقترح خطوطًا عريضة لبرنامج يعتمد الديمقراطية الانتخابية، تداول السلطة، فصل السلطات، سيادة القانون، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، بوصفها أساسات البناء لإعادة تشكيل السياسة والاقتصاد والثقافة في العالم العربي ضمن مرحلة انتقالية تؤدي إلى بناء عقد اجتماعي جديد.



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.