الفيدرالية السورية.. خطة تبديد الديموغرافيا السنيّة

خريطتان تثبتان النفوذ الكردي في الشمال.. والخطة مدعومة من دول غربية وروسيا رغم رفض المعارضة السورية

الفيدرالية السورية.. خطة تبديد الديموغرافيا السنيّة
TT

الفيدرالية السورية.. خطة تبديد الديموغرافيا السنيّة

الفيدرالية السورية.. خطة تبديد الديموغرافيا السنيّة

ليس الكشف عن طرح التقسيم الفيدرالي لسوريا وليد تسريبات تقارب «جسّ النبض».. فالخرائط التي انتشرت، منذ العام الثاني للأزمة السورية، أظهرت أن مسعى التقسيم، بعناوينه ومقترحاته المختلفة، جدي إلى حدّ بعيد، بوصفه مخرجًا للحرب المستمرة في البلاد، وتسوية محتملة لإرضاء أفرقاء النزاع السوري، لا سيما طرفه الكردي. وعززت إمكانية اللجوء إلى الفيدرالية، باعتبارها حلا أخيرا لإنهاء النزاع، خريطة انتشار القوى ميدانيًا، ومواقع سيطرتها الحالية التي قسّمت البلاد بحكم الأمر الواقع إلى دويلات حكم ذاتي، تبدأ شمالاً من إدارة الحكم الذاتي الكردي، وتنزلق غربًا إلى المنطقة العلوية في الساحل، وتمر عبر دمشق، بوصفه موقعا جامعا للحكومة المركزية، فيما تترك للدروز جنوبًا، إدارتهم الخاصة. وتشير سائر مقترحات الفدرلة في سوريا، إلى أن الخاسر الأبرز من تلك الخطط، هو السنّة العرب الذين يتضاءل نفوذهم، ويتوزعون في مناطق معزولة غير استراتيجية في الداخل السوري.

لم تتبلور خريطة التقسيم بعد. كل ما يُتداول به، لا يزال مجموعة من الاقتراحات. ففي حين رفضت جميع الأطراف المنخرطة في النزاع فكرة تقسيم البلاد، مؤكدة الحفاظ على «وحدة الأراضي السورية»، بدأت مقترحات أخرى تحتل حيزًا من تفكير المعنيين في الأزمة السورية، والدول الكبرى المعنية بها، لعل آخرها ما كشف عنه دبلوماسيون، مؤكدين أن قوى كبرى قريبة من محادثات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة بشأن سوريا تبحث إمكانية تقسيم الدولة التي مزقتها الحرب «تقسيما اتحاديا» يحافظ على وحدتها باعتبارها دولة واحدة، بينما يمنح السلطات الإقليمية حكما ذاتيا موسعا.
والنظام الفيدرالي، يعني انتفاء صفة الدولة المركزية، لتُستبدل بها حكومات صغرى في أقاليم البلد الذي يعمل به هذا النوع من الأنظمة السياسية، بينما تتولى الدولة المركزية السياسة الدفاعية والخارجية، وإلى حد ما ترسم السياسات المالية المرتبطة بالسياسات الاقتصادية وأنظمة الضرائب وغيرها، وتوكل مهام الحفاظ على النظام المالي واستقراره عبر المصرف المركزي.
والواقع أنه بعد خمسة أعوام من الحرب التي حصدت أرواح 250 ألف شخص، وشردت نحو 11 مليون آخرين، فإن الأراضي السورية باتت منقسمة بالفعل بين أطراف مختلفة منها الحكومة وحلفاؤها والأكراد المدعومون من الغرب وجماعات معارضة وتنظيم داعش.
وبحسب خرائط الانتشار الميداني الأخيرة، فإن النظام السوري يسيطر على نحو 25 في المائة من الجغرافيا السورية، بينها مراكز المحافظات باستثناء الرقة التي يسيطر عليها «داعش»، وإدلب التي يسيطر عليها «جيش الفتح» الذي يتألف من مقاتلين معتدلين ومقاتلين متشددين بينهم جبهة النصرة، وهي فرع تنظيم القاعدة في سوريا. أما تنظيم داعش فيسيطر على أكثر من 40 في المائة من الجغرافيا السورية، لكن معظم تلك المناطق صحراوية وخالية من السكان. بينما يسيطر مقاتلو المعارضة السورية وحلفاؤهم في جيش الفتح والفصائل الإسلامية، على ما يقارب الـ8 في المائة، بحسب ما أعلنت عنه الحكومة السورية المؤقتة أواخر العام الماضي، رغم أن معظم تلك المناطق مأهولة بالسكان، وتشكل عصب الانتشار الديموغرافي. وفي المقابل، تسيطر وحدات حماية الشعب الكردي على 15 في المائة من الجغرافيا السورية، وتتركز على طول الشريط الحدودي مع تركيا في مناطق الحسكة، حيث تتمدد في ريفها الجنوبي وريفها الغربي.
المقصود من طرح الفيدرالية، يعزز الاعتقاد بالعزم على تثبيت نفوذ الأكراد ضمن مناطق سيطرتهم الحالية. ويتماهى إلى حد بعيد مع مقترحات كردية. وفي أحدث تصريح له الأسبوع الماضي، أوضح صالح مسلم، رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا الذي يتمتع بنفوذ واسع على المناطق الكردية في سوريا، أن الحزب منفتح على الفكرة. وقال مسلم لـ«رويترز»: «ما تصفونه ليس مهما.. قلنا مرارا وتكرارا إننا نريد سوريا لا مركزية.. فلنسمها إدارات أو لنسمها اتحادية.. كل شيء ممكن».
هذا، وأبلغ مسؤولون أكراد في أوروبا ممثلي الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وروسيا، دعمهم لقيام نظام فيدرالي في سوريا، يضمن لهم «حقوقهم» المتمثلة بـ«تكريس إدارة الحكم الذاتي في سوريا»، وهي تجربة بدأ الأكراد باختبارها منذ مطلع عام 2013، وأنشأوا لهذه الغاية «إدارة حكم مشتركة» في عفرين (شمال حلب)، وكوباني (شمال شرقي حلب)، والجزيرة (شمال شرقي سوريا)، يحكمها الأكراد وعشائر عربية ضن نظام مشاركة. وأبلغت مصادر كردية «الشرق الأوسط» أن هذه المقترحات «لاقت آذانًا مصغية بوصفها مقترحات تجنّب سوريا التقسيم الفعلي»، وبأنها «مخرج للحفاظ على وحدة الأراضي السورية»، و«بديلاً عمليًا للتقسيم القائم حاليًا على أساس عرقي وطائفي بحكم سلطة الأمر الواقع».
يستند المقترح الأخير إلى مجموعة من المعطيات الاستراتيجية، أهمها أن وضع سوريا «يستحيل أن يعود إلى ما كان الأمر عليه قبل مارس (آذار) 2011»، وأن النظام السوري الحالي «يستحيل أن يستعيد نفوذه الذي كان قبل اندلاع الاحتجاجات ضده قبل خمس سنوات». وعليه، يصبح البحث في «فكرة عملية تقوم على المشاركة الفعلية في الحكم، عبر النظام الاتحادي الفيدراليّ، هو الأفضل بالنسبة للجميع».
* تطبيق النموذج السويسري
غير أن صورة التقسيم الاتحادي، لم تتبلور بعد. تمثل جميع نماذج الحكم الفيدرالي في العالم فرصة للتجربة على النموذج السوري، عبر إسقاطها نظريًا على سوريا، ودراسة ما إذا كانت مناسبة. ورغم ذلك، يطرح المسؤولون الأكراد، النموذج السويسري في الحكم، بوصفه «الأكثر قدرة على الحفاظ على حقوق الأقليات ويمثل فرصة للحكم الديمقراطي».
لكن هذا النموذج، يصعب تنفيذه إلى حد كبير في سوريا. أستاذ القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية د. وسيم منصوري، يؤكد، لـ«الشرق الأوسط»، أن التجربة السويسرية لا ترتبط بالفيدرالية، بقدر ارتباطها بالنظام السياسي في البلاد، موضحًا أن النظام السويسري «هو نظام مجلسي، لا يطبق معايير فصل السلطات حرفيًا، كون السلطة التنفيذية خاضعة تماما لمجلس الشعب، ومن يحكم هناك هو السلطة التشريعية التي تمتلك سلطة على السلطة التنفيذية التابعة لها، وبالتالي يستطيع البرلمان أن يعين السلطة التنفيذية، ويستبدل أخرى بها». أمام هذا الواقع، يؤكد أن البرلمان في سويسرا، بشقيه الذي يمثل الشعب الذي يمثل الولايات، «هو من يحكم البلاد»، وبالتالي «يختلف عن النظام الفيدرالي في كندا أو الولايات المتحدة أو ألمانيا».
وعليه، يرى منصوري أنه «من السابق لأوانه الجزم ما إذا كان الفيدرالية في سوريا يمكن أن تنفذ بسلاسة»، مضيفًا: «كأستاذ قانون دستوري، أؤكد أنه منطقيا، من الصعب جدا أن تُحكَم سوريا وفق النظام المجلسي. ففي فترة الفراغ والبحث عن حلول يتم طرح نظريات كثيرة حول نظام الحكم، لكن كل دولة لها خصوصية، ولا بد من مقاربة الأمر من منطق الدولة نفسها، وهي نماذج من الحكم السياسي، تختلف بحسب تجارب الشعوب»، مشددًا على أنه «من المبكر الحديث عن أي صيغة للنظام السياسي في سوريا في ظل الظروف الحالية».
* خرائط متضاربة
الحال أن مقترحات الدولة الفيدرالية السورية تتفاوت بين الأحلام والوقائع. ففي بعض الخرائط التي أفرج عنها الأكراد خلال الأسبوعين الماضيين، وهم يشكلون رأس الحربة في المطالب الفيدرالية، أظهرت مواقع سيطرتهم في المنطقة الممتدة على الحدود السورية - التركية في أقصى شمال شرقي سوريا، المحاذية لحدود العراق، إلى البحر الأبيض المتوسط بمحاذاة الشريط الحدودي التركي بأكمله، مما يعد المنفذ البحري الوحيد للأكراد في سوريا والعراق وتركيا، وبعمق يقارب الثلاثين كيلومترًا داخل الأراضي السورية. وتتجاهل الخريطة التي يُروّج لها، سائر المناطق السورية التي أبقتها منطقة موحدة.
وفي المقابل، تنتشر خرائط أخرى، تحاكي الفيدرالية السورية المحكي عنها، تظهر المناطق الكردية من الحدود العراقية إلى ريف حلب الشمالي، بينما تمتد الإدارة العلوية على طول الساحل السوري باتجاه جبال اللاذقية المحاذية لسهل الغاب في حماة، بينما تمتد الدولة السنية على طول ريف حلب الشرقي باتجاه الرقة ودير الزور في شرق البلاد، أما الدولة المركزية في دمشق فتضم حمص وأجزاء من حماة وصولاً إلى دمشق وريفها، ويسكنها المسيحيون مع علويين وشيعة وسنة وأقليات أخرى.. بينما يحصل الدروز على دولة تمتد على الحدود الأردنية من السويداء إلى تخوم هضبة الجولان المحتل في محافظة القنيطرة.
الخريطتان تظهران أن السنة العرب هم الخاسر الأبرز في الدولة الاتحادية السورية. ويرى الباحث اللبناني في الشأن الجيوبوليتيكي الدكتور نبيل خليفة، أن المخطط الاستراتيجي للغرب بأكمله من روسيا وأميركا إلى إسرائيل وإيران، يتمثل في «تبديد الخطر الديموغرافي الذي يمثله العرب السنة على إسرائيل»، مشيرًا إلى أن هؤلاء الذين يناهز عددهم الـ18 مليون في سوريا «يبعثون إسرائيل على الخوف منهم، لأن خطر وجودهم على إسرائيل، يتخطى خطر السلاح»، مؤكدًا أن خطة الفدرلة «التي اتفق عليه الغرب بأكمله لصالح إسرائيل، أوكل مهمة إنجازها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ذلك أن إسرائيل لا يمكن أن تصبح دولة عرقية ودينية طبيعية، إلا في محيط يشبهها، ينقسم بين فيدراليات عرقية وقومية ودينية، كردية وعلوية ومسيحية ودرزية وشيعية وسنية، وتتفوق عليه بالقوة».
ويقول خليفة لـ«الشرق الأوسط»: «لذلك يحاول الغرب خلق معطى وواقع جديد في المنطقة يؤمن لإسرائيل البقاء مثل جسم طبيعي وليس جسما غريبا»، مشيرًا إلى أن هذا المخطط «قديم، وليس وليد اللحظة، وقد كتبت عني في كتابي الصادر في عام 2014»، لكنه يرى أن معركة تبديد الديموغرافية الأكثرية السنية في فيدراليات «قد يستغرق وقتًا وربما لا يُنجز في وقت قصير».
* التنفيذ يصطدم برفض المعارضة
ارتفعت أسهم الفيدرالية خلال الأسبوعين الأخيرين، وعشية استئناف مفاوضات السلام في سوريا في «جنيف3»، بعد تصريح نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، حول أمل موسكو بأن «يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية»، وهو ما عكس تناغمًا روسيًا وأميركيًا حول خطة مستقبلية لإنشاء فيدراليات في البلاد، بحسب ما يقول معارضون سوريون.
ذلك التصريح، استتبع بتصريحات لدبلوماسيين رفضوا الكشف عن اسمهم، نقلتها وكالة «رويترز» أمس الجمعة، تقول إن قوى كبرى قريبة من محادثات السلام التي ترعاها الأمم المتحدة بشأن سوريا تبحث إمكانية تقسيم الدولة التي مزقتها الحرب «تقسيما اتحاديا» يحافظ على وحدتها مثل دولة واحدة، بينما يمنح السلطات الإقليمية حكما ذاتيا موسعا.
وقال دبلوماسي بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، طلب عدم نشر اسمه، إن بعض القوى الغربية الكبرى وليست روسيا فحسب تبحث أيضا إمكانية إقامة نظام اتحادي لسوريا وعرضت الفكرة على دي ميستورا.
وأضاف الدبلوماسي: «مع تأكيد الحفاظ على سلامة أراضي سوريا من أجل بقائها دولة واحدة، يوجد بالطبع جميع أنواع النماذج المختلفة لنظام اتحادي سيكون - كما في بعض هذه النماذج - متحررا للغاية من المركزية، ويعطي كثيرا من الحكم الذاتي لمختلف المناطق».
ولم يقدم أي تفاصيل عن نماذج تقسيم اتحادي للسلطة يمكن تطبيقه على سوريا. وأكد دبلوماسي آخر بالمجلس التصريحات.
غير أن رفض المعارضة السورية، يبقى عائقًا أمام تنفيذ المخطط الدولي. ورفضت المعارضة هذا الأسبوع اقتراحا قدمته روسيا بأن توافق محادثات السلام على نظام اتحادي للبلاد. وقال منسق المعارضة السورية رياض حجاب إن أي حديث عن هذه الاتحادية أو شيء قد يمثل توجها لتقسيم سوريا غير مقبول على الإطلاق.
لكن فكرة الاتحادية بالنسبة إلى سوريا ليست مستبعدة. ففي حديث تلفزيوني، قال المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا: «السوريون كلهم رفضوا تقسيم (سوريا)، ويمكن مناقشة مسألة الاتحادية في المفاوضات».
من جهته، لم يستبعد رئيس النظام السوري بشار الأسد، في مقابلة أجريت معه في سبتمبر (أيلول)، فكرة الاتحادية عندما سئل عنها، لكنه قال إن أي تغيير يجب أن يكون عبر الحوار بين السوريين وإجراء استفتاء لإدخال التغييرات الضرورية على الدستور. وأضاف: «آنذاك عندما يكون السوريون على استعداد للتحرك في اتجاه معين فإن الحكومة توافق بالطبع على هذا الأمر».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.