من التاريخ: أساس النظام النقدي الدولي المعاصر

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون
TT

من التاريخ: أساس النظام النقدي الدولي المعاصر

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون

لقد وضعت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية الهيكل الأساسي لإدارة النظام الاقتصادي الدولي لتلافي المشاكل التي صاحبت تطور هذا النظام قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان على رأسها مشكلة اهتزاز أسعار صرف العملات الدولية والتنافسية التجارية، فضلاً عن صياغة منظومة تمويلية لتمويل إعادة البناء في أوروبا بعدما دمرتها الحرب. وأسفرت المفاوضات عن إقامة النظام الاقتصادي الدولي المعروف اليوم باسم «نظام بريتون وودز» نسبة إلى البلدة التي عقدت فيها الاجتماعات في الولايات المتحدة عام 1944 كما تابعنا في الأسبوع الماضي. ولقد نشأ بمقتضى هذا الهيكل الجديد البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية لتوفير التمويل اللازم للبناء في أوروبا وهي المهمة التي وقعت على أكتاف الولايات المتحدة بالأساس من خلال «مشروع مارشال» الشهير، ولكن الأهم كان الهيكل الجديد المسمي بصندوق النقد الدولي المولج بإدارة النظام النقدي الدولي- الذي يعد الأساس لتسيير أي نظام ناجح. وفعلاً تم الاتفاق على أن يكون دوره مراقبة السياسات الاقتصادية للدول لضمان تثبيت أسعار الصرف الدولية مع وجود هامش للتذبذب قُدر بـ1 في المائة. ومن ثم تولت الولايات المتحدة قيادة النظام النقدي الدولي من خلال توفير الدولار ليصبح العملة الدولية البديلة للذهب والجنيه الإسترليني من خلال تعهدها بتحويل الدولار إلى ذهب في أي وقت على أساس 35 دولارًا للأوقية. هذا ما سمح بإدارة النظام بكل فاعلية إلى أن بدأ الدولار يواجه اضطرابات كثيرة، خاصة بعد وقوف اقتصاديات أوروبا واليابان على أرض صلبة والضغوط الدولية عليه بسبب القيادة الأميركية المنفردة لهذا النظام. هذا الوضع اضطر الولايات المتحدة لإشراك الدول الغربية الكبرى لضمان استقرار سعر صرف الدولار بزيادة العرض لاحتياطياتها من الذهب لدعم الدولار. وهنا فقدت الولايات المتحدة القدرة على القيادة المنفردة للنظام النقدي الدولي.
حقيقة الأمر أن الظروف الاقتصادية في الولايات المتحدة، خاصة مع دخولها حرب فيتنام، باتت تنذر بالخطر. إذ وضعت التطورات الدولية والاعتماد الزائد على الدولار اقتصادها محل شك، فلم تعد قادرة على تحمل أعباء تحويل الدولار إلى ذهب. عندها بدأ الدولار يعاني سلسلة من الأزمات ما اضطرها لوضع قيود على خروج الدولار للحد من هروب رأس المال للخارج بعدما بدأ ميزان المدفوعات الأميركي يواجه المشاكل، وهو ما خلق أزمة سيولة دولارية على المستوى الدولي، وما عاد من الممكن الاستمرار في الاعتماد على هذه العملة وحدها كأداة تقييم وقيمة وتداول على المستوى الدولي.
النتيجة كانت توجه الدول الكبرى لإنشاء آلية جديدة للحفاظ على أسعار صرف ثابتة للعملات الدولية وهو ما عرف «بحقوق السحب الخاصة Special Drawing Rights» في صندوق النقد الدولي. وهذه وحدات نقدية يمكن استخدامها لتسوية الحسابات بين البنوك المركزية لتخفيف الطلب الدولي على الدولار على أن تدار هذه الآلية الجديدة من خلال مجموعة العشر الكبرى في الصندوق.
واقع الأمر أن هذه الآلية لم تكن كافية لمواكبة المتغيرات الدولية التي بدأت تظهر على المستوى الدولي المعروفة باسم بالتكامل. ذلك أن العالم في 1970 لم يكن مثل العالم الذي بُني على أساسه النظام النقدي الدولي في «بريتون وودز». فلقد تعمقت وتعددت التعاملات الدولية، ولم تعد الدول وبنوكها المركزية هي المتحكمة في النظام النقدي الدولي وحدها، إذ ظهرت البنوك الخاصة التي صارت أداة موازية لها أهدافها الخاصة التي لم تتطابق مع الدول بطبيعة الحال. لقد أصبحت حركة رأس المال مرتبطة بأسعار الفائدة الدولية والأداء الاقتصادي للدول، وهو ما هدد نظام الصرف الثابت. يضاف إلى ذلك أن الأداء الاقتصادي الأميركي أخذ يضعف ما جعل الدولار يحمل قيمة اسمية أعلى من القيمة الواقعية له، فكان على الإدارة الأميركية في عام 1969 إما التوجه نحو خفض سعر صرف الدولار عالميًا أو القضاء على التضخم، لكن الإدارة الأميركية لم تكن قادرة على اتخاذ أي خطوة نحو هذين الحلين لقرب موعد الانتخابات الرئاسية. ثم زاد من تعقيد الأمر أن الدول التي أنُشئ هذا النظام من أجلها، أي دول أوروبا الغربية واليابان، صار لديها اتجاهاتها الخاصة لعدم ترك إدارة النظام النقدي الدولي في أيدي الولايات المتحدة وحدها. وإزاء كل هذه الضغوط لم يجد الرئيس الأميركي يومذاك ريتشارد نيكسون بدا من التخلي عن قاعدة الذهب، في عام 1971. وبهذه الخطوة وضعت الولايات المتحدة نهاية لفلسفة «نظام بريتون وودز» دون مؤسساته.
مع ذلك لم يكن العالم الغربي على استعداد للتخلي عن فلسفة تثبيت سعر الصرف بعد. فسرعان ما عقدت الاجتماعات النقدية لدول مجموعة العشر اجتماعاتها وخرجت بما هو معروف بـ«اتفاقية السميثونيان» نسبة إلى المعهد الذي اجتمعوا فيه في واشنطن. إذ قررت الدول الاتفاق على خفض قيمة الدولار بنسبة 10 في المائة مقابل الذهب ورفع هامش تذبذب أسعار الصرف إلى 2.5 في المائة بدلاً من 1 في المائة وفقًا للاتفاقية الأصلية. وتم الاتفاق على إنشاء لجنة العشرين في الصندوق بمشاركة الدول النامية بهدف إصلاح النظام النقدي الدولي ووضع أطر للهيكلة والإصلاح له.
لكن هذه الجهود ما كانت لتسفر عن شيء بسبب استمرار عوامل التكامل الدولي والاختلافات في الرؤى الدولية، وساهم في ذلك أيضًا أن الدولار لم يعد عملة يمكن تحويلها إلى الذهب، فلقد تغير العالم ولم تتغير الفلسفة بعد إلى أن وضعت بريطانيا المسمار قبل الأخير في نعش هذه الفلسفة بتعويم الجنيه الإسترليني في عام 1972 متخلية تمامًا عن هذه الفلسفة. ومع ذلك لم تقنع باقي الدول بهذا وحاولت مرة أخرى إنقاذ النظام النقدي من خلال خفض 10 في المائة إضافية من قيمة الدولار، ولكن سرعان ما اقتفت الدول الأخرى خطوة لندن وعوّمت عملاتها منهية بذلك قاعدة تثبيت أسعار الصرف.
بيد أن النظام النقدي كان يستعد في حقيقة الأمر لتقبل كارثة جديدة بالنسبة للدول الغربية بسبب «حرب 1973» العربية الإسرائيلية التي كان من تبعاتها فرض حظر على صادرات البترول ما أدى إلى ارتفاع جنوني في سعره، فخلق أزمة سيولة دولية مع تحويل ما يقرب من سبعين بليون دولار إلى الدول المنتجة لهذه السلعة وهو الرقم الذي بلغ 114 بليونًا في مطلع ثمانينات القرن الماضي.
ونظرًا لأن البترول سلعة استراتيجية لم تستطع الدول الغربية خفض الطلب عليه، كما أنها عجزت عن زيادة صادراتها إلى الدول المنتجة بنفس القدر للموازنة الاقتصادية والمالية، ما أدى لظهور مصطلح جديد لهذا الفائض المالي عُرف باسم «البترودولار Petrodollar». وعاد جزء من هذه الدولارات إلى البنوك الخاصة ما همّش دور البنوك المركزية وخلق فائضًا من السيولة في أيدي هذه البنوك فسهّل عملية الإقراض للدول النامية وأدى لأزمة الديون فيما بعد عندما لم تستطع هذه الدول الوفاء بأقساط الديون وخدمتها.
أدت هذه التطورات لتضافر جهود الدول الغربية واليابان للسيطرة على آثار هذه الأزمات المتتالية، فعقد اجتماع رامبوييه الشهير في بلدة رامبوييه قرب العاصمة الفرنسية باريس عام 1975 بمشاركة الدول السبع الكبرى بهدف السيطرة على التضخم والتعامل مع البترودولارات وحالة الكساد التي بدأت تظهر على المستوى الدولي. وكان هذا الاجتماع هو بداية ظهور «مجموعة السبع G7». وتحققت الموافقة على إقرار التعديل الثاني لبنود صندوق النقد الدولي وإلغاء نظام القيادة الواحدة للنظام الدولي، ومعها إلغاء قاعدة الذهب والاستعاضة عنها بحقوق السحب الخاصة كأساس للاحتياطي النقدي. وكان هذا إقرارًا بالأمر الواقع لفشل منظومة الإدارة النقدية الدولية التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية، وتحويل هذه الإدارة من أداة للتثبيت إلى أداة للإدارة وفقًا للمتغيرات الدولية. وبالتالي، كانت هذه هي بداية النظام النقدي الدولي الذي نعرفه اليوم الذي أصبح يسير وفقًا لمقتضيات العرض والطلب ويكتفي بدور دولي لتنسيق السياسات ومواجهة الأزمات.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.