من التاريخ: أساس النظام النقدي الدولي المعاصر

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون
TT

من التاريخ: أساس النظام النقدي الدولي المعاصر

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون

لقد وضعت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية الهيكل الأساسي لإدارة النظام الاقتصادي الدولي لتلافي المشاكل التي صاحبت تطور هذا النظام قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان على رأسها مشكلة اهتزاز أسعار صرف العملات الدولية والتنافسية التجارية، فضلاً عن صياغة منظومة تمويلية لتمويل إعادة البناء في أوروبا بعدما دمرتها الحرب. وأسفرت المفاوضات عن إقامة النظام الاقتصادي الدولي المعروف اليوم باسم «نظام بريتون وودز» نسبة إلى البلدة التي عقدت فيها الاجتماعات في الولايات المتحدة عام 1944 كما تابعنا في الأسبوع الماضي. ولقد نشأ بمقتضى هذا الهيكل الجديد البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية لتوفير التمويل اللازم للبناء في أوروبا وهي المهمة التي وقعت على أكتاف الولايات المتحدة بالأساس من خلال «مشروع مارشال» الشهير، ولكن الأهم كان الهيكل الجديد المسمي بصندوق النقد الدولي المولج بإدارة النظام النقدي الدولي- الذي يعد الأساس لتسيير أي نظام ناجح. وفعلاً تم الاتفاق على أن يكون دوره مراقبة السياسات الاقتصادية للدول لضمان تثبيت أسعار الصرف الدولية مع وجود هامش للتذبذب قُدر بـ1 في المائة. ومن ثم تولت الولايات المتحدة قيادة النظام النقدي الدولي من خلال توفير الدولار ليصبح العملة الدولية البديلة للذهب والجنيه الإسترليني من خلال تعهدها بتحويل الدولار إلى ذهب في أي وقت على أساس 35 دولارًا للأوقية. هذا ما سمح بإدارة النظام بكل فاعلية إلى أن بدأ الدولار يواجه اضطرابات كثيرة، خاصة بعد وقوف اقتصاديات أوروبا واليابان على أرض صلبة والضغوط الدولية عليه بسبب القيادة الأميركية المنفردة لهذا النظام. هذا الوضع اضطر الولايات المتحدة لإشراك الدول الغربية الكبرى لضمان استقرار سعر صرف الدولار بزيادة العرض لاحتياطياتها من الذهب لدعم الدولار. وهنا فقدت الولايات المتحدة القدرة على القيادة المنفردة للنظام النقدي الدولي.
حقيقة الأمر أن الظروف الاقتصادية في الولايات المتحدة، خاصة مع دخولها حرب فيتنام، باتت تنذر بالخطر. إذ وضعت التطورات الدولية والاعتماد الزائد على الدولار اقتصادها محل شك، فلم تعد قادرة على تحمل أعباء تحويل الدولار إلى ذهب. عندها بدأ الدولار يعاني سلسلة من الأزمات ما اضطرها لوضع قيود على خروج الدولار للحد من هروب رأس المال للخارج بعدما بدأ ميزان المدفوعات الأميركي يواجه المشاكل، وهو ما خلق أزمة سيولة دولارية على المستوى الدولي، وما عاد من الممكن الاستمرار في الاعتماد على هذه العملة وحدها كأداة تقييم وقيمة وتداول على المستوى الدولي.
النتيجة كانت توجه الدول الكبرى لإنشاء آلية جديدة للحفاظ على أسعار صرف ثابتة للعملات الدولية وهو ما عرف «بحقوق السحب الخاصة Special Drawing Rights» في صندوق النقد الدولي. وهذه وحدات نقدية يمكن استخدامها لتسوية الحسابات بين البنوك المركزية لتخفيف الطلب الدولي على الدولار على أن تدار هذه الآلية الجديدة من خلال مجموعة العشر الكبرى في الصندوق.
واقع الأمر أن هذه الآلية لم تكن كافية لمواكبة المتغيرات الدولية التي بدأت تظهر على المستوى الدولي المعروفة باسم بالتكامل. ذلك أن العالم في 1970 لم يكن مثل العالم الذي بُني على أساسه النظام النقدي الدولي في «بريتون وودز». فلقد تعمقت وتعددت التعاملات الدولية، ولم تعد الدول وبنوكها المركزية هي المتحكمة في النظام النقدي الدولي وحدها، إذ ظهرت البنوك الخاصة التي صارت أداة موازية لها أهدافها الخاصة التي لم تتطابق مع الدول بطبيعة الحال. لقد أصبحت حركة رأس المال مرتبطة بأسعار الفائدة الدولية والأداء الاقتصادي للدول، وهو ما هدد نظام الصرف الثابت. يضاف إلى ذلك أن الأداء الاقتصادي الأميركي أخذ يضعف ما جعل الدولار يحمل قيمة اسمية أعلى من القيمة الواقعية له، فكان على الإدارة الأميركية في عام 1969 إما التوجه نحو خفض سعر صرف الدولار عالميًا أو القضاء على التضخم، لكن الإدارة الأميركية لم تكن قادرة على اتخاذ أي خطوة نحو هذين الحلين لقرب موعد الانتخابات الرئاسية. ثم زاد من تعقيد الأمر أن الدول التي أنُشئ هذا النظام من أجلها، أي دول أوروبا الغربية واليابان، صار لديها اتجاهاتها الخاصة لعدم ترك إدارة النظام النقدي الدولي في أيدي الولايات المتحدة وحدها. وإزاء كل هذه الضغوط لم يجد الرئيس الأميركي يومذاك ريتشارد نيكسون بدا من التخلي عن قاعدة الذهب، في عام 1971. وبهذه الخطوة وضعت الولايات المتحدة نهاية لفلسفة «نظام بريتون وودز» دون مؤسساته.
مع ذلك لم يكن العالم الغربي على استعداد للتخلي عن فلسفة تثبيت سعر الصرف بعد. فسرعان ما عقدت الاجتماعات النقدية لدول مجموعة العشر اجتماعاتها وخرجت بما هو معروف بـ«اتفاقية السميثونيان» نسبة إلى المعهد الذي اجتمعوا فيه في واشنطن. إذ قررت الدول الاتفاق على خفض قيمة الدولار بنسبة 10 في المائة مقابل الذهب ورفع هامش تذبذب أسعار الصرف إلى 2.5 في المائة بدلاً من 1 في المائة وفقًا للاتفاقية الأصلية. وتم الاتفاق على إنشاء لجنة العشرين في الصندوق بمشاركة الدول النامية بهدف إصلاح النظام النقدي الدولي ووضع أطر للهيكلة والإصلاح له.
لكن هذه الجهود ما كانت لتسفر عن شيء بسبب استمرار عوامل التكامل الدولي والاختلافات في الرؤى الدولية، وساهم في ذلك أيضًا أن الدولار لم يعد عملة يمكن تحويلها إلى الذهب، فلقد تغير العالم ولم تتغير الفلسفة بعد إلى أن وضعت بريطانيا المسمار قبل الأخير في نعش هذه الفلسفة بتعويم الجنيه الإسترليني في عام 1972 متخلية تمامًا عن هذه الفلسفة. ومع ذلك لم تقنع باقي الدول بهذا وحاولت مرة أخرى إنقاذ النظام النقدي من خلال خفض 10 في المائة إضافية من قيمة الدولار، ولكن سرعان ما اقتفت الدول الأخرى خطوة لندن وعوّمت عملاتها منهية بذلك قاعدة تثبيت أسعار الصرف.
بيد أن النظام النقدي كان يستعد في حقيقة الأمر لتقبل كارثة جديدة بالنسبة للدول الغربية بسبب «حرب 1973» العربية الإسرائيلية التي كان من تبعاتها فرض حظر على صادرات البترول ما أدى إلى ارتفاع جنوني في سعره، فخلق أزمة سيولة دولية مع تحويل ما يقرب من سبعين بليون دولار إلى الدول المنتجة لهذه السلعة وهو الرقم الذي بلغ 114 بليونًا في مطلع ثمانينات القرن الماضي.
ونظرًا لأن البترول سلعة استراتيجية لم تستطع الدول الغربية خفض الطلب عليه، كما أنها عجزت عن زيادة صادراتها إلى الدول المنتجة بنفس القدر للموازنة الاقتصادية والمالية، ما أدى لظهور مصطلح جديد لهذا الفائض المالي عُرف باسم «البترودولار Petrodollar». وعاد جزء من هذه الدولارات إلى البنوك الخاصة ما همّش دور البنوك المركزية وخلق فائضًا من السيولة في أيدي هذه البنوك فسهّل عملية الإقراض للدول النامية وأدى لأزمة الديون فيما بعد عندما لم تستطع هذه الدول الوفاء بأقساط الديون وخدمتها.
أدت هذه التطورات لتضافر جهود الدول الغربية واليابان للسيطرة على آثار هذه الأزمات المتتالية، فعقد اجتماع رامبوييه الشهير في بلدة رامبوييه قرب العاصمة الفرنسية باريس عام 1975 بمشاركة الدول السبع الكبرى بهدف السيطرة على التضخم والتعامل مع البترودولارات وحالة الكساد التي بدأت تظهر على المستوى الدولي. وكان هذا الاجتماع هو بداية ظهور «مجموعة السبع G7». وتحققت الموافقة على إقرار التعديل الثاني لبنود صندوق النقد الدولي وإلغاء نظام القيادة الواحدة للنظام الدولي، ومعها إلغاء قاعدة الذهب والاستعاضة عنها بحقوق السحب الخاصة كأساس للاحتياطي النقدي. وكان هذا إقرارًا بالأمر الواقع لفشل منظومة الإدارة النقدية الدولية التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية، وتحويل هذه الإدارة من أداة للتثبيت إلى أداة للإدارة وفقًا للمتغيرات الدولية. وبالتالي، كانت هذه هي بداية النظام النقدي الدولي الذي نعرفه اليوم الذي أصبح يسير وفقًا لمقتضيات العرض والطلب ويكتفي بدور دولي لتنسيق السياسات ومواجهة الأزمات.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.