من التاريخ: أساس النظام النقدي الدولي المعاصر

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون
TT

من التاريخ: أساس النظام النقدي الدولي المعاصر

ريتشارد نيكسون
ريتشارد نيكسون

لقد وضعت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية الهيكل الأساسي لإدارة النظام الاقتصادي الدولي لتلافي المشاكل التي صاحبت تطور هذا النظام قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان على رأسها مشكلة اهتزاز أسعار صرف العملات الدولية والتنافسية التجارية، فضلاً عن صياغة منظومة تمويلية لتمويل إعادة البناء في أوروبا بعدما دمرتها الحرب. وأسفرت المفاوضات عن إقامة النظام الاقتصادي الدولي المعروف اليوم باسم «نظام بريتون وودز» نسبة إلى البلدة التي عقدت فيها الاجتماعات في الولايات المتحدة عام 1944 كما تابعنا في الأسبوع الماضي. ولقد نشأ بمقتضى هذا الهيكل الجديد البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية لتوفير التمويل اللازم للبناء في أوروبا وهي المهمة التي وقعت على أكتاف الولايات المتحدة بالأساس من خلال «مشروع مارشال» الشهير، ولكن الأهم كان الهيكل الجديد المسمي بصندوق النقد الدولي المولج بإدارة النظام النقدي الدولي- الذي يعد الأساس لتسيير أي نظام ناجح. وفعلاً تم الاتفاق على أن يكون دوره مراقبة السياسات الاقتصادية للدول لضمان تثبيت أسعار الصرف الدولية مع وجود هامش للتذبذب قُدر بـ1 في المائة. ومن ثم تولت الولايات المتحدة قيادة النظام النقدي الدولي من خلال توفير الدولار ليصبح العملة الدولية البديلة للذهب والجنيه الإسترليني من خلال تعهدها بتحويل الدولار إلى ذهب في أي وقت على أساس 35 دولارًا للأوقية. هذا ما سمح بإدارة النظام بكل فاعلية إلى أن بدأ الدولار يواجه اضطرابات كثيرة، خاصة بعد وقوف اقتصاديات أوروبا واليابان على أرض صلبة والضغوط الدولية عليه بسبب القيادة الأميركية المنفردة لهذا النظام. هذا الوضع اضطر الولايات المتحدة لإشراك الدول الغربية الكبرى لضمان استقرار سعر صرف الدولار بزيادة العرض لاحتياطياتها من الذهب لدعم الدولار. وهنا فقدت الولايات المتحدة القدرة على القيادة المنفردة للنظام النقدي الدولي.
حقيقة الأمر أن الظروف الاقتصادية في الولايات المتحدة، خاصة مع دخولها حرب فيتنام، باتت تنذر بالخطر. إذ وضعت التطورات الدولية والاعتماد الزائد على الدولار اقتصادها محل شك، فلم تعد قادرة على تحمل أعباء تحويل الدولار إلى ذهب. عندها بدأ الدولار يعاني سلسلة من الأزمات ما اضطرها لوضع قيود على خروج الدولار للحد من هروب رأس المال للخارج بعدما بدأ ميزان المدفوعات الأميركي يواجه المشاكل، وهو ما خلق أزمة سيولة دولارية على المستوى الدولي، وما عاد من الممكن الاستمرار في الاعتماد على هذه العملة وحدها كأداة تقييم وقيمة وتداول على المستوى الدولي.
النتيجة كانت توجه الدول الكبرى لإنشاء آلية جديدة للحفاظ على أسعار صرف ثابتة للعملات الدولية وهو ما عرف «بحقوق السحب الخاصة Special Drawing Rights» في صندوق النقد الدولي. وهذه وحدات نقدية يمكن استخدامها لتسوية الحسابات بين البنوك المركزية لتخفيف الطلب الدولي على الدولار على أن تدار هذه الآلية الجديدة من خلال مجموعة العشر الكبرى في الصندوق.
واقع الأمر أن هذه الآلية لم تكن كافية لمواكبة المتغيرات الدولية التي بدأت تظهر على المستوى الدولي المعروفة باسم بالتكامل. ذلك أن العالم في 1970 لم يكن مثل العالم الذي بُني على أساسه النظام النقدي الدولي في «بريتون وودز». فلقد تعمقت وتعددت التعاملات الدولية، ولم تعد الدول وبنوكها المركزية هي المتحكمة في النظام النقدي الدولي وحدها، إذ ظهرت البنوك الخاصة التي صارت أداة موازية لها أهدافها الخاصة التي لم تتطابق مع الدول بطبيعة الحال. لقد أصبحت حركة رأس المال مرتبطة بأسعار الفائدة الدولية والأداء الاقتصادي للدول، وهو ما هدد نظام الصرف الثابت. يضاف إلى ذلك أن الأداء الاقتصادي الأميركي أخذ يضعف ما جعل الدولار يحمل قيمة اسمية أعلى من القيمة الواقعية له، فكان على الإدارة الأميركية في عام 1969 إما التوجه نحو خفض سعر صرف الدولار عالميًا أو القضاء على التضخم، لكن الإدارة الأميركية لم تكن قادرة على اتخاذ أي خطوة نحو هذين الحلين لقرب موعد الانتخابات الرئاسية. ثم زاد من تعقيد الأمر أن الدول التي أنُشئ هذا النظام من أجلها، أي دول أوروبا الغربية واليابان، صار لديها اتجاهاتها الخاصة لعدم ترك إدارة النظام النقدي الدولي في أيدي الولايات المتحدة وحدها. وإزاء كل هذه الضغوط لم يجد الرئيس الأميركي يومذاك ريتشارد نيكسون بدا من التخلي عن قاعدة الذهب، في عام 1971. وبهذه الخطوة وضعت الولايات المتحدة نهاية لفلسفة «نظام بريتون وودز» دون مؤسساته.
مع ذلك لم يكن العالم الغربي على استعداد للتخلي عن فلسفة تثبيت سعر الصرف بعد. فسرعان ما عقدت الاجتماعات النقدية لدول مجموعة العشر اجتماعاتها وخرجت بما هو معروف بـ«اتفاقية السميثونيان» نسبة إلى المعهد الذي اجتمعوا فيه في واشنطن. إذ قررت الدول الاتفاق على خفض قيمة الدولار بنسبة 10 في المائة مقابل الذهب ورفع هامش تذبذب أسعار الصرف إلى 2.5 في المائة بدلاً من 1 في المائة وفقًا للاتفاقية الأصلية. وتم الاتفاق على إنشاء لجنة العشرين في الصندوق بمشاركة الدول النامية بهدف إصلاح النظام النقدي الدولي ووضع أطر للهيكلة والإصلاح له.
لكن هذه الجهود ما كانت لتسفر عن شيء بسبب استمرار عوامل التكامل الدولي والاختلافات في الرؤى الدولية، وساهم في ذلك أيضًا أن الدولار لم يعد عملة يمكن تحويلها إلى الذهب، فلقد تغير العالم ولم تتغير الفلسفة بعد إلى أن وضعت بريطانيا المسمار قبل الأخير في نعش هذه الفلسفة بتعويم الجنيه الإسترليني في عام 1972 متخلية تمامًا عن هذه الفلسفة. ومع ذلك لم تقنع باقي الدول بهذا وحاولت مرة أخرى إنقاذ النظام النقدي من خلال خفض 10 في المائة إضافية من قيمة الدولار، ولكن سرعان ما اقتفت الدول الأخرى خطوة لندن وعوّمت عملاتها منهية بذلك قاعدة تثبيت أسعار الصرف.
بيد أن النظام النقدي كان يستعد في حقيقة الأمر لتقبل كارثة جديدة بالنسبة للدول الغربية بسبب «حرب 1973» العربية الإسرائيلية التي كان من تبعاتها فرض حظر على صادرات البترول ما أدى إلى ارتفاع جنوني في سعره، فخلق أزمة سيولة دولية مع تحويل ما يقرب من سبعين بليون دولار إلى الدول المنتجة لهذه السلعة وهو الرقم الذي بلغ 114 بليونًا في مطلع ثمانينات القرن الماضي.
ونظرًا لأن البترول سلعة استراتيجية لم تستطع الدول الغربية خفض الطلب عليه، كما أنها عجزت عن زيادة صادراتها إلى الدول المنتجة بنفس القدر للموازنة الاقتصادية والمالية، ما أدى لظهور مصطلح جديد لهذا الفائض المالي عُرف باسم «البترودولار Petrodollar». وعاد جزء من هذه الدولارات إلى البنوك الخاصة ما همّش دور البنوك المركزية وخلق فائضًا من السيولة في أيدي هذه البنوك فسهّل عملية الإقراض للدول النامية وأدى لأزمة الديون فيما بعد عندما لم تستطع هذه الدول الوفاء بأقساط الديون وخدمتها.
أدت هذه التطورات لتضافر جهود الدول الغربية واليابان للسيطرة على آثار هذه الأزمات المتتالية، فعقد اجتماع رامبوييه الشهير في بلدة رامبوييه قرب العاصمة الفرنسية باريس عام 1975 بمشاركة الدول السبع الكبرى بهدف السيطرة على التضخم والتعامل مع البترودولارات وحالة الكساد التي بدأت تظهر على المستوى الدولي. وكان هذا الاجتماع هو بداية ظهور «مجموعة السبع G7». وتحققت الموافقة على إقرار التعديل الثاني لبنود صندوق النقد الدولي وإلغاء نظام القيادة الواحدة للنظام الدولي، ومعها إلغاء قاعدة الذهب والاستعاضة عنها بحقوق السحب الخاصة كأساس للاحتياطي النقدي. وكان هذا إقرارًا بالأمر الواقع لفشل منظومة الإدارة النقدية الدولية التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية، وتحويل هذه الإدارة من أداة للتثبيت إلى أداة للإدارة وفقًا للمتغيرات الدولية. وبالتالي، كانت هذه هي بداية النظام النقدي الدولي الذي نعرفه اليوم الذي أصبح يسير وفقًا لمقتضيات العرض والطلب ويكتفي بدور دولي لتنسيق السياسات ومواجهة الأزمات.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.