سجناء في صناديق مقفلة

وسط جدل حول خطر الوحدة في الأفلام السينمائية داخل المجتمع

«غرفة»: الأم وابنها ضحيتان و غريس كيلي وحيدة في بيتها
«غرفة»: الأم وابنها ضحيتان و غريس كيلي وحيدة في بيتها
TT

سجناء في صناديق مقفلة

«غرفة»: الأم وابنها ضحيتان و غريس كيلي وحيدة في بيتها
«غرفة»: الأم وابنها ضحيتان و غريس كيلي وحيدة في بيتها

هناك نظرية وردت في مقال نشرته مجلة «سايكولوجي توداي» مفادها أن النملة «تموت من الوحدة»، ومفاد المقال أن الوحدة، إذا ما كانت اختيارا، تصيب الإنسان بالعزلة وبالبرودة حيال الآخرين وباليأس. يصبح «مثل النملة التي إذا ما وجدت نفسها وحيدة لا تدري ما تفعل فتموت».
في السينما الوحدة لها تفسيرات ونظريات أخرى: هي من لزوم بعض أبطال السينما الذين لا يريدون الانخراط مع العالم ومن فيه، الذين يحسنون التأقلم مع وحدتهم أكثر مما يشعرون بالراحة إذا ما انفتحوا تجاه الآخرين وعاشوا كما حال الجميع.
لكن الحقيقة هي أن القاتل الشرس في «لا بلد للمسنين» No Country for Old Men (للأخوين كووَن، 2007) كما البطل الوحيد في فيلم «هذا المسدس للإيجار» (فرانك تاتل، 1941) يدافعان عن نفسيهما ضد محيط شرس وغريب. الوحدة عند خافييه باردم في المثال الأول، وعند آلان لاد في المثال الثاني، هي خط دفاع ضد الآخر وإلى حد كبير يعكس خوف كل منهما من المجتمع الذي يعيش فيه. حتى من الحب إذا ما جاء يطرق الباب، وكما في أفلام كثيرة سواهما، فإن العلاقة الاجتماعية - إذا ما عمد البطل إليها مضطرًا - قد تقضي عليه. إذا ما عاش سيعود لوحدته سعيدًا.

سجناء منفردون
على أن الأفلام التي تخرج إلينا منذ حين باتت تبحث في نوع آخر من الوحدة هي تلك المفروضة على أبطالها. في «غرفة» نجد امرأة وابنها الصغير محبوسين في غرفة موصدة منذ خمس سنوات. ومع أنها تنجح في الهرب مع ابنها، فإن الصورة الماثلة والطاغية للفيلم هي ذلك الجزء الطويل من الأحداث التي نرى فيها بطلي الفيلم (بري لارسون وجاكوب ترمبلاي) محكومين بالعيش في ذلك الركن من العالم.
الفيلم الإماراتي الجديد «الزنزانة» لماجد الأنصاري فيلم تشويق تقع كل أحداثه داخل مركز شرطة فيها زنزانة وفي الزنزانة رجل تم القبض عليه. من موقعه هذا عليه أن يحارب خطرًا خارجيًا: لقد تقمّص قاتل شخصية رجل بوليس وقتل المكلف بالحراسة ثم أخذ يرهب الرجل الموقوف ويهدد سلامته والآخرين.
«أولدبوي» في نسختيه الكورية (2003) لشوان - ووك بارك والأميركية (2013) لسبايك لي، يروي حكاية رجل استيقظ ليجد نفسه في غرفة بباب موصد وبلا نوافذ عاش فيها لأكثر من عشر سنوات من دون أن يعرف السبب.
هذه الحالات المثارة لا تدخل في نطاق سينما الرعب، لكن سينما الرعب لديها الكثير منها أبرزها سلسلة «كيوب» وسلسلة «Saw» وفيهما شخصيات محبوسة في أماكن غيبية عليها أن تقاوم خطر الموت المفاجئ في بحثها عن الخلاص.
المفاد فيما سبق من أفلام هي أن أناسًا أحرارًا في الحياة العامّة وجدوا أنفسهم حبيسي زنزانات وسجون وغرف مقفلة. للتعبير عن أوضاعهم هذه، فإن هذه الأفلام تخص نفسها، لكل الوقت أو لأكثر من نصفه، في تلك الأماكن المغلقة بدورها. الناتج عن «فوبيا» مكانية مقصودة هدفها وضع المشاهد أعزل على نحو يلائم عزلة الشخصيات التي يراها. إذا كانت هذه الشخصيات تعاني من ألم المكان ووحشته فإنه من المثالي، في سينما اليوم، أن يعاني المشاهد من الشعور بنفسه. في الحقيقة، هناك اعتقاد بأن معاناة المشاهد في هذه الحال دليل نجاح الفيلم.
هذا الاعتقاد غير صحيح ولا واقعي. عندما حشر صلاح أبو سيف عشرة أشخاص في مصعد فيلمه «بين السماء والأرض» (1959) خلق جوًا كوميديًا بنجاح. في «12 رجلاً غاضبًا» (1957) المكان المقفل في الفيلم ليس سجنًا، والمخرج سيدني لوميت استفاد منه في طرح حق الحياة وليس حتمية الموت، إذ إن الرجال الاثني عشر الذين اجتمعوا في تلك الغرفة هم أعضاء المحلفين الذين عليهم الوصول إلى حكم براءة أو حكم إدانة لمتهم (هو بريء بالفعل).
فيلم أبو سيف لا يتطوّر إلى ذعر شديد بسبب انقطاع المصعد وانحباس ما فيه، ولا فيلم سيدني لوميت دار حول قاتل وسط المجموعة يبدأ بالتخلص من معارضيه.

استخدامات متنوعة
على أن الفكرة بحد ذاتها مثيرة للاهتمام سينمائيًا وإلى حد بعيد ودلالاتها كثيرة حتى وإن تشابهت أحيانًا.
ألفرد هيتشكوك، سيد التشويق إلى اليوم، أنجز سنة 1954 فيلمين حصر أحداثهما داخل بيت واحد هما «نافذة خلفية» و«أدر قرص (م) للجريمة» Dial M For Murder وكلاهما من بطولة نسائية لغريس كيلي.
في الأول نجد المصوّر الصحافي جيمس ستيوارت حبيس منزله الصغير في طابق علوي يرقب الناس من خلال منظاره ويكتشف جريمة قتل وقعت في منزل مقابل. في الثاني يترك الزوج راي ميلاند زوجته للقاء بعض أصحابه، لكنه في الواقع أوصى قاتلاً باقتحام البيت، الذي تقع كل الأحداث فيه، وقتلها خلال غيابه.
قبل ذلك بأعوام قليلة أنجز هيتشكوك فيلمًا سابقًا تقع أحداثه أيضًا في مكان واحد هو «حبل» وفيه حكاية طالبين يخفيان في صندوق كبير جثة زميل لهما.
مخرج أفلام الرعب جورج أ. روميرو بنى ثروته الفنية والمادية على سلسلة تصوّر محاصرة الزومبي للبشر العاديين في الأحياء والمدن على حد سواء، لكن الفيلم الأول من هذه السلسلة، وهو «ليلة الموتى الأحياء» (1968) دار في منزل واحد محاصر. بعد تمهيد من نحو ربع ساعة يلجأ جمع من الناجين إلى ذلك البيت للذود عن أنفسهم داخله.
هذا الشعور بضرورة ردع المهاجم والدفاع عن النفس يقف وراء فيلم تشويقي رائع من جون كاربنتر عنوانه «الاعتداء على المقسم 13» (1976) ووراء فيلم ديفيد فينشر «غرفة الفزع» (2002). ولكي لا ننسى أن الاستخدامات قد تكون كثيرة ومتعددة وليس جميعها مفزعة، نذكّر بفيلمين من أعمال الفنان روبرت ألتمن، هما «عد للخمس والعشر سنتات يا جيمي دين» Come Back to the 5 ‪&‬ Dime‪,‬ Jimmy Dean‪,‬ Jimmy Dean الذي تقع أحداثه في مطعم صغير في أطراف بلدة صحراوية، وحققه سنة 1982 و«شرف سري» (1984) وهو فيلم لم يشاهده إلا قلّة من النقاد والجمهور لعب فيه فيليب بايكر هول دور الرئيس رتشارد نيكسون في غرفته في البيت الأبيض وحيدًا وطوال الوقت.
في غالبية هذه النماذج، فإن الخوف من الآخر هو الذي يحكم العلاقة سوء أكان الوحيد ضحية سواه أو كانت الوحدة هي اختياره الأساسي.



شاشة الناقد: أفلام على اختلافها لم تأتِ جيدة جداً

«معطراً بالنعناع» (ريزون 8)
«معطراً بالنعناع» (ريزون 8)
TT

شاشة الناقد: أفلام على اختلافها لم تأتِ جيدة جداً

«معطراً بالنعناع» (ريزون 8)
«معطراً بالنعناع» (ريزون 8)

معطراً بالنعناع ★★☆

رسائل شفهية في عتمة الأماكن

فيلم محمد حمدي الأول مختلف جداً عن أي فيلم مصري (أو عربي) حٌقّق في تاريخ السينما العربية. الاختلاف بحد ذاته لا يمنح الفيلم درجة التقييم. من الممكن أن يكون مختلفاً وبديعاً أو مختلفاً ورديئاً وهو أقرب إلى التصنيف الثاني. فيلم داكن في الصورة وفي الذوات البشرية التي تسكنه. يجد المخرج لها مبررات مناسبة. هذا لأن أبطاله يتقدمهم دكتور محبط (علاء الدين حمادة)، يعيشون حالات من الكآبة المطلقة تزداد عبثاً مع تناولهم الحشيشة طوال الوقت. أي نحو 90 دقيقة من مدة عرض الفيلم (التي تبلغ 113 دقيقة). وعوض استمتاعهم بهذه «السلطنة» تبقى أدمغتهم واعية وقادرة على الحديث في مسائل وجودية وسياسية (على الخفيف) مع قليل من الشّعر وكثير من الذكريات التي تتشابك بحيث لا تتضح لها زاوية فعلية تنطلق منها أو تعود إليها.

في دقائقه الـ10 الأولى يؤسّس أسلوب عمله من حالات شخصية وتصوير (قام به بنفسه) وإيقاع. هذا الإيقاع خافت باستمرار والمُشاهد عليه أن يفتح أذنيه جيداً ليتمكّن من التقاط الكلمات المتبادلة. هذا لأن الإيقاع الخافت يشمل كذلك الأداء والتلقين وتشخيص الحالات. الدكتور وأصحابه (من ثلاثة لأربعة حسب المشاهد) يركضون في الظلمة مثل جرذان هاربة من مطاردين (لا نعرفهم) ويأوون دوماً إلى خرابات تضمّهم بعتمتها أو إلى شِقق هي بدورها تبدو كخرابات كلّ شيء فيها قديم وباهت. حتى في ساعات النهار فإن النور مبتسر تأكيداً أو ترميزاً للحالة التي يمر بها أشخاص الفيلم.

الصورة، على الرغم من سوداويتها، هي أهم وأفضل من الموضوع المطروح. صحيح أن رجال الفيلم يتعاطون، لجانب الحشيش، مسائل تهمّهم، لكن ليس كل ما يهم شخصية ما في فيلم ما يهم المشاهدين. بالضرورة. لذا تنحصر الحسنات في الصورة. بينما تمرّ المَشاهد بإيقاع خافت ورتيب، مما يحدّ كثيراً من قدرة الفيلم على التواصل مع مشاهديه.

* عروض حالياً في مهرجان مراكش

Maria ★★★

العمق العاطفي لماريا كالاس

«ماريا» هو ثالث فيلم بيوغرافي ينجزه المخرج التشيلي بابلو لاراين (حسب اللفظ الأسباني) بعد (Jackie) «جاكي»، 2016 و(Spencer) «سبنسر»2021. مثل سابقيه هو فيلم عن امرأة ومثلهما هو عن شخصية حقيقية هي مغنية الأوبرا ماريا كالاس (هناك حفنة أفلام عنها أهمها «Maria By Callas» لتوم وولف، 2017) إلى جانب فيلم إيطالي آخر في التحضير بعنوان «Maria‪/‬Callas» لروبرت دورنهلم.

«ماريا» (ذِ أبارتمنت)

معالجة لاراين تختلف كونها متّصلة بالكيفية التي يحاول فيها تقديم رؤيته لشخصياته فهو يسعى دائماً إلى التقاط العمق العاطفي أكثر مما يهتم لسرد السيرة حكائياً. على ذلك، «ماريا» كما يقدّمه هنا يبقى على السطح أكثر من الدخول في عمق شخصيّته. ما يشغله في سرد الأيام الأخيرة من حياة بطلته هو التصاميم الفنية والديكوراتية وتحريك الكاميرا عبرها وهذا جيد لولا إنه يأتي على حساب تحديدٍ أفضل لمن هي ماريا كالاس.

يسرد الفيلم أحداثها الأخيرة وبعض مواقفها الشخصية والفنية لكن الحكاية يمكن لها أن تكون عن أي شخصية لمغنية وإن كانت خيالية. بطبيعة الحال، وكما بات مألوفاً، يعمد المخرج إلى مشاهد استرجاعية (الفلاشباك) بالأبيض والأسود لكن أهم عنصر في هذه الدراما هي محاولة ماريا التغلّب على ذكرياتها مع أرسطو أوناسيس (الذي تركها للزواج من جاكي كينيدي، شخصية فيلم لوراين السابق).

* عروض حالياً في مهرجان البحر الأحمر

TROIS AMIES ★⭐︎

حوارات ومشاهد تُراوح مكانها

لا يبتعد المخرج موريه في فيلمه «ثلاث صديقات» عن التيمة التي اختارها سابقاً لمعظم ما حقّقه من أفلام مثل «تغيير عنوان» (Changement d'adresse) 2007، و«هل نُقبّل» (Shall We Kiss) 2007، و«الأشياء التي نقولها، الأشياء التي نفعلها» (Les Choses qu'on dit, les Choses qu'on fait) 2020. التيمة المذكورة لا تخرج عن نطاق تداول وتناول العلاقات المتأرجحة ما بين الحب والجنس، أو الحب من دون جنس أو العكس.

«ثلاث صديقات» (موبي دَك فيلمز)

القصّة في عنوانها: 3 صديقات جوان (إنديا هير)، ريبيكا (سارا فورستييه) وأليس (كامل كوتان) والعديد من الحكايات السابقة (تشعر جوان إنها مسؤولة عن موت حبيبها السابق إريك لأنها تركته)، وفي الحكايات الحاضرة يتداولن التجارب التي مررن بها مع آخرين. لا الأحداث مهمّة ولا الحوار (يمتد بلا نهاية) يعني كثيراً. كل ذلك يَرِد مثل قراءة صفحة واحدة من مجلة إشاعات ومن دون لمسات فنية تذكر. بدورها كل لقطة تشبه، تأسيساً وإدارة. ما يسبقها وما يليها.

* عروض: حالياً في صالات فرنسية

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز