محمد أركون..عبقرية الفكر وتجليات النزعة الإنسانية في الإسلام

كرّس حياته لإبراز الوجه المضيء له وشخّص مشكلته الراهنة

الفيلسوف الراحل محمد أركون و غلاف الإنسانية والإسلام
الفيلسوف الراحل محمد أركون و غلاف الإنسانية والإسلام
TT

محمد أركون..عبقرية الفكر وتجليات النزعة الإنسانية في الإسلام

الفيلسوف الراحل محمد أركون و غلاف الإنسانية والإسلام
الفيلسوف الراحل محمد أركون و غلاف الإنسانية والإسلام

ربما لم يخدم شخص آخر في العالم، التراث الإسلامي مثلما خدمه محمد أركون. ولكن ليس عن طريق التكرار والاجترار، ليس عن طريق التبخير والتبجيل، وإنما عن طريق التجديد والبحث العلمي الرصين. لقد كرس جل حياته لإبراز الوجه الآخر للإسلام، المشرق المضيء. هذا الوجه المطموس حاليا، للأسف الشديد، من قبل حركات التطرف والظلام. وقد كان أركون بارعا في البحث العلمي لا يشق له غبار، من حيث السيطرة على المنهج والمصطلح. يعرف ذلك، كل من يفهم في شؤون الفكر وشجونه.
بالإضافة إلى روحانية الإسلام العظيمة وقيمه الأخلاقية الكبرى، كان أركون يركز على قيمة أساسية ورثناها عن أسلافنا العظام، في العصر الذهبي المجيد، هي قيمة العقلانية والنزعة الإنسانية. وقد بلغت ذروتها لدى الفلاسفة والأدباء والشعراء الكبار، من أمثال الفارابي وابن سينا والجاحظ والتوحيدي ومسكويه والمتنبي والمعري، وغيرهم. فهؤلاء اشتهروا بالانفتاح الفكري على العالم، وصهر الثقافات والحضارات في بوتقة حضارة واحدة ولغة واحدة، هي الحضارة العربية الإسلامية. من هنا ابتدأ محمد أركون حياته العلمية وبها اختتم. لكنها ليست حضارة عنصرية شوفينية، وإنما إنسانية بالمعنى الواسع للكلمة، أي ساهمت فيها الأقوام والشعوب كافة. هل كان سيبويه مؤسس النحو العربي عربيا؟ والفارابي، والغزالي، وابن سينا، ومسكويه، والتوحيدي، والبيروني، والخوارزمي، وحتى البخاري ومسلم، وعشرات غيرهم؟ كلهم كانوا من أصول أجنبية، لكنهم نبغوا بالعربية، وبها كتبوا وتنفسوا. حتى ابن ميمون، الفيلسوف اليهودي الشهير، كتب رائعته: «دلالة الحائرين»، باللغة العربية لا العبرية. وفيها صالح بين اليهودية والفلسفة، مثلما فعل ابن رشد عندما دبج كتابه الشهير «فصل المقال». وبالتالي، فقد كانت حضارتنا الكلاسيكية، حضارة إنسانية بالمعنى الكوسموبوليتي للكلمة. ولهذا السبب، دعا أركون كتابه الكبير الأول: «النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي.. مسكويه فيلسوفا ومؤرخا». وعن ذلك الغليان الثقافي الديني - الأدبي - الفلسفي، نتجت كنوز التراث العربي التي ما نزال نفتخر بها حاليا.
كانت هناك فكرة راسخة، تقول بأن النزعة الإنسانية (هيومانيزم باللغات الأجنبية)، هي نتاج عصر النهضة الأوروبي ولا علاقة لثقافات الإسلام بها من قريب أو بعيد. إنها خاصة بأوروبا وإيطاليا فقط، إبان القرن السادس عشر. وبالفعل من ينظر إلى الفظائع التي ترتكبها الحركات الأصولية باسم الإسلام، منذ ظهور القاعدة وسواها، يتوهم بأن هذا الدين أبعد ما يكون عن الشفقة والرحمة. فكيف يمكن أن تكون له علاقة بالنزعة الإنسانية أو الحضارية؟ بل لنعد إلى الوراء قليلا، من ينظر إلى المشهد العربي بعد تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، يجد أن تسامح العصر الذهبي وانفتاحه العبقري المذهل، لم يعد لهما من وجود. لقد قضى عليه التزمت والانغلاق والفهم الخاطئ لرسالة الإسلام السمحة. ونضيف إلى ذلك، ظلاميات الخميني وجماعته. ومع ذلك، فإن هذا الشاب الأمازيغي المسلم، النازل من قمم الجبال، جبال الناس الأحرار، والوافد على باريس، عاصمة الأنوار، لكي ينهل العلم، فاجأ الجميع، إذ كرس أطروحته المركزية للنزعة الإنسانية العربية! كان ذلك إبان الستينات من القرن المنصرم. ثم نشرت كأطروحة لدكتوراه الدولة عام 1970. وقد كان لكاتب هذه السطور، شرف ترجمتها. وفي عام 2006. أي في أواخر حياته العلمية تقريبا، عاد أركون، مرة أخرى، إلى الموضوع نفسه، ونشر كتابا آخر بعنوان «النزعة الإنسانية والإسلام». كان ذلك هاجسه وشغله الشاغل. كان يريد أن يثبت أن تراث الإسلام العظيم أكبر من أن يختزل إلى حركات التطرف والجهل. وكان يعتقد بإمكانية المصالحة بين الإسلام والحداثة، بشرط أن نفهم هذا التراث الضخم على حقيقته. فهناك فرق بين مفهومه في العصر الذهبي ومفهومه في عصر الانحطاط. ومن الواضح أن مفهوم عصر الانحطاط للإسلام، يتعارض مع النزعة الإنسانية ومع جوهر الحضارة العالمية. وللأسف، فإن هذا المفهوم المتزمت للإسلام، ما يزال سائدا حتى اليوم، وطاغيا على الشارع العربي، بسبب الجهل والأمية والفقر وعطالات القرون. من هنا ضرورة تجديد فهم الإسلام عن طريق تفكيك الانغلاقات والفتاوى اللاهوتية القروسطية المكفرة للعالم أجمع. إذ من دون ذلك، لا يمكن لهذا الدين أن يستعيد مكانته الكبرى على الساحة العالمية. من دون ذلك، لا يمكن أن نستعيد عصرنا الذهبي واحترام الناس لنا. وقد أثبتت الأيام صحة نبوءة أركون وصحة خطه التجديدي العريض. فالمنهج التفكيكي التحريري الذي اتبعه، أثبت فعاليته وضرورته القصوى في مواجهة العصر الرهيب الذي نعيشه، عصر «داعش». بل ما قبل «داعش» بكثير أيضا. عندما أغلق باب الاجتهاد كليا، وخنقت حرية البحث والفكر في عالم الإسلام، بعد استيلاء السلاجقة على الحكم. وبعد إطفاء أنوار الفلسفة في المشرق، راحت تنطفئ في الأندلس والغرب الإسلامي كله، بعد موت ابن رشد. وكان ذلك بسبب تكفير الفقهاء لها أيضا. ومعلوم أنهم أهانوه في أواخر حياته، وحرقوا كتبه وكتب الفلسفة بشكل عام. وهكذا عم الظلام العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. ولم تضف السلطنة العثمانية التي هيمنت، بعدئذ، طيلة أربعمائة سنة، شيئا جديدا إلى حضارة العصر الذهبي. ولم تترجم شيئا يذكر. ومع ذلك، يريدون إحياءها مجددا ولا نعرف لماذا، وهي التي كانت قوة عسكرية فقط، لا بؤرة إشعاعية حضارية.
لا ريب في أن الفلسفة ظلت مزدهرة في العالم الإيراني، ولكنها كانت حكمة إشراقية وشطحات خيالية، لا فلسفة عقلانية برهانية منطقية، على طريقة الكبار، من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة.. إلخ. إنها تدخل في دائرة التصوف الروحاني لا الفكر العقلاني. وبالتالي فلا ينبغي أن تخدعنا كلمة فلسفة هنا. وأما ابن خلدون فعلى الرغم من أهميته في مجال علم الاجتماع والعمران، وحدسه الصائب والمدهش، فإنه كان معاديا للفلسفة صراحة. أنظر في المقدمة الشهيرة فصلا بعنوان «في أبطال الفلسفة وفساد منتحلها».
كل ما يمكن قوله هنا، هو أن النزعة الإنسانية، وجدت في العصر الذهبي العباسي - البويهي - الأندلسي: عصر المأمون، وعضد الدولة، وابن العميد، والصاحب ابن عباد، وعبد الرحمن الثالث، وأبو يعقوب المنصور وغيرهم. وهو أيضا، عصر بيت الحكمة، والجاحظ، ومسكويه، والتوحيدي، والمعتزلة، والفلاسفة، وكبار الأدباء والشعراء. وهو عصر قرطبة عاصمة الحضارة الأوروبية آنذاك، بمكتبتها الضخمة التي تجاوزت الأربعمائة ألف كتاب، لا باريس ولا لندن. وقد تجسدت هذه النزعة الإنسانية في «الأدب» بالمعنى الكلاسيكي الواسع للكلمة، لا بالمعنى الضيق الاختصاصي السائد حاليا، والمحصور بالطابع الجمالي الفني للشعر والنثر فقط. فقد كان يعني مجمل المعرفة المتوافرة آنذاك. ولكن للأسف، فإن هذه النزعة الإنسانية العقلانية الحضارية، ضمرت وماتت، بعد أن دخلنا في عصور الانحطاط الطويلة لستة قرون متواصلة: أي حتى عصر النهضة في القرن التاسع عشر، عصر محمد علي وما تلاه، حتى عام 1950: تاريخ إغلاق العصر الليبرالي العربي. بعدئذ ابتدأ العصر الآيديولوجي العربي: أي العصر الناصري - البعثي - القومي - الماركسي، الذي استمر حتى عام 1970. لا ريب في أنه كان مستنيرا عموما وتقدميا، ولكن قضت عليه الأدلجة المفرطة والحزب الواحد. لذلك طرحنا الشعار التالي: ضرورة الانتقال من المرحلة الآيديولوجية إلى المرحلة الإبستمولوجية. ولكن بدلا من ذلك ماذا حصل؟ لقد حل محله العصر الأصولي العربي، الذي ما يزال متواصلا حتى اللحظة، والذي أتحفنا أخيرا بـ«القاعدة» و«داعش» وسواهما. هذا هو التحقيب الإبستمولوجي لتاريخ الفكر العربي، مرسوما في خطوطه العريضة. لقد خاض أركون معارك فكرية ضارية لكي يقنع أساطين الاستشراق بصحة أطروحته، عن وجود نزعة إنسانية وفكرية عقلانية عند العرب والمسلمين، في القرنين الثالث والرابع للهجرة مشرقيا، وحتى القرن السادس الهجري أندلسيا ومغاربيا: أي حتى موت ابن رشد وتكفير الفلسفة والفلاسفة. انظر سجالاته مع المستشرق الشهير غوستاف فون غرونباوم. لقد أراد أركون أن يثبت أن التنوير العربي الإسلامي سبق التنوير الأوروبي بستة قرون على الأقل.
كل مشاريع نقد التراث أو تجديد التراث انحسرت عن الساحة، وبقي مشروع أركون وحده صامدا لسبب بسيط، هو أنه عرف كيف يشخص مشكلة العالم الإسلامي في العمق، ويضيئها بشكل غير مسبوق. وكل ذلك من خلال مصطلحين أساسيين: نقد العقل الإسلامي التقليدي، وتفكيك السياجات الدوغمائية الانغلاقية المتحجرة، التي ما تزال تسجننا داخل عقلية القرون الوسطى. لقد جاء هذا المشروع الكبير في اللحظة المناسبة، لكي يلبي تعطش العالم العربي والإسلامي كله إلى التحرر والانعتاق. وبالتالي فلا يخدعنكم المشهد المظلم الحالي. سوف يليه حتما عصر الأنوار المغربية والمشرقية. إنه آت لا ريب فيه!



غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.