المأزق الوجودي في تجربة القاص السعودي الراحل سباعي عثمان

كانت شخصيته مؤثرة في مرحلة الثمانينات وساهمت في التأسيس للكتابة التجريبية

د. لمياء باعشن و القاص السعودي الراحل سباعي عثمان
د. لمياء باعشن و القاص السعودي الراحل سباعي عثمان
TT

المأزق الوجودي في تجربة القاص السعودي الراحل سباعي عثمان

د. لمياء باعشن و القاص السعودي الراحل سباعي عثمان
د. لمياء باعشن و القاص السعودي الراحل سباعي عثمان

يأتي اختياري لتجربة سباعي عثمان القصصية في ضوء عدة محاور فرعية للموضوع الرئيسي للملتقى، فقد كان شخصية إبداعية مؤثرة في الحركة الأدبية في مرحلة الثمانينات ومساهمة في التأسيس للكتابات التجريبية في مجال القصة القصيرة وداعمة وموجهة من خلال مؤسسة إعلامية للكتاب ونتاجهم الابتكاري، ومن يتابع المنجز القصصي لسباعي عثمان سيهوله مدى التواصل والتعالق، ليس فقط مع المعطيات الثقافية للعالم العربي، ولكن مع تلك السائدة في الغرب آنذاك.
بين يدي شهادات متعددة من كتاب وأدباء وقاصين تدين لسباعي عثمان بالفضل ولا يختلف بعضها عن بعض في إشادتها بجهوده في تحفيزهم ودفعهم للكتابة كمحرر لصفحة «دنيا الأدب» بجريدة «المدينة»، وقد سجل الغذامي أن سباعي عثمان كان رمزًا ثقافيًا له دور في «دفع الوعي الحداثي»، لكنه أيضًا كان «أستاذًا وموجهًا» (كما يقول محمد علي قدس)، «وقد انطلق عشرات أو حتى مئات الكتاب في السعودية على يديه»، وكان قد تبنى جيلاً من المبدعين وأدار دفة طموحاتهم». يقول عبد الله باقازي: «كانت تلك الصفحة الأدبية في جريدة (المدينة) لنا ميدانا للتنافس، بل كانت مدرسة تخرج منها كثير من كتاب القصة».
كان سباعي عثمان أديبا متفردا تمكن من تحديث تقنيات القصة القصيرة، وهو مدرك لأبعاد التغيير الذي يجريه، وذلك لخبرته في التعامل مع أنماط سردية عربية وعالمية. ولأنه كان غزير الثقافة منفتحا على كل التيارات فقد قدم ثلاث مجموعات قصصية تمتاز بالنضج الفني، وتم له ذلك في خضم الجدل الثقافي الإعلامي إبان فترة الصراع الثقافي في مرحلة الثمانينات بين التيار المحافظ والتيار الحداثي. لكن إبحار سباعي في ذلك الخضم لم يكن عسيرًا، فعلى الرغم من خصائص الحداثة الواضحة على منتجه الأدبي ومن تأثيره الملموس على أعداد كبيرة من كتاب القصة القصيرة، فإن اسمه لم يذكر سوى مرة واحدة في كتاب الحداثة في ميزان الإسلام وبشكل عابر في حديث عوض القرني عن الملاحق الثقافية. يقول القرني: «وأخيرًا إليك بعض الأمثلة مما يسمونه أدبًا وأسميه جنونًا:»، وكان يشير إلى مواد تنشر بعرض الصفحات في الجرائد اليومية. كان عوض مستفزا مما سماه «السيطرة على الملاحق الأدبية والثقافية في أغلب الصحف وتوجيهها لخدمة فكرهم.
ما الذي فعله سباعي عثمان حين حول ملحقه الأدبي إلى ورشة عمل مشتركة لإنتاج الجنون؟ القصة القصيرة هي أكثر الفنون الأدبية حرية من أي قيود كتابية، وكونها فنا حديثا حتى في الغرب فهي تسمح بالتمرد المستمر على آليات القص السابقة، وكونها فنا يعتمد الإيحاء في المقام الأول فهي تكتفي بالإشارة لمضامينها دون إفصاح مباشر. وجد عوض القرني وغيره من القراء أنهم أمام نقلة جديدة في كتابة القصة من ناحية المعالجة المدهشة والقالب الفني والصياغة المبتكرة التي وضعت معارفهم وقدراتهم القرائية على حد التحدي، وقد كانت جنونًا لأنها كانت عصية على الأفهام وعلى قارئها مسؤولية إعادة نظمها واستشفاف الرؤى الفكرية التي تغذيها. حمل سباعي عثمان نصوصه ومضامينها المتخفية في التقنيات القصصية الجديدة إلى آفاق الحداثة والتجريب، فكانت جنونًا بحتًا، وكان يعرف طبيعة وقعها على آذان قراء غير مهيئين لتلقيها، فظهرت كلمة «جنون» على ألسنة الشخصيات داخل قصصه في ردود أفعالها على أفكار وتصرفات البطل. مفردات وصيغ كثيرة تتردد في مواضع مختلفة. تقول نوار: أنت مجنون. أنت غريب حقا. يقول جندي المرور: أنت مجنون. تقول حبيبتي: أنت تحيرني، أنت تفكر بصورة معقدة. يقول الشرطي: أنت غريب الأطوار حقًا. يقول صاحبي: أنت تفكر بصورة مشبوهة. أنت غير طبيعي...
كان سباعي مفتونًا بإمكانات التقنيات السردية المتاحة فاغترف منها واستفاض: حذف المقدمة وفتح النهاية، قطّع الزمن في تقدمه وكسر تواليه، جذّر الحدث وبعثر تسلسله المنطقي، شتت السياق النصي وفتت الحبكة، همّش العناصر البنائية، وشطر صوت الراوي بين مخاطب ومتحدث وغائب، غاص في أعماق الشعور واللاشعور وحلق في التأملات والانقطاعات، اعتمد التكرار والإيقاع السريع والجمل المتلاحقة والتكثيف اللغوي والضغط اللحظي والفلاش باك والمونتاج والغموض، وأفرط في استغلال النقاط والفواصل والأقواس وعلامات التعجب وعلامات الاستفهام.
كانت التقنيات واجهة للتحول الجديد في كتابة القصة، أما المغزى والمعنى فقد طُمسا بحرص جعلهما مستغلقيْن حتى على القارئ المتذوق. يقول الدكتور محمد عناني إن «قصص سباعي عثمان لا تسلم نفسها في يُسر». ولا أعرف إن كان النقاد قد أشفقوا على سباعي من توضيح ما كانت تموج به قصصه من أفكار عصرية، أم أنها لم تسلم نفسها لقراءتهم كذلك. عندما كان النقاد والصحافيون يتساءلون عن انعكاس ماضيه وعائلته في بورسودان على فضاء قصصه، ويتعجبون من غياب الأرضية السعودية من نصوصه، أتخيل أنه كان يقهقه في داخله: أين أنتم مني وأين أنا منكم! أو أنه حين يختلي بنفسه كان يذرف دمعة على عدم وصول رسالته للناس: «إنني أكتب لأن هناك إلحاحًا من داخلي على الكتابة، ولأنني أريد أن أقول للناس شيئًا». كان الإبداع همه، والصحافة مهنته: «لقد عطلتني الصحافة كثيرًا».
انعكاس الواقع داخل النص الخيالي كان افتراضًا تقليديًا بحتًا، وأعمال سباعي لم تكن تقليدية ولا واقعية ولا انطباعية، كان التيار الذي تسري فيه قصصه تيارًا حداثيًا تجريديًا وجوديًا. قد جرّد سباعي فضاءات قصصه من الأزمنة والأمكنة المطابقة للواقع وخفّض تفاصيلهما إلى كونهما مكانا وزمانا فقط.
كذلك فقد جرّد أبطاله من كل علامات تفصل بينهم حتى إننا نكاد نجزم أن أبطال قصص المجموعات الثلاث هم شخص واحد لا يتغير. السمات الشخصية لهذا البطل متكررة، فجميعهم لا اسم لهم ولا ملامح، لا أهل لهم ولا أقارب (إلا ما ندر)، لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون. كلهم يبدون في مظهرهم الخارجي في سكون إلا أنهم من الداخل يعانون من التوتر، ومن القلق، يحسون باختناق وبضيق شديد، يصيبهم الملل وتعصرهم اللوعة. جميعهم يسرحون بعيون زائغة إلى البعيد ويحدقون في الفراغ الهائل، يوغلون في التأمل، ويفقدون القدرة على التركيز وينسون أين تركوا أشياءهم. جميعهم يداهمهم الصداع الحاد الذي يكاد يفجر رؤوسهم، فيدخنون السجائر ويسحقون أعقابها ويسعلون بإعياء ويبصقون على الأرض بتقزز، وهم لا يهتمون بشيء والأمور عندهم كلها سيان. كل الأشياء عندهم قد فقدت طعمها، لذا فهم يلعنون كل شيء.
يظهر البطل نفسه على امتداد النصوص القصصية وكأنه الرابط المنظم لتشاكل موضوعاتها، وهو يعمل في كل النصوص كقوة محورية تحمل ثقل الاستغراق في علميات ذهنية مكثفة، تصطرع وتتناقض، حتى تتشظى متخاصمة وتنقسم على ذاتها. هذا الشخص الواحد / المنقسم يبقى عند سباعي عثمان العنصر الثابت بين مجموعة من المتغيرات تطرحها كل قصة، هو زوج أو عاشق أو صديق أو موظف في مكتب أو في سيارة أو في طائرة أو قطار أو في سوق أو في سجن: الأزمنة والأمكنة لا تهم... والاتجاهات كذلك لا تهم. كلها تذوب في عمق اللحظة... فاللحظة هي كل شيء.
لتكتمل التجربة الحداثية عند سباعي عثمان يتصدر المأزق الوجودي منظومة التجديد القصصي، والتحديات الفكرية التي تواجه البطل في كل قصة لا تخرج عن أطر الفكر الوجودي ومسألة الحرية والإرادة، فالبدائل التي تقدمها الحياة له هي التي تحكم عواقب اختياراته حتى لو أوهم نفسه بروعة الحرية المطلقة، لكنه يعود ليدرك أن الحرية اختيار قسري، وأن الاختيار مسؤولية عاقبتها غير مأمونة. كل أبطال سباعي عثمان يقفون عاجزين أمام حسم قراراتهم، ويحجمون عن تحمل مسؤولية اتخاذ أي قرار، ويغضبون حين يدركون أن عدم اتخاذ قرار، هو قرار لا مفر منه، بينما هم غير قادرين على تجاوز عدميتهم في هذه المواقف العبثية: «نحن براغ صدئة في عجلة الحياة العملاقة التي تدور، ربما دون أن تحس بوجودنا».
ويتأمل بطل سباعي معاني الاختيار والإرادة وهو يغرق في وسط أفكاره المتزاحمة التي تصطخب في رأسه كالموج: عشرات من الصور المتناقضة تتداخل في بعضها، حقائق كالأوهام وأوهام كالحقائق، فيتأرجح بين الشك واليقين. تتبعثر الأشياء في ذهنه، المفاهيم تميع الآن في ذهنه بلا حدود ولا ضوابط.. ثمة أشياء كثيرة ومتداخلة.. الفروق بينها تذوب وتتساوى كل الأمور أشياء كثيرة تتلاحق الآن دون فواصل واضحة، ذابت فواصل الأشياء.
عند هذه اللحظة من الاستنارة يدرك البطل المتكرر أن هذا التدفق للأفكار المتداعية يتحقق بالدفع الذاتي الذي لا يترك له مجالا للتحكم في سريانها في رأسه: «تتداعى إلى ذهني صور كثيرة أعجز عن ملاحقتها.. أتعب في معالجة عشرات الدوائر الغامضة.. مشاعرنا لا تخضع للمنطق.. نحن لا نملك ذواتنا.. نحن لا نملك مجرى تفكيرنا كما يجب، أشياء تجتاحنا لا نملك لها ردًا.. كذلك خواطرنا، تجبرنا على ممارستها». هذا التدفق العشوائي والعبثي للخواطر التي تنبعث من مصدر ما، هو المسؤول عن بعض الاندفاعات التلقائية المتهورة Impulse التي تقفز إلى رأسه دون مقدمات، وتجعله يرغب في الصراخ، أو أن ينطح الجدار عدة نطحات، أو أن يرمي بكامل جسمه أمام سيارة منطلقة، أو أن يلقي بزوجته من النافذة، أو أن يُقدم على القتل بلا دافع منطقي! هذه الاندفاعات التلقائية محسوبة على اختياراته في حين أنه لم يخطط لها، بل فوجئ بها تتحقق، لكنه يظل يتحمل مسؤوليتها.
في قصة تلو الأخرى يجري سباعي تجربة يبحث من خلالها عن أجوبة مختلفة لأسئلة فلسفية كبرى، عن عنصر غائب يحل أزمة الوجود لكنه لا يأتي، فيخرج من كل وضع خائبًا: «من المحزن دائما ألا تكون هناك نتيجة. ولكن يظل البحث عن حل ما قائما على الدوام. هكذا دائمًا نبدأ، وهكذا ننتهي، ولكن لنبدأ من جديد». مع كل بداية جديدة كان يسقط أكثر في اللامعنى.. واللامعقول واللاجدوى!! تميد به الأشياء.. يا لكل شيء من كل شيء. رغم كل شيء.. يحدث كل شيء.. يموت كل شيء.. ويحيا كل شيء... ما زال.. ما زال كل شيء يأكل كل شيء».
* ورقة عمل ألقيت في ملتقى النص الأدبي الرابع عشر الذي نظمه نادي
جدة الأدبي أخيرا



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.