الاستيطان اليهودي.. توراتي وانتقامي.. ورمز الاحتلال والأبارتايد

550 ألف مستوطن في 240 مستوطنة {تقضم} 3 % من الأرض للسكن و40 % لحمايتها

الاستيطان اليهودي.. توراتي وانتقامي.. ورمز الاحتلال والأبارتايد
TT

الاستيطان اليهودي.. توراتي وانتقامي.. ورمز الاحتلال والأبارتايد

الاستيطان اليهودي.. توراتي وانتقامي.. ورمز الاحتلال والأبارتايد

لم يعد المستوطنون كما كانوا، قلة خائفة في أراضي الضفة الغربية ومحروسة بآلاف الجنود، ومنكمشين على أنفسهم في مستوطناتهم القليلة، التي تعد، كذلك، في مفارقة عجيبة، مصدر دخل للعمال الفلسطينيين. بل باتوا يشكلون اليوم، رأس حربة المشروع الصهيوني، كثيرون وسفاحون وقتلة وانتقاميون، ويتمددون، ويشكلون مجموعات «إرهابية»، ويؤمنون بحقهم في كل الأرض التي، من وجهة نظرهم، يدنسها «الأغيار» (الفلسطينيون) أصحاب الأرض الأصليون.
لم يتركوا جبلا شاهقا إلا اعتلوه، ولا منطقة خضراء إلا أخذوها على طول البلاد وعرضها. يحاصرون المدن ويسكنون في قلب بعضها بالقوة، ويشقون شوارع خاصة، ويشاركون الفلسطينيين في شوارع أخرى، ويكبرون مع الوقت مثل «سرطان» لا يمكن السيطرة عليه، يهدد باقي «الجسم السليم».

لا يعرف كثير من الفلسطينيين معنى أن يحتل المستوطنون بيت جارك القريب. يسكنون مباشرة تحتك أو فوقك، ويستخدمون الشارع نفسه في كل دقيقة، والمتنزه الصغير نفسه، ويرتادون المحلات. فتلك حالة استثنائية يعيشها الفلسطينيون في قلب البلدة القديمة في الخليل. أما الآخرون، فحدود خبرتهم بالمستوطنين، أنهم يعرفون أشكالهم وأسماء مستوطناتهم في الطرقات السريعة، ويختلطون بهم إذا كانوا عمالا. وبعض الذين قدر لهم العيش في قرى قريبة من المستوطنات، يواجهونهم بين الفينة والأخرى في الأراضي الزراعية، ويدفعون أثمانا صعبة لهجماتهم المنظمة.
قدر لؤي المحتسب (48 عاما) أنه ولد في بيت لأبيه من جده، في قلب البلدة القديمة في الخليل، جارا للحرم الإبراهيمي الذي قسمه الإسرائيليون عام 1994. يعني هذا، أنه يعيش بين 500 مستوطن يحتلون المكان، ويحولون حياته مع الآخرين الصامدين هناك، إلى جحيم.
اضطر طاقم «الشرق الأوسط» للمرور عبر حواجز عسكرية وبوابات إلكترونية، يسميها الفلسطينيون «المعاطات» لأنها ضيقة ودائرية، في إشارة إلى ماكينات نتف ريش الدجاج، ومن ثم حواجز أخرى، مرورا من بين عشرات الجنود المتأهبين، ومستوطنين يرمقوننا بحقد عميق، للوصول إلى المحتسب، فبادرناه بسؤال بديهي: كيف يزوره أقرباؤه وأحبابه؟ فرد قائلا: «للضرورة القصوى فقط».
يعتاش المحتسب من دكان صغير أسفل منزله يعسكر أمامه جنود إسرائيليون، ويبيع منه للسياح الذين يأتون لزيارة الحرم. وأثناء جلوسنا عنده، تطفل الجنود مرات في محاولة فهم أسباب الزيارة. لم يحدثونا، لكنهم كانوا مثل من يوصل رسائل بأن وجودنا غير مريح أو مرغوب به.
وفي دلالة على شكل العلاقة هناك، أصر المحتسب على أن نجري جولة في المكان، جولة قصيرة لم نشاهد خلالها إلا مستوطنين حولنا. بادرناه بسؤال ثان مستفز: ولماذا أنت مضطر للعيش هنا؟ فقال: إنه لن يسمح لهم بأخذ بيته مثلما أخذوا بيوت آخرين. وأضاف: «أنا هنا لأني أريد أن أحافظ على بيتي وبيت أبي، هذا حقنا ولن نرحل».
تعرض المحتسب لعشرات الهجمات من المستوطنين الذين ضربوا ابنه مرات عدة، قائلا: إنهم يحاولون «تطفيشنا» من المكان.
يذهب أولاد لؤي إلى مدرستهم القريبة كل يوم، مرورا عبر الحواجز نفسها، ومن بين عشرات المستوطنين الذين يعترضون عادة طريقهم. يقول المحتسب: «قلبي معلق معهم في طريقهم إلى المدرسة صباحا وأثناء عودتهم، إنها مخاطرة كبيرة».
في الأثناء، مر مستوطنون لم يعجبهم وجودنا، لكن وجود الجيش الإسرائيلي على بعد أمتار قليلة، منعهم كما يبدو من الإقدام على أي خطوة.
عقب المحتسب: «يمكن أن يهاجمونا في أي لحظة.. قبل قليل، جاء أحدهم إلى دكاني وقال لي، هذه الثلاجة لي.. شغل زعرنة وفرض عضلات».
وعادة لا تأخذ الشرطة الإسرائيلية بشكاوى السكان الفلسطينيين هناك، لكنهم يدفعون ثمنا باهظا إذا ما اشتكى مستوطن ضدهم.
كان أولاد المستوطنين يلعبون في متنزه قريب، يراقبهم الأطفال العرب عن بعد، ويتجنبون الاحتكاك بهم.
أشار محمد أبو حديد (30 عاما)، إلى الجنود المنتشرين، وإلى الكاميرات المنصوبة في كل زاوية، وإلى مستوطنين في المكان قائلا: «مثل أفلام الرعب». وأضاف: «كلنا هنا مشتبهون ومشاريع شهادة».
وفي شوارع فارغة، ومحلات مغلقة، ومنازل ترتفع عليها الأعلام الإسرائيلية فقط، يمكن لأي مستوطن أن يرتكب أي حماقة من دون رقيب أو حسيب.
مشينا إلى حي «قصبة السوق» وسط البلدة القديمة، فبدا التداخل السكاني مذهلا للغاية. يعتلي اليهود محلات العرب، ولا يفصل شيء بينهم وبين بيوت الفلسطينيين. وقال رائد أبو رميلة، إنهم يعيشون معركة يومية مع المستوطنين الذين يحتلون المكان الذي يسمونه «مغارة المكفيلا»، حيث مقام النبي إبراهيم وأولاده الذين تقدسهم جميع الأديان.
ويوجد في الخليل 500 مستوطن فقط، في مستعمرات «بيت إبراهيم»، و«بيت هداسا»، و«بيت رومانو»، و«تل رميدا»، يحرسهم نحو ألف جندي من لواء «غفعاتي»، يحتلون البلدة القديمة التي طالما كانت توصف بقلب «عاصمة الاقتصاد» ورئتها. وقد هاجر منها معظم أهلها الـ40 ألفا، بينما يتعرض الآخرون الباقون، إلى حرب مستمرة من أجل طردهم من المكان.
لكن أين يعيش الـ550 ألفا الآخرون من المستوطنين؟
أن تخطئ أحد الطرق في الضفة الغربية فقد يكلفك ذلك حياتك. إذ تخصص إسرائيل طرقا للمستوطنين فقط، يمنع على الفلسطينيين السير عبرها، وتوصل إلى 125 مستوطنة إسرائيلية، اعترفت بها وزارة الداخلية الإسرائيلية، كبلدات (مستوطنات)، ناهيك عن قرابة 100 بؤرة استيطانية - وهي مستوطنات أقيمت من دون تصريح إسرائيلي رسمي، ولكن بدعم ومساعدة من الوزارات الحكومية. يضاف إلى ذلك، 12 مستوطنة كبيرة تصنفها إسرائيل كأحياء، ويسري عليها القانون الإسرائيليّ.
المستوطنات الـوحيدة التي أزيلت، كانت 16 أقيمت في قطاع غزة، وثلاث مستوطنات في شمال الضفة الغربية، جرت إزالتها عام 2005، خلال تطبيق «خطة فك الارتباط».
ولا يتلخص خطر المستوطنين في المستوطنات الكثيرة المنتشرة، باحتلال الأرض فقط، وتشكيل خطر على الآخرين، إنها مستوطنات تقضم الأرض وتمنع التوسع، وتقطع أوصال الضفة، وتجعل من إقامة دولة فلسطينية متواصلة أمرا مستحيلا. ولهذا يحمل الرئيس الفلسطيني محمود عباس أينما ذهب، خرائط المستوطنات التي تقسم الضفة إلى 4 كانتونات. وعرض عباس خرائطه تلك على الأميركيين والروس والرباعية والاتحاد الأوروبي، وفي مجلس الأمن والجمعية العامة، وسألهم: «كيف يمكن إقامة دولتنا؟».
والخرائط التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، تظهر أن الاستيطان الإسرائيلي يقضم 3 في المائة من مساحة الضفة الغربية، بينما لم يكن يتجاوز 1.7 في المائة قبل اتفاق أوسلو عام 1993.
خاطب عباس مجلس الأمن، ذات مرة، قائلا: «أريد أن أطلعكم على خارطة للكتل الاستيطانية الثلاث الموجودة في الضفة الغربية، إحداها هي (آريئيل) في الشمال، والثانية (معالي أدوميم) في القدس، والثالثة (كفار عصيون) في الخليل. وأول ما يمكن أن يتبادر للذهن أن هذه الكتل لن تسمح بدولة فلسطينية مستقلة ومتواصلة وقابلة للحياة، لأن هذه الكتل ستقسم الضفة الغربية إلى أربعة كانتونات على الأقل».
وهذا التقسيم الذي يتحدث عنه عباس ليس خطرا مستقبليا، بل هو واقع مرير.
ويقول الإسرائيليون إنهم لن ينسحبوا من الكتل الكبيرة، التي أشار إليها عباس، في أي مرحلة، ولا حتى بعد اتفاق سلام، ويعرضون تبادلا للأراضي، من منطلق مستوطناتنا الكبيرة في قلب الضفة مقابل صحراء في النقب، وليس الأمر بالقيمة ولا المثل.
وبطبيعة الحال، الوصول إلى هذه المستوطنات يحتاج إلى أن يشق الإسرائيليون في قلب الضفة الغربية شوارع خاصة بهم يحظر على الفلسطينيين استخدامها، ويبنون أبراج مراقبة ويسيرون عشرات الدوريات العسكرية لحماية الغرباء فيها. وتعرض السلطات الإسرائيلية عادة، تخفيضات على قيمة الشقق، وإعفاءات ضريبية، وتسهيلا في الدفع، من أجل إقناع يهود تل أبيب بالذهاب إلى مستوطنات، بعضها راق وغالي الثمن، وبعضها بعيد ويكاد يكون مجانيا. ومثل شققهم، يتنوع المستوطنون، بعضهم يقبل بواقع أنه محتل للغير وحسب، وبعضهم يخطط لما كان قبل فترة غير مصدق: «الخلافة اليهودية».

* جماعات إرهابية
يشن مستوطنون هجمات على الأقصى وبيوت الفلسطينيين، ويخطفون ويضربون ويحرقون أصحاب الأرض، من دون أن تستطيع الحكومة الإسرائيلية وقفهم أو أنها لا تريد أن تفعل. وقد شكل المستوطنون في الضفة أكثر من جماعة «إرهابية» من أجل الانتقام من الفلسطينيين، أبرزها «الثورة» أو «تمرد»، وهي أحدث الجماعات اليهودية على الإطلاق، وهدفها لا يقتصر على الانتقام من الفلسطينيين، إنما يطمح أفرادها إلى إقامة «خلافة يهودية» بعد تدمير الدولة العبرية. وهناك «فتيان التلال» الذين نفذوا هجمات ضد فلسطينيين، ومنهم انطلقت نواة جماعات «تدفيع الثمن» التي لها دوافع كثيرة، انتقامية ودينية.
تقول أستاذة علم الجريمة في جامعة آريئيل الاستيطانية، في الضفة الغربية، مالي شخوري بيتون، إن «الكثير منهم تخلف عن الدراسة، وجعلوا من الآيديولوجيا المتطرفة والقيم الدينية المفترضة، هدفا في حياتهم معتقدين أنهم ينفذونها. هذا التطرف، ذهب بهم بعيدا إلى حد إحراق الفلسطينيين أحياء.
ورصدت «الشرق الأوسط» في تقرير سابق: «ليلة الرعب» التي خلقها هؤلاء في قرية دوما الفلسطينية، بعدما أحرق مستوطنون سعد الدوابشة وزوجته مع ابنيه. في حينها، روى الشاب إبراهيم دوابشة، كيف كان المستوطنون ينظرون إلى الجثث المحترقة ويقلبونها. فيما لم يستغرب سائد دوابشة التصرف وقال إن المستوطنين الذين يحيطون بالقرية «كلهم وحوش».
لم يترك المجرمون هناك سوى شعار على الحائط يشي بالكثير: «يحيا المسيح المخلص»، و«انتقام».
وقال البروفسور والمحلل السياسي (سفير فلسطين الحالي في المملكة المتحدة)، مانويل حساسيان، في دراسة عن «أسطورة الاستيطان»، إن الحركة الصهيونية تجسد العقيدة التوراتية في فلسطين في طرحها للاستيطان، حيث حولت ممارساتها العملية لاستعمارها الاستيطاني في فلسطين إلى مفهوم توراتي، حول عودة الشعب إلى أرض الميعاد. ويرى حساسيان أن البرامج الاستيطانية الصهيونية، جاءت لإقامة المستوطنات اليهودية على الأراضي الفلسطينية تحت تبريرات دينية وتاريخية، مفادها أن هناك حقوقًا تاريخية ودينية يهودية على أرض فلسطين، وهذه الحقوق هي التي وعد بها الرب الشعب اليهودي. وقد تطور هذا المفهوم، فيما بعد، إلى جعل إقامة المستوطنات أداة لتعزيز أمن دولة إسرائيل، بعد قيامها عام 1948. ولتأكيد ذلك، يقول عضو الكنيست الإسرائيلي السابق، يشعياهو بن فورات، في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، إن الحقيقة هي لا صهيونية من دون استيطان، ولا دولة يهودية من دون إخلاء العرب ومصادرة أراض وتسييجها. ويتابع: «يتضح من كل ما سبق أن إقامة المستوطنات على الأرض الفلسطينية، تمثل حجر الزاوية في الآيديولوجيا الصهيونية، وذلك للأهمية العظمى التي ينطوي عليها الاستيطان. وتكمن هذه الأهمية في جوانب ديموغرافية وأمنية وسياسية واقتصادية ومائية وطائفية عدة». إنه إذن استثمار استيطاني كذلك.
وفي الأغوار المنخفضة على المنطقة الحدودية تتكشف الأسباب الاقتصادية.

* الأغوار ومثلت المياه
وفيما يقول الإسرائيليون الذين يبنون في منطقة الأغوار 36 مستوطنة، إن وجودهم يأتي لأسباب أمنية، يفند فتحي خضيرات، منسق اللجان الشعبية لمناهضة الاستيطان في الأغوار، ومسؤول حملة «أنقذوا الأغوار»، لـ«الشرق الأوسط»، هذا، ويقول إن الاهتمام الإسرائيلي بمنطقة الأغوار، يوازيه اهتمام فلسطيني للأسباب نفسها، موضحا: «إنها تشكل ثلث مساحة الضفة الغربية، وهي أحد أقطاب مثلث الماء الفلسطيني، وتشكل نحو 47 في المائة من مصادر المياه الجوفية الفلسطينية. وهي المعبر الوحيد للفلسطينيين نحو العالم الخارجي. وهي عصب الاقتصاد الفلسطيني المستقبلي الذي يتمثل في الزراعة. وهي المكان الذي يمكن فيه توسيع القدس الشرقية، وهي المكان الذي يمكن فيه أيضا استيعاب اللاجئين حال عودتهم».
أما الرئيس عباس، فيسميه «الاستثمار الاستيطاني»، مؤكدا مرارا، أن أرباح إسرائيل من الاستيطان في الأغوار وحدها، سنويا، بلغت 620 مليون دولار. وقال كبير المفاوضين الفلسطينيين، صائب عريقات، للوسطاء الأميركيين والأوروبيين، بسخرية ذات مرة: «طبعا طبعا، لماذا لا يبقون هناك 400 سنة، إذا كانت أرباح كل سنة 650 مليون دولار».
ولا يبدو أن في أفق الفلسطينيين أملا في الشفاء من هذا السرطان، الذي يتضح أنه يرتد إلى إسرائيل نفسها، في تحقيق لنبوءة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إسحق رابين، الذي اغتاله متطرفون بعد توقيعه معاهدة سلام مع الفلسطينيين، وكان يحذر، سرا، من تحويل دولة إسرائيل إلى نظام فصل عنصري ودولة أبارتايد. وقد ظهر رابين أخيرا، في تسجيل سري ونادر، يصف المستوطنين اليهود بأنهم «أشباه السرطان»، محذرا من أن إسرائيل تخاطر بأن تتحول إلى دولة «أبارتايد»، في حال ضمت أو استوعبت المواطنين الفلسطينيين العرب في الضفة الغربية إليها.
وفي الفيلم الوثائقي «رابين.. بكلماته»، الذي عرض في الذكرى العشرين لاغتيال رابين بنيران مستوطن يهودي، يُبدي رابين تفهما لمدى خطورة الحركة الاستيطانية اليهودية في الضفة الغربية، وكونها ستشكل عائقا مستقبليا أمام السلام. وقد قال في تصريحات «ليست للنشر»: «المستوطنون أشبه بالسرطان في نسيج إسرائيل المجتمعي الديمقراطي، أنا قلت ذلك، وأطلب عدم استخدام هذه المقولة. لن أقولها علنا، فلست بمجنون سياسي لأقولها».
واليوم يتلمس الإسرائيليون «التشدد اليهودي» وهو يتغلغل يوميا بينهم. هناك من يرسل دليلا روحانيا إلى المدارس. وهناك من يعظ كل جندي إسرائيلي من خلال الحاخامية العسكرية. هناك من يبصق على فتيات يلبسن قمصانا تظهر اليدين فقط. هناك من يعتدي على رجال يركضون من دون قمصان علوية. هناك من يستهدف سيارات تتحرك يوم السبت، ويغلق المحال بالقوة. وهناك من يرفض أن يتلقى العلوم والرياضيات، ويصر على دراسة التوراة فقط. وهناك من يقتحم الأقصى يوميا من أجل بناء الهيكل. وهناك من يعمل من أجل تقريب «الخلافة اليهودية».

* وجهة نظر فلسطينية
تشكّل المستوطنات الإسرائيلية المقامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، علاوة على افتقارها إلى الصفة القانونية، أعظم تهديدٍ يكتنف حلّ الدولتين، وبالتالي إمكانية التوصل إلى سلامٍ عادلٍ ودائم. فهذه المستوطنات، وبنيتها التحتية والمناطق التابعة لها، تتسبب في تقليص مساحة الأراضي المتبقية لإقامة دولة فلسطينية عليها. كما تعمل على قطع التواصل الجغرافي الطبيعي بين أطرافها. لذا ينبغي على إسرائيل إزالة مشاريعها الاستيطانية، وجبر الضرر الذي سببته أعمالها الاستعمارية في الأراضي الفلسطينية. ويتعين عليها الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967، مقابل التوصل إلى السلام الشامل وحصولها على الاعتراف من جيرانها.

* القانون الدولي
تنص الفقرة السادسة من المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة، التي صادقت عليها إسرائيل في عام 1951. على أنه «لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحّل أو تنقل جزءًا من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها».
كما ينصّ القرار (465) الصادر عن مجلس الأمن الدولي، في سنة 1980. على أن «سياسة إسرائيل وأعمالها لتوطين قسم من سكانها ومن المهاجرين الجدد في (الأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967. بما فيها القدس) تشكّل خرقًا فاضحًا لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب، كما تشكّل عقبة جدية أمام تحقيق سلامٍ شاملٍ وعادلٍ ودائمٍ في الشرق الأوسط». كما دعا هذا القرار إسرائيل إلى «تفكيك المستوطنات القائمة».

* حقائق أساسية
بينما تشكّل المناطق المأهولة في جميع المستوطنات الإسرائيلية ما لا يتجاوز 3 في المائة من مساحة الضفة الغربية، تقع ما نسبته 40 في المائة من مجمل أراضي الضفة الغربية تحت سيطرة تلك المستوطنات ومشاريع البنية التحتية المرتبطة بها، من قبيل الطرق الالتفافية الاستيطانية، والجدار العنصري العازل، والحواجز والقواعد العسكرية.
- في السنة التي أخلت السلطات الإسرائيلية فيها 8.200 مستوطن من قطاع غزة، في 2005، ارتفع عدد المستوطنين في المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية، إلى ما يقرب من 12.000 مستوطن.
- نجحت الحوافز التي تقدّمها الحكومة الإسرائيلية، في استقطاب الآلاف من المستوطنين اليهود وتشجيعهم على السكن في المستوطنات المقامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبحسب أحد استطلاعات الرأي، التي نشرتها منظمة «السلام الآن» الإسرائيلية، يقطن 77 في المائة من المستوطنين المستطلعة آراؤهم، في الأراضي الفلسطينية المحتلة لأسبابٍ تعود إلى «جودة الحياة» فيها، وليس لأسبابٍ دينية أو أسبابٍ تتعلق بالأمن القومي الإسرائيلي.
- يستهلك كل مستوطنٍ إسرائيلي سبعة أضعاف كميات المياه التي يستهلكها كل مواطنٍ فلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.



فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
TT

فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)

لعلّه من المغري لكل جيل أن يظن أنه يعيش تغيّراً حادّاً، وأنه يقف عند نقطة تحول في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن قول ذلك اليوم هو بالتأكيد أكثر صحة من أي وقت مضى. والدليل -لا جدال فيه- أن أبناء جيلي (جيل طفرة المواليد) في فترة ما بعد الحرب العالمية يعيشون تجربة غير عادية؛ لقد وُلدوا في عالم واحد، بين الدول الأوروبية والأميركية، وسوف يختفون في عالم آخر، معولم، لا مركزي، ومن دون أي حدود مكانية.

في لغة العلاقات الدولية يعني ذلك تحولاً وحشياً وانتقالاً غير منضبط من نظام مشترك بين الدول ومهيمن، عمره نحو 4 قرون، إلى عولمة متكاملة لم يعد لها مركز، ولا قيادة واضحة أو حاسمة، التي تتشكّل من خلال عدد من الجهات الفاعلة التي تخضع لأوضاع مختلفة (سياسية، واقتصادية، ودينية... إلخ) وقبل كل شيء من خلال التواصل المعمم.

من السهل تخمين العوامل التي تقف وراء هذا التمزق. إنها بالتأكيد مسألة التقدم التكنولوجي الذي ألغى المسافات، وزاد بشكل خيالي من التبادلات، ورؤية الجميع للجميع، مثل الأحداث الكبرى، بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها في العالم من قبل.

تحوّل جدار برلين إلى رمز لانقسام أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجالَيْن سوفياتي وغربي (أ.ف.ب)

يُضاف إلى ذلك مزيد من الأسباب السياسية: إنهاء الاستعمار شبه الكامل الذي شهد ولادة الجنوب العالمي، بدءاً من الانتصار المنهجي للضعفاء على الأقوياء، وسقوط جدار برلين، الذي كَسر القواعد التي تنظّم التنافس بين القوى القديمة، لقد تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في أعقاب عام 1945، وكان البناء التجريبي للعولمة أكثر تعقيداً بكثير من مجرد ازدهار الليبرالية الجديدة التي كانت تُشير بسذاجة إلى «نهاية التاريخ». وتحقيق الهيمنة الأميركية، ولكنه أكثر إثارة للجدل من أي وقت مضى.

لفترة طويلة، لم نرغب في رؤية الآثار الهائلة لمثل هذه الطفرات. كان انتصار المعسكر الغربي على المعسكر السوفياتي بمثابة نهاية للثنائية القطبية، من خلال خلق وهم السلام الأميركي الذي حافظ حتى على وهم نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي.

تم الحفاظ على الـ«ناتو»؛ حيث كان يعتقد أنه لا ينبغي المساس بالفريق الفائز. وكانت خيبة الأمل قوية: فقد هُزمت الولايات المتحدة في الصومال، والعراق، ثم في أفغانستان، وسرعان ما ظهرت الصين باعتبارها المستفيد الأكبر من العولمة التي كانت تُحرر نفسها من المجال الأميركي. كان هذا الإحباط الشديد هو السبب وراء التراجع الترمبي والقومي والهويتي والحمائي، الذي سرعان ما سيطر على أوروبا، التي كان عليها أن تعاني من النكسات التي جلبها العالم الجديد، خصوصاً في أفريقيا.

هذا في الواقع خرق يُبطل القواعد القديمة، ولكنه أيضاً يُبطل ممارسات ورؤى وحتى مفاهيم «جغرافيتنا السياسية» القديمة: لن يتعافى حتى تصبح اللعبة العالمية الجديدة، المكونة من الاعتماد المتبادل والتنقل والديناميكيات الاجتماعية، أكثر كفاءة بشكل لا نهائي.

ثلاثة إخفاقات

من استراتيجيات القوة القديمة هو كتابة تاريخ جديد. أولئك الذين يعرفون كيفية القيام بذلك سوف يفوزون، أما الآخرون، الراسخون في حنينهم، فسيخاطرون بأن يجدوا أنفسهم معزولين ومهمشين بشكل تدريجي. وهكذا شهدت العقود الأولى من هذه الألفية الجديدة ثلاثة إخفاقات على الأقل: إخفاق القوة الكلاسيكية، وإخفاق التحالفات التقليدية، وإخفاق التراجع الوطني. الأمر متروك للجميع لاستخلاص العواقب.

إن فشل القوة يُشير إلى تقادم الاستراتيجية التي استلهمها كلوزفيتز، فلم تعد الحرب قادرة على حل المشكلات التي تخلّت عنها السياسة في السابق، وذلك بسبب افتقارها إلى الفاعلية التي كانت تنسب إليها بالأمس. لم تعد هناك حرب تحمل هذه «المعركة الحاسمة»، التي أشار إليها الاستراتيجي البروسي، التي حدّدت الفائز بوضوح.

وبعيداً عن كونها علامة القوة، فإن الحرب اليوم ترتدي ثياب الضعف: حرب الأقوياء، الذين أصبحوا عاجزين في الصراعات الأفريقية والآسيوية والأوروبية اليوم، حرب الأطراف الذين يذهبون في أغلب الأحيان إلى الصراع، ولم يعودوا في صراعات. باسم السلطة، ولكن تحت تأثير التحلل المؤسسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. لهذه الأسباب تتتابع اتفاقات السلام، ولكن بقدر متزايد من عدم الفاعلية، في حين تستنزف القوى الإقليمية والعالمية نفسها دون أن تكسب شيئاً.

أدى إنهاء الاستعمار إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول (أ.ب)

إن عجز القوة، المرتبط بالعولمة القائمة على الاعتماد المتبادل والشمول المعمم، لا يدمّر فكرة الهيمنة القديمة فحسب، بل أيضاً فكرة التحالف أو الكتلة أو المعسكر. لقد أدى إنهاء الاستعمار، والفرص التي أتاحها مؤتمر باندونغ، ثم سقوط جدار برلين، إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول، التي أدركت تدريجياً أن التأثيرات غير المتوقعة كانت أكثر ربحية بكثير من التحالفات المبرمجة مسبقاً. وعلى هذا، فإن العالم القائم على تحالفات تواجه بعضها بعضاً قد نجح في عالم مجزّأ ومرن؛ حيث أصبحت «التحالفات المتعددة» أو الشراكات المرنة والمتغيرة هي القانون الآن. ويجد العالم الغربي نفسه معزولاً، وهو محاصر في حصن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينضح بجو من الثقة بالنفس يُحافظ على عدم الثقة بأولئك الذين هم خارجه، خصوصاً في الجنوب العالمي.

هناك إغراء كبير لتصفية الحسابات، بإحياء القومية والسيادة والانغلاق على الذات، وغالباً ما يذهب الأمر إلى حدّ الدلالات العنصرية، أو على أي حال هرمية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يسفر عن شيء؛ كما قال الفيلسوف تزفيتان تودوروف: «ليس لدى القوميين ما يبيعونه». وهذا التأكيد واضح في عالم تحكمه العولمة؛ حيث يتعيّن علينا أن نتعلّم كيف نعيش في نظام دولي يتسم بالتبادل. وتخاطر الشعبوية الوطنية بتعزيز قوتها تحت تأثير الخوف، في حين تظل عالقة في موقف احتجاجي حصري. إنها علامة من علامات زمن التحولات؛ حيث يبدو خيار الاحتجاج أفضل من تحمُّل مسؤولية الحكم.

* خبير فرنسي في العلاقات الدولية