سبوتلايت.. خبطة «بوسطن غلوب» الصحافية خطف الأوسكار

لأول مرة منذ فيلم «ووترغيت»

لقطة من فيلم «سبوتلايت» (ضوء مركز) عن الخبطة الصحافية قبل قرابة خمسة عشر عاما لصحيفة «بوسطن غلوب» («الشرق الأوسط»)
لقطة من فيلم «سبوتلايت» (ضوء مركز) عن الخبطة الصحافية قبل قرابة خمسة عشر عاما لصحيفة «بوسطن غلوب» («الشرق الأوسط»)
TT

سبوتلايت.. خبطة «بوسطن غلوب» الصحافية خطف الأوسكار

لقطة من فيلم «سبوتلايت» (ضوء مركز) عن الخبطة الصحافية قبل قرابة خمسة عشر عاما لصحيفة «بوسطن غلوب» («الشرق الأوسط»)
لقطة من فيلم «سبوتلايت» (ضوء مركز) عن الخبطة الصحافية قبل قرابة خمسة عشر عاما لصحيفة «بوسطن غلوب» («الشرق الأوسط»)

في الأسبوع الماضي، ولأول مرة منذ أربعين عاما عندما فاز فيلم عن «ووترغيت» بجائزة الأوسكار، فاز فيلم عن خبطة صحافية بأكثر من جائزة، منها: أحسن فيلم، وأحسن إخراج.
هذا هو فيلم «سبوتلايت» (ضوء مركز) عن الخبطة الصحافية، قبل قرابة خمسة عشر عاما، لصحيفة «بوسطن غلوب»، التي كشفت فسادا داخل الكنيسة الكاثوليكية في بوسطن، وخصوصًا علاقات جنسية بين أساقفة ومجموعات من الصبيان.
كان حفل الأوسكار مساء الأحد قبل الماضي. وصباح الاثنين الذي تلاه، في اجتماع التحرير اليومي، بدلا عن مناقشة تغطية الأخبار الجديدة، غطى على الاجتماع، مع مظاهر الفرح أهم خبر جديد: ميداليات أوسكار التي كسبها الفيلم. طبعا، كسب الميداليات ممثلون وممثلات، لكنهم مثلوا أدوار صحافيين وصحافيين.
عن ذلك الاجتماع، قال بريان ماكغوري، رئيس تحرير الصحيفة، لصحيفة «نيويورك تايمز»: «كان كل واحد منا يحس وكأنه زاد طولا». وأضاف: «جزء هام من هذا بالنسبة لنا هو الكمية الهائلة من الدعاية الإيجابية. ليست فقط للتحقيقات التي قمنا نحن بها، ولكن، أيضًا، لتشجيع غيرنا من الصحافيين لإجراء تحقيقات عن أخطاء في المجتمع. طبعا، كلما كانت هذه الأخطاء هامة، كلما كان كشفها هاما، وتاريخيا».
وتحدث الصحافي العجوز وولتر روبنسون، رئيس التحرير عندما نشرت الصحيفة الخبطة الصحافية (مثل دوره في الفيلم مايكل كيتون، بطل أفلام «الرجل الوطواط»). قال إن كثيرا من الصحافيين اتصلوا به، وهنأوه على الأوسكار. وإن بعض الصحافيين، أثناء اجتماع التحرير صباح الاثنين (بعد أحد الجائزة) ربطوا تليفونه بقاعات اجتماعاتهم، ليسمح كلمات الثناء، وليسمع التصفيق.
وأضاف: «في هذا الوقت الذي يتأرجح فيه العمل الصحافي المهني، وليس تقليلا من دور الإعلام الاجتماعي، نحتاج إلى تشجيع الصحافيين المهنيين لمزيد من التحقيقات الصحافية».
قصد رئيس التحرير العجوز صحفا أميركية هامة قللت من نشاطاتها بسبب مشكلات مالية، وبسبب انتشار الإعلام الاجتماعي. بداية بصحيفته، «بوسطن غلوب»، التي، قبل عامين، أغلقت مكاتبها في الخارج وفي الداخل (عدا مكتب واشنطن العاصمة). وقالت نفس الشيء تقريبا ساشا بلايفر، التي اشتركت في «الخبطة» قبل خمسة عشر عاما (مثلت دورها في الفيلم راكيل ماكادمز). وقالت: «بالنسبة للصحافة الورقية، الأوسكار جاء مثل حقنة، ليعيد الحياة إليها».
في مواقع التواصل الاجتماعي، برزت شركة «تويتر» التي تطوعت ونشرت إعلانات تشجع الصحافيين، وتشجعهم لمزيد من التحقيقات الصحافية لكشف أخطاء (وخفايا) المجتمع.
وقال ويليام غراي، خبير العلاقات الإعلامية في مركز «بابليك انتغريتي» (النزاهة العامة) في واشنطن، والذي يشجع التحقيقات الصحافية: «في نهاية المطاف، نحتاج إلى دعم مالي. ليس سهلا على صحف يومية أن تخصص صحافيين يتفرغون لمواضيع غير يومية».
وأشار كثير من الصحافيين والخبراء إلى العصر الذهبي للتحقيقات الصحافية. خاصة تحقيقات صحيفة «واشنطن بوست» التي كشفت فساد الرئيس ريتشارد نيكسون، وقادة الحزب الجمهوري، وتسخيرهم لعملاء ومجرمين (خلال الحملة الانتخابية ضد الحزب الديمقراطي عام 1972). لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، استقال رئيس جمهورية. في وقت لاحق، صدر كتاب «كل رجال الرئيس»، وهو الكتاب الذي تحول إلى فيلم سينمائي نال جائزة الأوسكار في ذلك الوقت.
زاد من أهمية وشهرة أوسكار فيلم «سبوتلايت» أنه فاز على فيلم «ريفينانت» (بطله ليوناردو دي كابريو). جاء اسم الفيلم (سبوتلايت) من اسم قسم التحقيقات الصحافية الصغير في صحيفة «بوسطن غلوب». على الرغم من صغر حجم الفريق إلا أنه، في عام 2001، قضى شهورا يجمع معلومات عن فضيحة استغلال جنسي على نطاق واسع للأطفال، كانت تتستر عليها قيادة الكنيسة الكاثوليكية في بوسطن. لهذا، ركز الفيلم على دور الصحافة في خدمة المجتمع. ودون التقليل من أهمية المعتقدات الدينية.
وركز الفيلم على طرق التحقيقات الصحافية، وجمع المعلومات. وركز على إبراز ممثلين صوروا وضع الخطط، ومناقشتها، والاتفاق عليها، ثم تنفيذها. وعلى إحساسهم بضخامة ما هم مقبلون على كشفه. وعلى الشعور بالزهو بنصر صحافي هائل.
استغرق إنتاج الفيلم ثمانية أشهر، وعرض في السينما الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وحقق نجاحا لا بأس به (أكثر من 60 مليون دولار). وطبعا، بعد الأوسكار، سيزيد عائده (تكلف إنتاجه عشرين مليون دولار).



كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».