قراءة في السياسة الأميركية بسوريا ولبنان

روبرت غيتس: البيت الأبيض و«مجلس الأمن القومي» نجحا في حصر السياستين الخارجية والدفاعية في يد أوباما بشكل لا سابق له

الرئيس أوباما يستمع الى حديث الرئيس الفرنسي هولاند في البيت الأبيض (أف ب)
الرئيس أوباما يستمع الى حديث الرئيس الفرنسي هولاند في البيت الأبيض (أف ب)
TT

قراءة في السياسة الأميركية بسوريا ولبنان

الرئيس أوباما يستمع الى حديث الرئيس الفرنسي هولاند في البيت الأبيض (أف ب)
الرئيس أوباما يستمع الى حديث الرئيس الفرنسي هولاند في البيت الأبيض (أف ب)

قدم أحد المغردين على موقع «تويتر» رابط المقالة المشتركة التي نشرها الرئيسان الأميركي باراك أوباما والفرنسي فرنسوا هولاند في صحيفة «واشنطن بوست»، بمناسبة زيارة الأخير إلى العاصمة الأميركية، وجاء فيها: «لقد مهد تهديدنا باستخدام القوة الطريق لخطة نزع أسلحة سوريا الكيماوية». وأضاف الرئيسان: «الآن، على سوريا الوفاء بالتزاماتها»، ما دفع المغرد المذكور إلى التعليق: «على سوريا الوفاء بالتزاماتها وإلا فماذا؟ نذهب إلى جنيف 15؟».
التغريدة تختصر السياسة الأميركية تجاه سوريا منذ اندلاع الثورة المطالبة بإنهاء حكم الرئيس السوري بشار الأسد في مارس (آذار) 2011. وهي سياسة متمحورة حول الكلام والتصريحات. بعضها حازم، وبعضها الآخر غامض، وكلها قلما تقترن بأفعال أو رؤية عامة متناسقة أو متماسكة.
وفي وقت لم يكن معروفا، في الأشهر الأولى للثورة، من يضع هذه السياسة، بدا جليا في وقت لاحق أن أوباما نفسه هو المسؤول الأول والأخير عنها، أو هذا هو الوصف الذي قدمه وزير دفاعه السابق روبرت غيتس، الذي قال في كتاب مذكراته الصادر حديثا إن البيت الأبيض، و«مجلس الأمن القومي» خصوصا، نجحا في حصر السياستين الخارجية والدفاعية الأميركية في يدي الرئيس بشكل لا سابق له، وإنه منذ أن انخرط غيتس في عالم السياسة في أوائل السبعينات وعمل في الإدارات المتعاقبة، لم يسبق أن رأى مركزية في القرار كالتي عايشها تحت حكم الرئيس الحالي.

يضرب غيتس أمثلة متعددة على احتكار أوباما الكامل لقرارات السياسة الخارجية الأميركية بالقول إنه في موضوع تسليح المعارضة السورية، كان هو ووزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، ومدير «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي إيه) السابق ليون بانيتا يؤيدون التسليح، لكن أوباما لم يكن يستمع إلى وزيري دفاعه وخارجيته ومدير استخباراته، بل كان يصر على عدم التسليح.
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حلقة حوارية في ولاية تكساس شارك فيها غيتس وبانيتا، قال الرجلان إنهما لو كانا في مركزيهما لكانا قدما نصيحة للرئيس بتوجيه ضربة لقوات الأسد، من دون الذهاب إلى الكونغرس طلبا لموافقة استخدام القوة العسكرية، عقابا للأسد على شنه هجوما بالأسلحة الكيماوية في ضاحية دمشق في 21 أغسطس (آب) الماضي.
سبتمبر 2013 شهد أيضا استدارة أوباما الشهيرة على نفسه، فهو بعدما ركن أربع سفن حربية مقاتلة قرب الشواطئ اللبنانية والسورية، خرج إلى العلن فجأة، وكان يوم سبت وهو اليوم الذي تفرض فيه عطلة نهاية الأسبوع شبه حظر على النشاط السياسي في العاصمة الأميركية، ليبلغ الأميركيين أنه ارتأى أن يحيل قرار توجيه الضربة في سوريا إلى الكونغرس الذي يسيطر الحزب الجمهوري المعارض على غالبية مجلس الممثلين فيه، فيما يحتفظ حزب أوباما الديمقراطي بغالبية مجلس الشيوخ.
وفيما اعتقد المتابعون في بادئ الأمر أن أوباما اتخذ قراراه بعد استشارة زعماء الكونغرس من الحزبين وحصوله على موافقتهم، اتضح فيما بعد أن الرئيس الأميركي لم يكن قد طلب مشورة أحد، ولا حتى كبار أركان إدارته، إذ أشارت التسريبات اللاحقة إلى أن أوباما اتخذ قراره منفردا وبالتشاور فقط مع رئيس موظفي البيت الأبيض دينيس ماكدنو، ثم جمع في وقت لاحق القياديين في «فريق الأمن القومي» ليعلمهم بقراره، لا ليستشيرهم، وكذلك فعل مع وزيري خارجيته ودفاعه جون كيري وتشاك هيغل اللذين بلغا الخبر من الرئيس عبر الهاتف.
عدم اكتراث أوباما بالشأن السوري، ولا بنصائح كبار أركان إدارته حول ضرورة تسليح الثوار وتوجيه ضربة لقوات الأسد، أكدته فيما بعد صحيفة «نيويورك تايمز» في مقالة نشرتها في أكتوبر (تشرين الأول) وشارك في كتابتها مايكل غوردن، وهو معروف بقربه من البيت الأبيض، وجاء فيها أنه «حتى في الوقت الذي اكتسب فيه النقاش حول تسليح الثوار أهمية استثنائية، كان يندر أن يعبر السيد أوباما عن آراء قوية أثناء اجتماعاته مع كبار موظفيه».
ونقلت الصحيفة عن كبار المسؤولين الحاليين والسابقين قولهم إنه لطالما كانت «لغة جسد أوباما في هذه الاجتماعات معبرة؛ فهو كان يبدو غالبا غير صبور وغير منخرط أثناء استماعه للنقاش، وكان أحيانا يتناول جهازه البلاكبيري أو يمضغ العلكة».

* سوريا تهدد أمن أميركا
في ظل احتكار أوباما قرارات السياسة الخارجية، وفي ظل غياب حماسة أوباما تجاه سوريا كان من الطبيعي أن تتراوح سياسة واشنطن تجاه الأزمة السورية بين المرتبكة والمتضاربة، فعلى عكس ما حدث في مصر حيث لم يمر الكثير من الوقت قبل أن يتخلى أوباما عن حليف أميركا الرئيس الأسبق حسني مبارك ويقول له إن مغادرته اليوم تعني الأمس، تأخر أوباما كثيرا في اتخاذ موقف تجاه عدو أميركا بشار الأسد، إذ مضت خمسة أشهر على اندلاع الثورة السورية قبل أن يطلق الرئيس الأميركي، في 17 أغسطس 2011، تصريحا قال فيه إن «مستقبل سوريا يقرره الشعب السوري، لكن الرئيس بشار الأسد يقف في الطريق»؛ لذا «من أجل مصلحة الشعب السوري، حان الوقت للرئيس الأسد أن يتنحى جانبا».
قبل ذلك، وفيما كانت قوات الأسد تطلق النار على المتظاهرين السوريين السلميين وتقتل منهم وتعتقل وتعذب، التزمت واشنطن الصمت باستثناء إصدار وزارة الخزانة ثلاثة قرارات عقوبات مالية طالت مقربين من الأسد.
على أن مطالبة أوباما الأسد بالرحيل لم تتعد كونها موقفا خطابيا لم يقترن بأي سياسات معينة داخل العاصمة الأميركية، فلم يجرِ رصد أي أموال لدعم الثوار أو تدريبهم، ولا جرى تخصيص شحنات أسلحة لتسليحهم، ورفض أوباما التهديد باستخدام القوة الأميركية من أجل إجبار الأسد على الرحيل. على العكس، تمادت الإدارة الأميركية في حبس دعمها المادي عن الثوار، وأرسلت عاملين في استخباراتها إلى الدول الحليفة المجاورة لسوريا، وراح هؤلاء العملاء يتفحصون كل عمليات التسليح التي قامت بها دول مؤيدة للثوار، وراحوا يمنعون تزويد الثوار بأي أسلحة نوعية.
وداخل واشنطن، راح أوباما يعقد الاجتماعات المتوالية لفريق الأمن القومي، برئاسته، من أجل التباحث في تطورات الشأن السوري. ولأن أوباما حافظ على صمته وعدم اكتراثه، تحول النقاش بين أفراد فريقه إلى نقاش حامي الوطيس، خصوصا بين كيري، المؤيد لضربة أميركية «تجعل الأسد يقرأ الكتابة على الحائط» ويدرك أن لا سبيل له للبقاء أو لحكم سوريا مجددا، وهيغل الذي يعارض الضربة العسكرية ويعتقد أن أفضل الحلول هو التوصل إلى تسوية مع إيران تتضمن سوريا.
وفي إحدى الجلسات، تفاقم النقاش بين كيري وهيغل إلى حد دفع أوباما إلى الطلب منهما ترتيب لقاء بينهما في اليوم التالي لتبريد الأجواء.

* تنظيم القاعدة وحزب الله اللبناني
على أن الرأي الأبرز الذي خرج من هذه الاجتماعات إلى العلن كان رأي رئيس الأركان الجنرال مارتن ديمبسي، الذي كرر سرا وعلنا اعتقاده أن لا مصلحة أميركية في استخدام القوة العسكرية في سوريا. وكرر ديمبسي، أثناء لقاءات فريق الأمن القومي، أن في سوريا حربا بين طرفين هم بمثابة إرهابيين وأعداء لأميركا: تنظيم القاعدة وحزب الله اللبناني، وأنه كلما طالت المعركة بين هذين الطرفين، استنزفا قوتيهما، وكانت المواجهة في مصلحة واشنطن التي ليس لها مصلحة، في هذه الحالة، في التدخل لمصلحة أي منهما.
وتبنى نظرية أن مصلحة أميركا في استمرار الحرب بين «القاعدة» وحزب الله عدد من أصحاب القرار والخبراء الأميركيين، وخصوصا من أصدقاء إسرائيل.
إلا أن المسؤولين والخبراء الأكثر حنكة كانوا يدركون أن استمرار المواجهة في سوريا لم يكن في مصلحة أميركا، وقال هؤلاء إن الحرب السورية تقدم مسرحا ملائما للإرهابيين للاستقطاب، والتنظيم، والتدريب، والتسليح، وإقامة شبكات تمويل. وأضاف هؤلاء أنه عندما تنتهي الحرب السورية، سيعود الإرهابيون إلى منازلهم، ولكنهم سيحتفظون بتدريبهم وبعلاقاتهم مع الشبكات الإرهابية، وقد يستخدمون الخبرة التي اكتسبوها في سوريا لشن عمليات إرهابية في دول غربية، منها الولايات المتحدة.
في هذا السياق، قال وزير الأمن القومي الأميركي جيه جونسون إن مسؤولي الاستخبارات الأميركيين «يعرفون أشخاصا من أميركا الشمالية وأوروبا في طريقهم إلى سوريا حيث سيجدون أنفسهم تحت تأثير نفوذ راديكاليين متطرفين، وربما يعودون إلى بلدانهم فيما بعد (في الغرب) مع نية القيام بأذى».
وقال جونسون، في خطاب في مركز وودرو ويلسون في واشنطن في شهر فبراير (شباط) الماضي، إن «سوريا أصبحت شأنا مرتبطا بالأمن القومي» للولايات المتحدة، وهو تصريح يشبه تصاريح مماثلة أدلى بها مسؤولون أميركيون كبار حول خوفهم من أن تتحول سوريا إلى ملتقى للإرهابيين الذين يتلقون التدريب ثم يعودون إلى بلدانهم، مثل أميركا، فيهددون أمنها.

* أوباما: سوريا حرب الآخرين الأهلية.. ولبنان تابع
التضارب في آراء المسؤولين الأميركيين ليس حديثا، فمنذ اندلاع الثورة السورية والمسؤولون هنا يقدمون مواقف ورؤى متضاربة، فتصريحات جونسون وأمثاله حول الخطر الذي تشكله الحرب السورية على الأمن القومي الأميركي هو رأي يتناقض تماما مع تصريحات أوباما المتكررة، التي غالبا ما تكون مرتبكة ومتناقضة.
وبلغ الارتباك في رؤية ومفهوم أوباما تجاه سوريا ذروته ليل العاشر من سبتمبر أثناء توجيهه خطابا إلى الشعب الأميركي حول الأزمة السورية. وقتذاك، قال أوباما للأميركيين: «الليلة، أريد أن أتحدث إليكم عن سوريا، ولماذا تهمنا». وبعدما سرد الرئيس الأميركي تاريخ الثورة السورية، وقال: إن قمع الأسد للمظاهرات السلمية حولها إلى حرب أهلية، واتهم حكومة الأسد بشن هجوم كيماوي أدى إلى مقتل أكثر من ألف سوري، ما خرق «مفهومنا للإنسانية»، قال أيضا إن «ما حدث لهؤلاء الناس (لهؤلاء الأطفال) ليس فقط اختراقا للقانون الدولي، بل هو أيضا خطر على أمننا». ثم عاد ليصف الوضع في سوريا بأنه «حرب الآخرين الأهلية» التي لا يمكن حلها باستخدام القوة الأميركية.
في خطاب أوباما ذاك حول سوريا تناقض واضح، إذ هو من ناحية عدها «حرب الآخرين الأهلية» التي لا مصلحة لواشنطن في التدخل فيها، ومن ناحية أخرى عدها «تهديدا للأمن القومي» الأميركي الذي يفرض اهتماما أميركيا. وفي وسط التناقض في مواقفه، يقف أوباما متفرجا حتى اليوم.
على أن الرئيس الأميركي جدد اعتقاده أن الحرب في سوريا هي «حرب الآخرين» في مقالته المشتركة مع هولاند، التي جاء فيها: «وفيما تهدد الحرب في سوريا استقرار المنطقة، بما فيها لبنان، على المجتمع الدولي أن يزيد من مجهوده للعناية بالشعب السوري، وتقوية المعارضة السورية المعتدلة، والعمل من خلال عملية جنيف 2 باتجاه انتقال سياسي يمكنه أن يخلص الشعب السوري من الديكتاتورية والإرهاب».
إذن، عاد أوباما إلى مقولة إن الحرب في سوريا تهدد أمن المنطقة، ولبنان، فيما هو لم يعدها تهدد الأمن القومي الأميركي. هكذا، يصبح الحل في سوريا ولبنان، مرتبطا بتوصل السوريين إلى حل سياسي خلال «عملية جنيف».
واستخدام كلمة «عملية» لوصف مؤتمر جنيف هو عادة درج عليها المسؤولون الأميركيون منذ مطلع هذا العام، لإدراكهم أن المؤتمر لا يمكنه التوصل إلى حلول قريبة، ولتبريرهم استمرار عملية القتل المستمرة في سوريا فيما المجتمع الدولي يقف متفرجا بقولهم إن «الانتقال السياسي» في سوريا هو عملية تستغرق وقتا، وإنها لن تجري بسرعة، ما يبرر الموقف الدولي المتفرج.
على أن ما يثير القلق في موقف أوباما، الذي يبدو أنه ألبسه لهولاند كذلك، هو اعتقاد الرئيس الأميركي أن لبنان هو مجرد تابع لسوريا، وأن أي اهتزاز لاستقراره هو بسبب الحرب السورية. كما يشي قول أوباما إن الحل الوحيد للتخلص من الديكتاتورية والإرهاب في سوريا هو عملية انتقالية سياسية بين السوريين باعتقاده أن الإرهاب اليوم هو في سوريا فقط، مع العلم أن وزارة الخارجية الأميركية تضع حزب الله اللبناني على قائمتها للتنظيمات الإرهابية، وكذلك يفعل الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أنه إذا كانت سوريا لا تثير قلق أوباما، الذي يعتقد أن لا دور لبلاده للحل فيها، فإنه لن يثير لبنان قلق الرئيس الأميركي، رغم وجود حزب الله، السابق لاندلاع الثورة السورية، والذي يواجه أعضاؤه عددا من المحاكمات الدولية والمحلية في دول أوروبية وآسيوية بتهمة التفجير، كما في بلغاريا في عام 2012. أو التخطيط للقيام بعمليات إرهابية، كما في قبرص العام الماضي.

* الولايات المتحدة وحزب الله: عدو عدوي صديقي
في يونيو (حزيران) 2013. كتب آندرو أكسوم، مسؤول ملف لبنان السابق في مكتب وزير الدفاع الأميركي، تغريدة جاء فيها: «أعجب كيف يحث حزب الله اللبنانيين على دعم الجيش». وأضاف متوجها بسؤال إلى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بالقول: «إذن نحن الآن نتفق على أن على الدولة احتكار العنف يا أبو هادي؟».
وقتذاك جاء التلاقي في المواقف بين أميركا وحزب الله على دعم الجيش اللبناني، وفي حالة الحزب المذكور ربما القتال إلى جانب الجيش أو حتى توريطه في معركة مع رجل الدين أحمد الأسير في مدينة صيدا الجنوبية. والأسير كانت تحيطه مجموعة من عشرات المؤيدين، بعضهم مع أسلحة خفيفة، ولكن الشيخ المذكور ومجموعته لم يرقيا في الغالب إلى مستوى المجموعات المسلحة التي يمكنها أن تهدد أمن اللبنانيين أو حكومتهم.
والأهم أن وزارة الخارجية الأميركية لا تضع الأسير ولا مجموعته على لائحة التنظيمات المصنفة إرهابية، ما يعني أن أي مواجهة تخوضها القوى الأمنية اللبنانية مع الأسير هي من باب حفظ الأمن، وأنها لا تدخل في إطار «الحرب على الإرهاب»، ولا تتطلب حتى مشاركة الجيش اللبناني في القتال.
إلا أن الحكومة الأميركية لم تكترث لتفاصيل الأسير، بل جددت دعمها للجيش اللبناني، ووجدت نفسها في ذلك في موقع مطابق لموقع حزب الله، فيما خلت البيانات والتصريحات الأميركية من أي إشارة تطالب الجيش اللبناني بفرض سلطة الدولة على الأرض اللبنانية كاملة، بما في ذلك المناطق التي يسيطر عليها حزب الله، الذي تعده واشنطن تنظيما إرهابيا.
التطابق بين الولايات المتحدة وحزب الله اللبناني لم يأت في إطار توافقهما على «الحرب على الإرهاب» في لبنان فحسب، بل في سوريا كذلك، إلى درجة أنه لم يدلِ أي مسؤول أميركي بتصريح يعد فيه أن وجود الحزب في سوريا، للقتال إلى جانب الأسد، هو إرهاب، بل تدلى التصريحات الأميركية على اعتقاد واشنطن أن الإرهاب في سوريا مصدره المجموعات المناهضة للأسد وحزب الله فقط.
ويأتي كذلك اعتبار أوباما، في مقالته مع الرئيس الفرنسي، أن لبنان هو ضحية الحرب السورية، من دون أن يعد أن لبنان هو (قبل حرب سوريا) ضحية حزب الله الذي تصنفه واشنطن إرهابيا، ليؤكد التفكير الأميركي أن الولايات المتحدة لم تعد ترى في حزب الله عدوا، بل ترى فيه في الغالب حليفا أو صديقا، حتى وإن بشكل غير رسمي، وعلى قاعدة «عدو عدوي صديقي».
التقارب الأميركي مع حزب الله في لبنان وسوريا يأتي في وسط الانفراجات بين واشنطن وطهران في ملف إيران النووي، والتوصل إلى «اتفاقية إطار» مؤقتة في جنيف في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. كذلك نشرت وسائل إعلام أميركية وأوروبية وعربية مختلفة مقالات أكدت فيها وجود قنوات حوار غير مباشر بين واشنطن والحزب اللبناني، وهو أمر لاقى نفيا تامّا من الطرفين.
لكن «لا دخان من دون نار»، حسب القول المأثور، فمع حلول العام الحالي، أطل سعد الحريري رئيس أكبر كتلة في «مجلس النواب» اللبناني ورئيس الحكومة الأسبق المناوئ لحزب الله والأسد ليعلن قبوله الدخول في حكومة «وحدة وطنية» مع الحزب وحلفائه، بعدما رفض الحريري هذا الأمر على مدى عشرة أشهر، مطالبا بانسحاب مقاتلي الحزب من سوريا كشرط لقبوله تأليف حكومة من هذا النوع.
ولكن رغم موافقة الحريري على تشكيل حكومة وحدة برئاسة النائب في كتلته تمام سلام، برزت عقبات وضعها حليف حزب الله النائب ميشال عون.
يعتقد الكاتب والتر راسل ميد أن الدول الآسيوية تقول اليوم عن الرئيس أوباما ما كانت تقوله بالضبط عن الرئيس السابق جورج بوش، بأنه «رغم التزام أميركا اللفظي بآسيا، ابتلع الشرق الأوسط السياسة الخارجية الأميركية». وتأتي شكوى حلفاء أميركا في آسيا، رغم تكرار المسؤولين الأميركيين لمقولة «الاستدارة» من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى: «في وقت يدل على اتساع دور الصين وتزايد قوة الردود اليابانية على اعتقاد الدولتين أن واشنطن ليست مهتمة بشؤون منطقتهم، وهو ما يعني أن الأوضاع تصبح أكثر خطورة» في غياب قوة ناظمة للعلاقات المتدهورة بين دول هذه المنطقة.
«هذه ليست مشكلة آسيا أو الشرق الأوسط أو أي حي من العالم تشعر الإدارة بأنها ترغب في الاستدارة نحوه»، يكتب ميد، ويضيف: «إنها مشكلة انفصال بين ما تقوله الإدارة وبين ما تفعله، وهو ما يدفع الناس إلى السؤال: هل تعني إدارة أوباما ما تقوله؟».
ويتابع الكاتب الأميركي أن «كارثة الخطوط الحمر في سوريا»، أي أنه عندما هدد أوباما الأسد بأن استخدام الأسلحة الكيماوية سيكون بمثابة تخطي الخطوط الحمراء ويجبر أميركا على التدخل عسكريا: «مزق مصداقية الإدارة حول العالم»، وهو ما يجعل الجميع عصبيين، في حال كنا نستدير نحوهم أو لا، فكل ما تقوله الإدارة الآن يبدو، وللأسف، وكأنه خط أحمر جديد في سوريا.
ويختم ميد أنه لا يمكن حل مشاكل إدارة أوباما للسياسة الخارجية بالاستدارة من منطقة إلى منطقة، فآسيا تحتاج إلى المزيد من الانتباه الأميركي، وكذلك الشرق الأوسط، وكذلك (كما بدا واضحا في أوكرانيا) أوروبا، إذ إن «ما تحتاجه إدارة أوباما فعلا هو استدارة نحو العالم، واستدارة نحو سياسة خارجية جدية ومتناسقة تقول فيها ما تعنيه وتعني ما تقوله».

* صحافي وكاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة



السوريون يحتفون بذكرى عودة سوريا وهروب الأسد


سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
TT

السوريون يحتفون بذكرى عودة سوريا وهروب الأسد


سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)

تعيش دمشق، في الذكرى الأولى لـ«التحرير» التي تصادف اليوم، لحظات احتفاء بعودة السوريين إلى بلادهم، وانهيار النظام السابق وهروب رئيسه بشار الأسد.

في العاصمة التي بدت كأنها في «وقفة عيد»، تتداخل بهجة بـ«حق العودة» مع ثقل الذاكرة، فيما تعكس الشوارع ملامح هوية جديدة حلّت محل رموز «الحقبة السوداء»، وصهرت مقاتلي الفصائل في أجهزة الدولة الناشئة، وامتصت جانباً من قلق الدمشقيين تجاه مستقبلهم.

وخلف الزينة والزحام والفنادق المكتظة والعائدين بعد سنوات منفى، ثمة غصة حاضرة لدى أهالي المغيبين وسكان المناطق المدمرة. رغم ذلك، استعاد الناس جرأة النقاش العلني، كأن «الجدران لم تعد لها آذان»، في تعبير عن شعور عام باسترداد القرار الفردي والحق في العودة.

هذا التحول لم يلغِ ذكرى الليلة العصيبة التي أعقبت هروب الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، حين وقفت دمشق على حافة الفوضى؛ فقد انهارت المؤسسات الأمنية، واندفعت مجموعات مسلحة لنهب مقرات حساسة، بينما ترك عناصر النظام بزاتهم في الشوارع.

ومع ذلك، نجحت أحياء مثل الجسر الأبيض وباب توما والقصاع في حماية نفسها عبر لجان أهلية ارتجالية ضمت أطباء وطلاباً وتجاراً. وبفضل هذه المبادرات، أوقف أكثر من 200 لص، وأحبطت محاولات اعتداء ذات طابع طائفي، في لحظة كشفت قدرة الناس على منع الانزلاق.

وفي طهران، تبرز اليوم روايات متناقضة حول انهيار «خيمة المقاومة»، وفقدان إيران عمودها السوري بين خطاب المرشد عن «مؤامرة خارجية»، ورؤية «الحرس الثوري» لسوريا بوصفها «المحافظة الخامسة والثلاثين»، ودفاع الدبلوماسية، واتهامات برلمانيين بهدر عشرات المليارات. وتتوالى الأسئلة حول التكلفة والخسارة، وفيما إذا تستطيع طهران خوض مغامرة جديدة في سوريا بعدما انهار الرهان السابق.


4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
TT

4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)

192 يوماً فصلت بين اللقاء الأخير الذي جمع المرشد الإيراني علي خامنئي بالرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في طهران، وسقوط النظام السابق بيد المعارضة. هذا الفاصل الزمني لم يكن تفصيلاً عابراً في روزنامة الحرب السورية، بل تحول إلى مرآة حادة داخل طهران عكست حجم الرهان الذي وضعته القيادة الإيرانية على شخص الأسد، وكشفت عن حدود قدرتها على استشراف مسار الصراع وتحولات ميزان القوى في الإقليم.

في ذلك اللقاء، قدم خامنئي خلاصة «عقيدته» السورية على ضوء المستجدات في ساحات «محور المقاومة». فـسوريا، في نظره، ليست دولة عادية، بل صاحبة «مكانة خاصة»؛ لأن هويتها - كما رأى - تتشكل من دورها في هذا المحور.

ولأن «المقاومة هي الهوية المميزة لسوريا وينبغي الحفاظ على هذه السمة»، خاطب خامنئي الأسد بوصفه شريكاً في هذه الهوية لا مجرد حليف سياسي، وأثنى على عبارتيه: «كلفة المقاومة أقل من كلفة المساومة»، و«كلما تراجعنا تقدم الطرف المقابل». هكذا ثبّت خامنئي رهانه الكامل والمتأخر في الوقت نفسه على بقاء النظام، في لحظة كانت مؤشرات الانهيار فيها تتراكم بوضوح في الميدان، كما أقر بذلك لاحقاً بعض المسؤولين الإيرانيين.

بعد أقل من سبعة أشهر، كان النظام قد سقط، لكن سقوط نظام بشار الأسد لم ينتج رواية إيرانية واحدة، بل عدة روايات متوازية: رواية المرشد، ورواية «الحرس الثوري»، ورواية جهاز السياسة الخارجية، إلى جانب أصوات من داخل النظام نفسه عادت إلى الواجهة لتطرح أسئلة صريحة عن كلفة المغامرة الإيرانية في سوريا.

في أول خطاب له بعد سقوط الأسد، قدم خامنئي تفسيراً حاداً لما جرى، عارضاً الحدث بوصفه «نتاج مخطط مشترك أميركي - صهيوني» بمساندة بعض الدول المجاورة. وتحدث عن عوامل - قال إنها منعت طهران من تقديم المساندة المطلوبة - من بينها الضربات الإسرائيلية والأميركية على الأراضي السورية، وإغلاق الممرات الجوية والبرية أمام الإمداد الإيراني، ثم خلص إلى أن الخلل الحاسم وقع داخل سوريا نفسها، حين ضعفت «روح المقاومة» في مؤسساتها. وشدد على أن سقوط النظام لا يعني سقوط فكرة «المقاومة»، متوقعاً أن «ينهض الشباب السوري الغيور» يوماً ما لإعادة إنتاجها بصيغة جديدة.

هذه الرواية تنفي عملياً مفهوم «الهزيمة الاستراتيجية»؛ فما جرى بالنسبة لخامنئي، ليس نهاية المعركة، بل مرحلة قاسية في مسار أطول، ولذلك يصر على أن «الوضع لن يبقى على حاله».

رواية «الحرس الثوري»

في المقابل، بدا «الحرس الثوري» أقرب إلى لغة الأمن القومي منه إلى لغة العقيدة الخالصة، وإن استعان بالقاموس الآيديولوجي نفسه. في فبراير (شباط) 2013، صاغ مهدي طائب، رئيس «مقر عمار» المكلَّف بـ«الحرب الناعمة»، المعادلة بأوضح ما يكون: «سوريا هي بالنسبة لنا المحافظة الخامسة والثلاثون، وهي ذات أهمية استراتيجية. وإذا شنّ العدو هجوماً وحاول الاستيلاء على سوريا أو خوزستان (الأحواز)، فإن الأولوية لدينا ستكون الإبقاء على سوريا».

بهذه الجملة الصادمة داخلياً، رُفعت سوريا عملياً إلى مرتبة جزء من الجغرافيا الأمنية الإيرانية، يتقدّم أحياناً على أجزاء من التراب الإيراني نفسه.

وكان اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لـ«فيلق القدس»، هو المهندس الميداني لهذه المقاربة: مواجهة التهديدات خارج الحدود، عبر بناء شبكات من الميليشيات المتعددة الجنسية، وتحويل «حماية العتبات والأماكن المقدسة» إلى شعار تعبوي يغطي في آن واحد الدوافع الآيديولوجية وحسابات الأمن القومي.

وفي خطاب الذكرى الخامسة لمقتل سليماني، بعد أقل من شهر على سقوط الأسد، أعاد خامنئي تثبيت هذه المدرسة؛ فربط بين حماية العتبات في دمشق والعراق وبين حماية «إيران بوصفها حرماً» نفسها، في محاولة لتوحيد كل هذه الساحات ضمن إطار واحد: صراع أمني - مذهبي عابر للحدود.

بعد سقوط النظام السوري، حافظت هذه الرواية على جوهرها: النجاح أو الفشل لا يُقاس بهوية من يجلس في قصر الشعب في دمشق، بل بما إذا كانت شبكات النفوذ التي نسجها الحرس ما زالت قابلة للحياة، وبما إذا كان «العمق السوري» ما زال مفتوحاً أمام النفاذ الإيراني. الانسحاب الكامل من سوريا يعني، وفق هذا المنطق، الاعتراف بأن «المحافظة الخامسة والثلاثين» سقطت من الخريطة؛ لذلك سيظل «الحرس» يبحث عن طرق لإبقاء موطئ قدم (مهما كان ضيقاً) في الجغرافيا السورية.

شيباني يلتقي عراقجي بعد تعيينه مبعوثاً خاصاً بسوريا بعد شهر من الإطاحة بالأسد يناير 2025 (الخارجية الإيرانية)

رواية الجهاز الدبلوماسي

حاول جهاز السياسة الخارجية تقديم قصة أكثر نعومة للداخل والخارج. قبل السقوط بأسابيع، أوفد خامنئي مستشاره الخاص علي لاريجاني إلى دمشق وبيروت، حاملاً رسائل سياسية تطمينية إلى بشار الأسد وحلفاء آخرين. تحدث لاريجاني علناً عن أن ما يجري في سوريا ولبنان «يتصل مباشرة بالأمن القومي الإيراني»، وكأن طهران ما زالت قادرة على ضبط التوازنات.

بعده بأيام، زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي دمشق قبل ستة أيام فقط من الانهيار، واختار أن يلتقط صورة وهو يتناول الشاورما في أحد مطاعم العاصمة، في إشارة مقصودة إلى أن «الوضع طبيعي»، وأن الحديث عن انهيار وشيك جزء من «الحرب النفسية». كان ذلك ذروة الفجوة بين الصورة التي تحاول الدبلوماسية تسويقها والواقع المتفكك على الأرض.

بعد السقوط، لجأت الخارجية إلى صيغة دفاعية مألوفة: إيران «استجابت لطلب حكومة حليفة، وقدّمت المشورة والدعم»، لكنها «لا تستطيع أن تقرر نيابة عن الشعوب». هكذا خففت مسؤولية القرار عن كاهل الدبلوماسية، وأُحيل الجزء الأكبر من الفشل إلى الداخل السوري و«التآمر الخارجي» الذي يتكرر في خطابات خامنئي. هذه الرواية تكشف عن قراءة تعد سوريا ملفاً من بين ملفات، لا ساحة وجودية كتلك التي يراها «الحرس الثوري» والمرشد.

من الناحية الجيوسياسية، كانت سوريا بالنسبة لطهران أكثر من حليف؛ كانت ممراً إلى لبنان وفلسطين، وساحة اشتباك مع إسرائيل، وخط دفاع متقدماً في مواجهة الولايات المتحدة. وتلخص عبارة مهدي طائب في 2013 - «إذا اضطررنا للاختيار فإن الأولوية تكون لحماية سوريا قبل خوزستان» - هذه العقيدة بوضوح.

اليوم، مع سقوط النظام الذي ارتبط بهذه العقيدة، تواجه إيران فراغاً في عمقها الإقليمي لا يمكن ملؤه بالشعارات وحدها. وهنا يصبح السؤال المركزي: كيف تتصرف طهران بعد أن فقدت النسخة التي صاغتها لنفسها من «خيمة المقاومة» في دمشق؟ الإجابة لا تأتي من خطاب واحد، بل من موازنة بين دوافع آيديولوجية راسخة، وقيود اقتصادية خانقة، وموازين قوى ميدانية لم تعد تميل لها كما في السابق.

ملصق نشره موقع المرشد الإيراني بعد آخر زيارة للأسد إلى طهران بينما كانت دمشق تتعرض إلى انتقادات بسبب تخليها عن «حزب الله»

رواية «الحساب المفتوح»

الرواية الرابعة جاءت من حيث لا يُفترض أن تأتي: من داخل المؤسسة نفسها؛ إذ خرج للمرة الأولى، من قلب البنية الرسمية توصيف شبه علني بأن العائد الاقتصادي من المغامرة السورية يكاد يكون معدوماً، وأن «الاستثمار» السياسي والأمني انتهى إلى ما يشبه الخسارة الصافية.

في مايو (أيار) 2020، قال حشمت الله فلاحت‌بيشه، الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، إن إيران أنفقت «بين 20 و30 مليار دولار» في سوريا، وإن «هذا مال الشعب ويجب استرداده».

بعد خمس سنوات، عاد فلاحت‌بيشه ليطلق اتهاماً أكثر مرارة: ديون سوريا لإيران - كما قال - سُويت عملياً عبر «أراضٍ بلا نفط، ومزارع أبقار بلا أبقار، ووعود فارغة».

هذا الصوت ليس استثناءً. على مدى عقد، ربطت شعارات الاحتجاجات الداخلية بين «غزة ولبنان وسوريا»، والخبز والوقود في المدن الإيرانية. ومع سقوط الأسد، صار من الأسهل على المنتقدين القول إن النظام أنفق عشرات المليارات، ودفع كلفة بشرية ملموسة بين مقاتليه وحلفائه، لينتهي إلى نفوذ شبه معدوم تقريباً في دمشق.

بالنسبة لصانع القرار، تتحول هذه الرواية إلى عامل ضغط داخلي ضد أي قرار بالعودة إلى سوريا بالحجم نفسه الذي كان عليه التدخل السابق.

عند جمع هذه الروايات المتوازية، يتضح التناقض الجوهري في المقاربة الإيرانية بعد سقوط الأسد: المرشد و«الحرس» لا يعترفان بأن إيران «خسرت سوريا»، بل يتعاملان مع ما جرى كمرحلة عابرة في مسار صراع أطول، ويصران على أن «جبهة المقاومة» قادرة على إعادة إنتاج نفسها، وأن سوريا ستعود، بطريقة ما، إلى هذا المدار. في المقابل، تكشف رواية الدبلوماسية الرسمية ورواية «الحساب المفتوح» عن إدراك ضمني بأن نموذج التدخل الذي طبق خلال العقد الماضي لم يعد قابلاً للاستمرار بصيغته السابقة، لا سياسياً ولا مالياً.

قائد «الحرس الثوري» يقدم إفادة لنواب البرلمان حول سقوط نظام بشار الأسد وخروج القوات الإيرانية يناير 2025 (موقع البرلمان)

السيناريوهات: هل تعيد طهران دمشق للمحور؟

في ضوء ما سبق، يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسية، ليست متنافية بالضرورة، بل يمكن أن تتداخل زمنياً وجغرافياً.

السيناريو الأول هو «العودة عبر الوكلاء». وهو الأقرب إلى منطق «الحرس الثوري» ومدرسة سليماني. هنا تحاول طهران إعادة بناء نفوذها في سوريا من أسفل، عبر شبكات محلية مسلّحة كانت نواتها موجودة أصلاً، أو عبر تجنيد مجموعات جديدة تحت شعارات مذهبية أو آيديولوجية. الهدف ليس استعادة نظام شبيه بالأسد، بل تكوين قوة ضغط دائمة على أي سلطة قائمة في دمشق، وأداة استخدام ضد الخصوم الإقليميين. نجاح هذا السيناريو يتوقف على عاملين خارج السيطرة الكاملة لإيران: مآل معادلة الحكم في دمشق، واستعداد المجتمع السوري لتحمل دورة عنف جديدة أياً كان اسمها.

السيناريو الثاني هو «التموضع الإقليمي من دون سوريا». وفق هذا المسار، تقبل طهران ضمناً بأن دمشق لم تعد محور ارتكاز لنفوذها كما كانت، فتُعيد توزيع مواردها على الساحات الأربع التي ما زالت تمسك ببعض خيوطها فيها، رغم تراجع دورها النسبي: لبنان، العراق، اليمن، وغزة. تتحول سوريا هنا إلى ساحة استنزاف ثانوية، يقتصر الدور الإيراني فيها على منع الخصوم من تحويلها إلى منصة تهديد مباشر، من دون الدخول في مشروع جديد لإعادة هندسة النظام السياسي.

وينسجم هذا المسار مع ضغوط الكلفة المالية والبشرية التي راكمها التدخل خلال العقد الماضي، لكنه يصطدم بحقيقتين أساسيتين: حاجة «حزب الله» إلى سوريا بوصفها ممراً لوجيستياً، واستمرار خطاب خامنئي في التعامل معها على أنها عنصر بنيوي في «جبهة المقاومة».

السيناريو الثالث هو «التسوية الرمادية». هنا لا تسعى إيران إلى فرض عودة صاخبة، بل إلى تسلل محسوب عبر اتفاقات موضعية مع القوى المسيطرة على مناطق مختلفة من سوريا، وعبر مشاريع اقتصادية أو أمنية محدودة. الخطابات التي يتحدث فيها خامنئي عن أن «الأيام لا تبقى على حالها»، وأن «الشباب السوري سيعيد التوازن» يمكن قراءتها كتهيئة لعودة تدريجية وغير صدامية، تتيح لطهران القول إنها ما زالت «حاضرة» من دون أن تتحمل كلفة الرهان على نظام واحد كما فعلت مع الأسد.

السيناريو الرابع هو «مأسسة الخسارة». في هذا المسار، تتعامل طهران مع فقدان سوريا على أنه أمر واقع، من دون محاولة جدية لاستعادة نفوذ ميداني، لكنها تحوله إلى ملف داخلي - عقائدي أكثر منه جيوسياسي، خصوصاً في ضوء السردية التي تبنتها بعد الحرب الـ12 يوماً مع إسرائيل في يونيو (حزيران) 2025. تعاد تجربة سوريا وتؤطر ضمن خطاب «المؤامرة على جبهة المقاومة»، وتستخدم ذريعة لتشديد القبضة الأمنية، وتقييد النقاش حول كلفة التدخلات الخارجية، وتجريم الربط بين الإنفاق الإقليمي والأزمة المعيشية.

في المقابل، تبقي إيران على حضور رمزي منخفض في الملف السوري (لغة الشهداء، العتبات، حراك دبلوماسي شكلي)، فيما تطوى عملياً صفحة «المشروع السوري» بوصفه عمقاً استراتيجياً، من دون إعلان هزيمة صريحة، بل عبر تغليفها بلغة «الابتلاء والصمود»، ودفعها تدريجياً إلى هامش أجندة صنع القرار.

في كل هذه السيناريوهات تبقى حقيقة واحدة ثابتة: سوريا، التي نظر إليها يوماً على أنها أهم من «الأحواز» و«الهوية المميّزة للمقاومة»، لم تعد، في ميزان الواقع، ما كانت عليه قبل الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. يمكن للمرشد أن يراهن على الزمن، ولـ«الحرس» أن يفتش عن فتحات جديدة في الجغرافيا السورية، وللخارجية أن تلمّع لغة بياناتها، وللمنتقدين أن يتحدثوا عن «أراضٍ بلا نفط».

لكن السؤال المعلق فوق كل نقاش في طهران سيظل واحداً: هل تستطيع إيران أن تتحمل مغامرة ثانية بهذا الحجم في سوريا، بعد أن خرجت من الأولى وهي تحاول إقناع نفسها بأن «خيمة المقاومة» ما زالت قائمة، فيما عمودها السوري مكسور؟


كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
TT

كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)

«في تلك الليلة لم يُكسر قفل محل واحد في حينا»، يقول وائل، طبيب في الأربعين من عمره، وهو يقف أمام عيادته الصغيرة في شارع بغداد وسط دمشق. يروي لحظة لن ينساها من يوم 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024: «شاهدنا لصوصاً في طريقهم لاقتحام البنك المركزي في ساحة السبع بحرات. كنا بين صدمة وخوف وفرح، ثم أدركنا أن أحداً لن يحمينا... فبدأنا نحمي أحياءنا بأنفسنا».

كانت تلك الساعات الأولى بعد انهيار نظام بشار الأسد، حين عم الخوف وبات شبح الفوضى يخيم على المدينة. لكن دمشق، بطريقة ما، حمت نفسها.

نور الدين ترجمان، المعروف بـ«أبو جبريل»، أحد أبرز المتطوعين في لجنة حماية الجسر الأبيض والروضة القريبين من المقرات الأمنية والقصر الرئاسي، يتذكر ما حدث عند الثانية بعد منتصف الليل: «شاهدنا عناصر من النظام السابق يخلعون بزاتهم ويرمونها في حاويات القمامة قبل أن يفروا». بعد دقائق، وصلت مجموعات مسلحة على متن سيارات وشاحنات ودخلت المقر الأمني المعروف بـ«قسم الأربعين».

نهبوا كل شيء؛ السلاح، الحواسيب، الأقراص الصلبة، الوثائق، وحتى خزانات الوقود. لكن رغم موقع القسم وسط السوق التجارية والفوضى التي غمرتها، لم تُقتحم أي من المحال.

يقول أبو جبريل لـ«الشرق الأوسط»: «إن أطفالاً كانوا يلعبون بالسلاح والقذائف وسط إطلاق نار. الأهالي عاجزون عن التدخل. لكن عندما اندلع حريق داخل القسم، هرع الناس لإخماده خوفاً من انفجار أكبر». لم تهدأ المنطقة إلا مع وصول عناصر من «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر.

حارس أمام علم في ساحة باب توما (رويترز)

قناص في «واتساب»

مع اتساع حوادث السرقة، خصوصاً السيارات، بدأ شباب الحي، وبينهم أطباء ومهندسون وأصحاب محلات وطلاب جامعيون، يتجمعون. يقول أبو جبريل: «بعد عشرين يوماً من سقوط النظام بدأ العمل ينتظم». وارتفع عدد المتطوعين من 75 إلى نحو 300. اشتروا أجهزة اتصال، وقسموا إلى مجموعات، وزودتهم السلطة الجديدة بقطعتي سلاح لكل مجموعة مع كلمة سر للتعريف.

واعتمدت اللجان على مجموعات «واتساب» للتواصل بين أفراد اللجان أنفسهم، وبين اللجان والأهالي. في بعض الأحياء تجاوز عدد المشتركين الآلاف. كانت المشاركة شخصية ومباشرة للإبلاغ عن تحركات مريبة، تصوير السلوكيات الخطرة، والمراقبة المستمرة.

ولا تخلو تلك المجموعات من خروقات، كما حصل لدى اكتشاف قناص من النظام السابق ضمن لجان الحماية نفسها.

القصاع وباب توما

في حي القصاع ذي الغالبية المسيحية، بقي الخوف من التجييش الطائفي حاضراً، خاصة بعد كتابة عبارات طائفية على جدار كنيسة القديس كيرلس. يوسف، أحد شبان «الفزعات» في باب توما والقصاع، يقول إن المتطوعين لعبوا دوراً حاسماً في احتواء الانفلات الأمني منذ اللحظة الأولى: «بدأت الفوضى عند الخامسة فجراً واستمرت حتى الثانية ظهراً. كانت المؤسسات الأمنية والحكومية تُنهب بالكامل، بعضها تعرض للحرق مثل مبنى الهجرة والجوازات في الزبلطاني». ويضيف: «رأيت أطفالاً يعرضون أسلحة للبيع ولصوصاً يسرقون السيارات».

أغلق شباب الحي الحارات بالسيارات حتى وصول «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر. الخوف الأكبر كان من احتمال وقوع مجازر. يقول يوسف: «فجأة وجدنا أنفسنا أمام مسلحين (...) ذهبنا إليهم وطلبنا وضع حد للفوضى. وكانوا متعاونين».

وبحسب شهادة يوسف، فإن أعمال العنف لم تحدث بالمعنى المنظم في الأشهر الأولى، بل كانت هناك حوادث بالفعل واستفزازات، بسبب الخوف المسبق وسوء الفهم والجهل المتبادل بالآخر.

رفض أهالي الأحياء المسيحية تسلم السلاح من السلطة الجديدة خشية أن يجر ذلك إلى «خراب»، مفضلين الاعتماد على «الكثرة العددية» في حال حدوث طارئ، واللجوء إلى قوى الأمن لمواجهة الخطر عند الحاجة. وقد ساعد ذلك في إحباط هجوم مسلح والتصدي لسيارات رفعت شعارات طائفية.

سيدة سورية تُلوِّح بعلامة النصر حاملة باقة ورد في «ساحة الأمويين» بدمشق احتفالاً بإعلان إطاحة الأسد (أرشيفية - أ.ف.ب)

«أوقفنا 200 لص»

بعد عام على سقوط النظام، يقول سكان من الجسر الأبيض إن لجان المجتمع الأهلي التي تشكلت لعبت دوراً أساسياً في سد الفراغ الأمني إلى حد ما، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى، مشيرين إلى أن أكثر من 200 لص أُوقفوا في ذلك الحي وحده.

محمد الفقي يروي: «في تلك الأشهر عملنا في كل شيء؛ تنظيم السير، الحراسة، ملاحقة العصابات، الإسعاف، تأمين ذهاب الأطفال للمدارس. لم يكن هناك خيار آخر لحماية أهلنا».

ويضيف الفقي أن التحدي الأكبر كان غياب القدرة على التمييز بين رجال السلطة الحقيقيين ومنتحلي الصفة.

يضحك أبو جبريل وهو يستعيد ذكريات الأسبوع الأول: «كنا مجانين. نحمي الحي بلا سلاح ولا تدريب. تعرضنا لإطلاق نار مرات عدة، ومع ذلك واصلنا السهر كل ليلة على أمن الحارات».

هكذا، في تلك الليلة الرهيبة التي سقط فيها نظام بشار الأسد وعمت الفوضى، لم تنزلق دمشق إلى الهاوية التي خاف منها الجميع. وقام أهلها بحمايتها عبر ارتجال قرار جماعي.