علم الاجتماع العربي ضد مجتمعه

بين الإسلام والحداثة

علم الاجتماع العربي ضد مجتمعه
TT

علم الاجتماع العربي ضد مجتمعه

علم الاجتماع العربي ضد مجتمعه

أخذ النقاش المتعلق بالإسلام والحداثة حيّزًا مهمًا في أدبيات الفكر العربي المعاصر. وكغيره من الإشكاليات التي طرحتها الدولة الحديثة، تحولت المعالجة العلمية لطبيعة العلاقة القائمة بين الدين وآيديولوجية الحداثة، لمجرد صراع بين الأدبيات القومية العسكرية، والليبرالية التبعية، والإسلامية التراثية. ومن هنا حقّق الصراع الآيديولوجي للتيارات تراكمًا انشطاريًا في الوعي النخبوي، والواقع المجتمعي للدولة القطرية، من دون أن يحقق فهما سلسا لقدرة الإسلام الفائقة على الاستيعاب الحضاري، والتسامح العقدي، والندية القيمية. كذلك أدت العقلية الصدامية الماركسية خصوصًا واليسارية العربية عمومًا، إلى عدم إدراك تاريخ المسلمين باعتباره خبرة مجتمعية، لها تقاليدها المجتمعية ومدركاتها الخاصة القادرة على تجاوز التراث القديم، والحداثة الملتبسة بالعَلمنة. وأنها تختلف مرجعيًا مع آيديولوجية القطع المنهجي، التي روج لها الفلاسفة الغربيون، والتي انتقلت لعلم الاجتماع المعاصر.
من المؤسف فعلاً أن السوسيولوجية العربية المعاصرة، التي تسلط الضوء حاليًا على الدين الإسلامي، وتنامي ظاهرة الإرهاب، تحولت بفعل الآيديولوجية اليسارية المستحكمة في وعي الباحثين، إلى نوع من الحرب المفتوحة على الدين والحداثة معًا. فلم تعد السوسيولوجية العربية قادرة على كشف مسار تطور المجتمع العربي، ولا هي قادرة على تفسير طبيعة مسلكيات ومعيوش فئاته المؤثرة في الدولة، سواءً كانت هذه الفئات نخبًا تجارية اقتصادية، أو دينية، أو سياسية مدنية، أو عسكرية.
ذلك أن مُسَلّمات القطع المنهجي المزعوم، لا تجعلنا أمام فصل تام بين الإسلام والحداثة، وإنما تؤكد أن الحداثة هي المرجعية النهائية ومصدرها تأله البشر، والدين مجرد تماس بين الإله والإنسان. والغريب أن هذه المُسَلّمة تعود لمرجعية علم الكلام الكاثوليكي في تناوله لقضايا الحداثة والدين، واستمرت إلى يومنا. ولقد عبّر عنها المفكرون الكبار تيرل وهيدغر وكانط بأشكال مختلفة، واعتبر بول ريكور في مشروعه حول «هرمينوطيقيا الذات»، بأن «الذات نفسها هي الآخر»، ووصل الأمر بميشال فوكو لتحديد الأنظمة المعرفية إبيستيمولوجا في العقل الغربي، وتقسيمها إلى ثلاث مراحل. العصر القديم، ثم النهضة، وثالثا العصر الحديث، ونحن اليوم نصير حسب فوكو لموت الإنسان.
في ظل هذا التأطير «الشمولي» الحداثي للإنسان، وجد علم الاجتماع العربي نفسه تائها وسط العالم المحسوس والمعيوش خبرة وتاريخًا وعالم مأمول يراد فرضه بأدوات العلم العاجزة تارة، وبالدولة العسكرتارية تارة أخرى. وبينما تسير مدرسة علم الاجتماع العربي في هذا المسار المسدود، تقترح علينا خبرتها المأزومة لتناول الدين والظاهرة الإرهابية، والمشاركة السياسية، وبروز الحراك الشبابي العربي في بيئة أخفقت فيها النخبة، عامة، على إدراك الاتجاهات الجديدة للتحولات الاجتماعية وتقاطعاتها الداخلية، وبتأثيرات الخارج عن المنظومة المجتمعية العربية المعاصرة.
أكثر من ذلك، ظل علم الاجتماع العربي وهو يناقش قضايا الدين والحداثة، غير قادر على تفسير عجز الحداثة على اختراق المجتمع العربي، وبقائها سطحية، تسلطية وأمنية. وفي الغالب لم تنجز غير مؤسسات اجتماعية صورية، وبنية بوليسية دموية، أنتجت بدورها جماعات الإرهاب الديني، في إطار صراع إرادات التطرف في الدولة القطرية العربية المعاصرة.
لقد كانت الرؤية هذه «العلمية» أحد الأسباب الحقيقية للانحراف الديني، ولا يعود ذلك لاستقدام بنية معرفية إبستيمولوجية من الخارج وحسب، بل تحوّل البنية لأداة فعالة لفصل المجتمع عن تاريخه الديني الاجتماعي. ولأن هذا حصل بشكل متفاوت في مصر منذ سيطر الجيش على السلطة في عهد جمال عبد الناصر، وكذلك في العراق وسوريا البعث، وكذلك في تونس منذ بدأ بورقيبة مشروعه الحداثي، ولأن المجتمع العربي لا يعيش في النظام المعرفي المغلق للنخب، فقد كانت ردود فعله الدفاعية هي «استنهاض» واستدعاء العنف الديني ضد العنف الحداثي المعَلمن، والمتسلح بأسلحة الجيش والأمن وبآيديولوجية الحداثة. ولو أمعنّا النظر في مختلف أدبيات علم الاجتماع العربي المعاصر، لوجدناها تعبر عن «مشروع نقدي للمجتمع والدين». غير أن سلطتها المعرفية لم تكتسبها من دراستها للمجتمع العربي وتراثه، وتنوعه وخبرته وكسبه المجتمعي، بل أنها تتسلح بمزاعم، أولها، كونها الفئة العالمة بما وصل إليه الفكر الغربي من تقدم علمي ومعرفي.
والغريب أنها تفعل هذا في حقل علم الاجتماع، مع يقينها أن دراسة المجتمعات لا يكتنفه التعقيد في التباين الحضاري التاريخي. بل أن استجلاب نظريات علم الاجتماع ومفاهيمه، ومناهجه، يجد معارضة داخلية في بنية تشكل هذا العلم نفسه. وذلك لأن علم الاجتماع يدرس الإنسان في محيطه، مستحضرا لتركيبة المجتمع، بل كذلك، والأهم دراسة مرتكزات ما قبل الوعي الجماعي، باعتباره المشترك الرئيس الذي يجمع الجماعة، ويحولها لجماعة جامعة، في دولة معينة.
إن الإسلام في عالم الحداثة اليوم، استطاع أن يبقى صامدًا، وأن ينتقل لعمق الحضارة الغربية الحداثية، ويسمها بطابعه العقدي والثقافي والاجتماعي من خلال الجالية المسلمة في الغرب. وهو ما تطور مع الجيل الرابع، وتحوّل لظاهرة اجتماعية لم تعد منعزلة عن عالم الحداثة الأصلي، ومركز الدولة القطرية الحداثية.
وإذا كانت الأدبيات السوسيولوجية السياسية الغربية تحاول دراسة هذه الظاهرة الجديدة عليها، فإن ذلك يتطلب من النخب العربية تحاشي نقل الأدوات العلمية من سياق لآخر. ذلك أن للإسلام في عالم الارتكاز الحضاري للحداثة فعاليته ونشاطا اجتماعيا يختلف على ما خبره في الشرق من تماهي العقل والدين عبر قرون ممتدة شكلت مدركات عامة جماعية غير قابلة للتقويض حتى ولو استعمل العنف باسم الحداثة ضد المجتمع.
ضمن هذا الإطار يمكننا تفسير سبب التحوّل الاجتماعي في المجتمع التونسي، الذي يعد أول مجتمع من حيث تصدير المقاتلين لتنظيمي «القاعدة» وداعش. فعلى الرغم من قدم فرض مشروع الحداثة المتصلّبة على التونسيين، فإن مساراتها أنتجت الإرهاب والتطرّف الديني. ذلك أن آيديولوجية الحداثة لا تخلق مساومات وتوافقًا اجتماعيًا منسجمًا مع نسيج الوعي الديني المحلي، بل تتجه مباشرة لتفكيك المرجعية الجماعية للجماعة، ما يجعل من رد الفعل حداثيًا وصراعيًا صرفًا، وأن تتلبس بالدين الإسلامي.
إن عدم إدراك مدرسة علم الاجتماع العربي منذ البداية للأسس العلمية لعلم الاجتماع الغربي، حوّلها إلى مدرسة تجرّ الهزائم في ظل عجز بين في تفسير ما يقع في محيطها المجتمعي، وما يقع من تطورات أكاديمية في الغرب نفسه. والأخطر من ذلك تحولها إلى مجرّد أداة آيديولوجية تخدم المؤسسات البحثية الغربية الرأسمالية الخاصة.
إن أغلب ما يُتداول في المجال البحثي العربي اليوم، نجده إما استجابة غير واعية لتحدي الدراسات السوسيولوجية الغربية الخاصة بالإسلام والحداثة والإرهاب، وإما متعلقا بظاهرة التخلف العربي والمشرقي، وإما دراسة القبيلة والعشيرة بمنظور ينتهي لضرورة تفكيكهما باعتبارهما أدوات المجتمع لصد الحداثة.
وحتى من كان يدافع عن «السوسيولوجية الفيبيرية» (نسبى إلى فيبير)، ويعدها النموذج المثالي، سقط في فخ الآيديولوجية الإرشادية المعولمة، واستهلك جهوده التفسيرية في الدفاع عن علمنة يراد لها أن تكون دينية، في وسط عربي ينبذ العلمانية كفلسفة ورؤية للعالم. وبالأحرى، القبول بتأميم الدين ومؤسساته التي صنعتها الدولة التحديثية التسلطية العربية.
ولا يخفى على الباحثين العرب، أن هذا الموقف الآيديولوجي الذي يتبناه علم الاجتماع العربي المعاصر، قد حوّله «لعلم تجارة»، خاضع عموما، للدولة غير الديمقراطية بالداخل، وللمؤسسات الأجنبية للدول الكبرى. ومن هنا فقد استقلاليته في التعبير عن كينونته الحضارية، وقدرته في إبداع مفاهيم ومناهج، قادرة للتصدي للظواهر الاجتماعية، وأهمها: ظاهرة الإرهاب، وانفصال واتصال الدين بالحداثة.
* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.