يحتاج الإرهابيون إلى الجمهور تماما مثل وكالات الأنباء، ولقد عمد كلاهما إلى تكييف الأساليب والطرق الهادفة إلى جذب انتباه الناس. محمد ميره، مجرم صغير يبلغ من العمر 23 عاما، قضى الـ36 ساعة الأخيرة من حياته عاكفا على حاسوبه المحمول في شقته الصغيرة بمدينة تولوز في جنوب غربي فرنسا. كان الوقت هو شهر مارس (آذار) من عام 2012. وفي الخارج، تجمعت قوة من رجال الشرطة المسلحين برفقة جمع من الصحافيين. أعاد ميره تسخين بعض الأطعمة المجمدة في جهاز الميكروويف خاصته وتحقق من أسلحته الشخصية. تحدث مع المفاوضين ووصف كيفية سفره إلى باكستان قبل بضعة أشهر للحصول على بعض التدريبات العرضية على أيدي إحدى الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة الإرهابي. كما أوضح، بطريقة غير متسقة، السبب وراء إقدامه على قتل 7 أشخاص خلال الأسبوعين الماضيين في سلسلة من حوادث إطلاق النار التي ارتكبها. ولكن في أغلب الأوقات، كان ميره يتابع عمله عبر حاسوبه المحمول.
قبل بضع ساعات من مقتله على أيدي قوات الشرطة المسلحة بعد تبادل مطول لإطلاق النار، كان ميره قد انتهى من تحرير شريط فيديو مدته 24 دقيقة. وكان عبارة عن تجميع للصور من كاميرا موديل (GoPro) تلك التي ربطها بالدرع الواقي الذي يرتديه قبل ارتكاب كل حادثة من حوادث القتل المذكورة. تعتبر تلك الكاميرا من الموديلات المفضلة لعشاق ممارسة الرياضات الخطرة والذين يرغبون في تصوير اللقطات الصعبة في اللحظات المثيرة والخطيرة. كان ميره يصور استعداداته، ويصور الضحايا أنفسهم، وأساليب هروبه مستخدما دراجته البخارية المفضلة. كان أول ثلاثة من ضحاياه جنود خارج الخدمة العسكرية، اثنان منهم مسلمان وواحد كاثوليكي، بحسب تقرير في «الأوبزرفر». أما باقي الضحايا، وهم حاخام وثلاثة من الأطفال، كانوا قد لقوا حتفهم عندما هاجم ميره إحدى المدارس اليهودية في المدينة. وأظهرت الصور كيف أن ميره طارد وأمسك بأحد هؤلاء الأطفال: وهي الطفلة ميريام مونسونيغو التي تبلغ من العمر 8 سنوات فحسب، والتي ترددت للحظة أثناء فرار الآخرين حيث كانت تحاول إنقاذ حقيبتها المدرسية الصغيرة. أمسك ميره بالطفلة من شعرها، وحاول تغيير سلاحه عندما تعطل، ثم أطلق النار في نهاية المطاف على رأس الفتاة الصغيرة.
تمكن ميره، خلال 24 ساعة تقريبا من عثور الشرطة على مسكنه ومحاصرة القوات له، من التسلل عبر ثغرة غير مؤمنة في الطوق الأمني المضروب حول المنطقة. ولكنه لم يستغل الفرصة للهروب. بدلا من ذلك، انطلق سيرا على الأقدام إلى أحد صناديق البريد القريبة، وترك مظروفا صغيرا يحمل رقاقة من رقاقات الذاكرة تضم الفيديو المشار إليه، ثم عاد إلى منزله في انتظار لحظته الأخيرة.
كان المظروف الملقى في صندوق البريد موجها إلى شبكة «الجزيرة» الفضائية القطرية. وكان ميره متيقنا من أن قناة «الجزيرة» سوف تذيع المادة الفيلمية المصورة بسبب، كما يقول بنفسه، أن تلك القناة تلهث وراء إذاعة ونشر المذابح والتفجيرات وغيرها من الفواجع. وفي حقيقة الأمر، لم تبث قناة «الجزيرة» أي شيء من الفيديو المذكور، بسبب أن القناة قالت في بيان أذاعته، بأن ميره لا يضيف معلومات جديدة غير متوفرة بالفعل في المحيط العام.
لم يكن لقرار الشبكة القطرية من تأثير يُذكر للحد من تيار أعمال العنف المروعة التي تم نشرها من قبل الجماعات والشخصيات الارهابية خلال السنوات الأخيرة. ومنذ مقتل ميره، وصل بث ونشر المواد والصور المروعة والمفجعة حدودا لم يسبق لها مثيل. والأغلب يرجع إلى ظهور تنظيم داعش الإرهابي، والذي أطلق حملته الدموية من أجل تأمين جيب متطرف له في شرقي سوريا وغربي العراق في نفس الوقت تقريبا الذي كان ميره يخطط لتنفيذ هجماته البشعة. ولكن الكثير من تلك المواد والصور جاء أيضا نتيجة للقدرات التقنية الجديدة التي أصبح التنظيم الإرهابي يستغلها في أعماله.
لم توفر التقنيات الجديدة سهولة إنتاج المواد الدعائية فحسب – ولكنها سهلت أيضا من نشر هذه الأفلام والصور على نطاق واسع. حيث اشتملت الفيديوهات الصادرة عن تنظيم داعش عمليات إعدام عمال الإغاثة الغربيين، والصحافيين، والجواسيس المزعومين، والمثليين المشتبه فيهم، والطيار العسكري الأردني، والعمال المهاجرين المسيحيين، وغيرهم. تعرض بعضهم لقطع الرأس بوحشية، وأطلق النار على آخرين، وتم تفجير بعضهم، أو إلقائهم من المباني العالية، أو حرقهم أحياء. يمكن الاطلاع على عينة تمثيلية لتلك الفيديوهات، وهي غير خاضعة للرقابة تماما، من خلال بضع نقرات بسيطة على الجهاز الذي في جيبك أثناء قراءتك لتلك السطور. وأحد تلك الأفلام يوجد على موقع إحدى الصحف الشعبية البريطانية بعد إعلان لقضاء العطلات العائلية. ولقد أزيلت مشاهد القتل الفعلية.
على الرغم من أنه لا يمثل إلا جزءا صغيرا من الإنتاج الدعائي الضخم لـ«داعش»، فإن هذه المادة كان لها تأثير غير متناسب مقارنة بالمواد الأخرى، وكما كان مخططا له. كانت الكثير من الأفلام تخدم غرضا مزدوجا، وهو إلهام مجموعة معينة من الناس في حين يثير الاشمئزاز لدى مجموعة أخرى. أحد الفيديوهات يبرز التغطية الإخبارية التلفزيونية لهجمات باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) والتي خلفت 130 قتيلا. ثم يواصل الفيديو لقطاته لبعض الرجال الذين كانوا مسؤولين عن الهجمات، والذي تم تصويره في سوريا قبل العملية.
وكانوا يرتدون ميكروفونات طيلة التصوير ويصدرون التهديدات ضد الغرب قبل أن يقوموا بذبح السجناء بالسكاكين. وأظهر فيديو آخر طفلا، وربما هو نجل مواطن بريطاني ويعيش الآن في سوريا، يقوم بتفجير شحنة من المتفجرات أدت إلى نسف سيارة كان على متنها أربعة من الجواسيس المزعومين. وأظهر شريط فيديو آخر منافسة بين أطفال صغار يركضون خلال متاهة للوصول إلى الأسرى الذين أطلقوا على رؤوسهم النار في النهاية. أصبح العنف المصور في هذه الأفلام أكثر فجاجة وتكلفا، وصارت تصميمات الوحشية والعنف فيها أكثر تفصيلا على نحو متزايد.
كيف للإعلام المتغير أن يغير الإرهاب؟
المتطرفون يسعون لاستخدام الكاميرات لتسجيل أعمالهم وجذب الجمهور
كيف للإعلام المتغير أن يغير الإرهاب؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة