من يربح الأوسكار ومن قد يكتفي بالفرجة؟

قبل ساعات من انطلاقه

ليوناردو ديكابريو في «المنبعث»: الحظ الأوفر بين الممثلين -  بري لارسون من أبرز المرشحات عن «غرفة» - من اليمين: مايكل كيتون ومارك روفالو وراتشل ماكأدامز في «سبوتلايت»
ليوناردو ديكابريو في «المنبعث»: الحظ الأوفر بين الممثلين - بري لارسون من أبرز المرشحات عن «غرفة» - من اليمين: مايكل كيتون ومارك روفالو وراتشل ماكأدامز في «سبوتلايت»
TT

من يربح الأوسكار ومن قد يكتفي بالفرجة؟

ليوناردو ديكابريو في «المنبعث»: الحظ الأوفر بين الممثلين -  بري لارسون من أبرز المرشحات عن «غرفة» - من اليمين: مايكل كيتون ومارك روفالو وراتشل ماكأدامز في «سبوتلايت»
ليوناردو ديكابريو في «المنبعث»: الحظ الأوفر بين الممثلين - بري لارسون من أبرز المرشحات عن «غرفة» - من اليمين: مايكل كيتون ومارك روفالو وراتشل ماكأدامز في «سبوتلايت»

إذًا… هذه هي الليلة الكبيرة هل تطرق الباب، أم تغلقه؟
حفلة توزيع جوائز الأوسكار الثامنة والثمانين هذا المساء ستفتح باب النتائج التي طال الحديث عنها هذا العام، وكلما منحت جائزة في أي من فروعها الكثيرة، كلما تقدّمت خطوة صوب إغلاق ملف صعب شابه الكثير من المواقف المتشنجة منذ أن أعلنت الترشيحات. لحين، بدا أنه لا شيء آخر مهم. لم يعد الحديث عمن سيربح أو من سيخسر في هذه الليلة، بل من سيحضر ومن سيغيب من ناحية وكيف سيقدم، الممثل كريس روك الحفل.
فقط في الأيام الأخيرة الماضية خف، على نحو ملحوظ الكلام حول مسألة انحصار ترشيحات الأفلام والممثلين على البيض وحدهم. عاد الجو التنافسي بالصعود. وتذكر الإعلام أن مصائر المشتركين في السباق معلّـقة بعدد الأصوات التي نالها كل واحد منهم وأن الحفل، إذ اقترب، قد يحفل بخليط من النتائج بعضها متوقع وبعضها الآخر غير متوقع.
ما سيلي هو أقرب الاحتمالات لما هو مطروح ونتيجة لتحليلات خاصّـة. بدورها، قد تصيب وقد تخطئ، كون الاحتمالات أكثر من أن تحصى.

* أوسكار أفضل فيلم
إذا كانت الشكوى من أن معظم أعضاء الأكاديمية ممن تجاوز الخمسين وأن لغالبية هؤلاء آراء محددة تميل إلى التقليد منها إلى التجديد، فإن ثلاثة أفلام من الأفلام الثمانية المرشّـحة هذا العام هي الأقرب إلى حظوظ الفوز، أو هكذا من المفترض بها أن تكون.
هذه الأفلام هي «المنبعث» و«جسر الجواسيس» و«المريخي». الأول حكاية نضال فردي للبقاء على قيد الحياة في إنتاج كبير دائمًا ما ميّـز هوليوود عن كل سينمات العالم. الثاني، فيلم جاسوسي بمعايير السينما الكلاسيكية ذاتها، وبموضوع يعود، سياسيا، إلى فترة الحرب الباردة التي عاشها المنتخبون شبابًا. ثم الثالث، فيلم «تقليدي» من الخيال العلمي. لا مفاجآت فنية فيه لكنه يتحدّث لغة المخضرمين من أبناء المهنة.
الواقع أن جوائز الأوسكار تُـمنح غالبًا لأفلام تحفظ سماتها الإنتاجية، وفي الكثير من الأحيان التقليدية حتى عندما لا تكون المعالجة تقليدية (كفيلم أوسكار العام الماضي «بيردمان») أو عندما يكون الموضوع نقديًا (كفيلم أوسكار العام الأسبق «12 سنة عبدًا»). في هذا الإطار وحده فإن «المنبعث» هو الأكثر حظّـًا في الفوز حتى مع اعتبار أن البعض سيتذكر أن مخرج الفيلم، أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، نال أوسكاره الأول قبل سنة واحدة عن «بيردمان».
تبعًا لاعتبار السن فإن باقي الأفلام ستتزحلق قبل الوصول إلى الخاتمة: «بروكلين» العاطفي و«غرفة» التشويقي و«التقصير الكبير» The Big Short الساخر و«سبوتلايت» الانتقادي للكاثوليكية. الوحيد الذي يقف على الحافة بين التقليد والابتكار هو «ماد ماكس: طريق الغضب» لكن «المنبعث» هو أفضل منه بوضوح وهو ما يجعل حظوظه متعثرة.
- سيفوز: «المنبعث» The Revenant
- قد يفوز: «ماد ماكس: طريق الغضب» Mad Max‪:‬ Fury Road
- لن يفوز: «غرفة» Room
- تفضيل الناقد: «المنبعث».

* أوسكار أفضل مخرج
لا يمكن منح فيلم مثل «المنبعث» أوسكارًا وإغفال مخرجه من الأوسكار.
فنيًا، هناك الكثير مما يعزز أحقية أليخاندرو إيناريتو بأوسكار أفضل مخرج. هذا فيلم بدني الجهد وعقلاني الجوهر معًا. ليس مجرد مغامرة وسترن مع مطاردة وقتال ثم مطاردة مرّة أخرى. بل هو وصف لحقبة من التاريخ التي غزا فيها البيض الغرب الأميركي البكر مواجهين المواطنين الأصليين لأميركا، وكما صرخ بيرت رينولدز في فيلم جون بورمان المبهر «خلاص» (الذي من السهولة إيجاد خيوط مشتركة بين ذلك الفيلم السبعيناتي والفيلم الجديد) «أين القانون؟» فإن «المنبعث» هو عن حياة لا قانون فيها. الجميع كان يستطيع أن يفعل ما يريد بمن يريد. موقع الأحداث وكيفية تصوير الفيلم وتحريك الممثلين والكاميرا في آن واحد هو الجهد البدني الذي يواكب تلك الأفكار الإنسانية. لا أحد من المخرجين الآخرين غادر موقعه المطمئن. توم ماكارثي مخرج «سبوتلايت» أفضل الباقين. أنجز دراما مدينة مستمدة من ملفات واقعية بنفس انتقادي مدروس. أدام ماكاي صاحب «التقصير الكبير» لعب على الموضوع الجاد ومنحه بعض السخف والضحك معًا. ليني أبراهامسون جعل من «غرفة» عملاً نصفه محبوس في غرفة واحدة من امرأة وابنها. أما جورج ميلر فأحسن إنجاز فيلم مطاردات. الوحيد الذي لم يكتفِ بالمتوقع هو إيناريتو.
- سيفوز: أليخاندرو غونزاليس إيناريتو
- قد يفوز: جورج ميلر
- لن يفوز: ليني إبراهامسون
- تفضيل الناقد: إيناريتو
* أوسكار أفضل ممثل في دور رئيسي
كما ذكرت في تحليل سابق، فإن المرشحين الخمسة في هذا السباق (وهم إيدي ردماين وبرايان كرانستون ومايكل فاسبيندر ومات دامون وليوناردو ديكابريو) ينقسمون بين من أدّى دورًا خياليًا ومن أدّى دورًا مبنيًا على الواقع. لكن ما لم يذكر هو أن الممثلين الذين أقدموا على اقتباس شخصيات واقعية اقتبسوها بدرجات متباينة. في الواقع ليس هناك سوى شخصية كاملة من الخيال هي تلك التي يؤديها مات دامون في «المريخي». هذه ليست قائمة إلا على غزل بنات أفكار المؤلف. حتى شخصية ليوناردو ديكابريو عن «المنبعث» مستوحاة من قصّـة حقيقية، لكن أداء ديكابريو متحرر من التشابه مع أي أصل (على نحو طبيعي لأننا نعرف عن تلك الحقبة أكثر مما نعرف عن شخصياتها). إيدي ردماين يقع في منتصف المسافة. شخصيته في «الفتاة الدنماركية» واقعية وتستند إلى «الحقيقة» قدر الإمكان، لكنها مرتبطة بالقدر نفسه باختيار الممثل لكيفية تمثيلها وتلوينها. الأكثر قربًا هما مايكل فاسبيندر عن ستيف جوبز وبرايان كرانستون عن ترامبو. الجميع جيّـد، بلا ريب، لكن الوحيد الذي تجاوز مجرد الجودة إلى البذل (رغم أن المخرج قصّـر معه على صعيد بلورة شخصيته) هو ليوناردو ديكابريو.
- سيفوز: ليوناردو ديكابريو
- قد يفوز: مايكل فاسبيندر
- لن يفوز: مات دامون
- تفضيل الناقد: ليوناردو ديكابريو
* أوسكار أفضل ممثلة في دور رئيسي
حتى الآن، هذا السباق هو الأصعب استنتاجا. كايت بلانشيت عن «كارول» تملك زمام الشخصية الكلاسيكية في أحداث تقع في الخمسينات، لكن ساويريس رونان تملك القدر نفسه من الموهبة في أحداث تقع في فترة متقاربة في «بروكلين» وتضيف إلى احتمالاتها أنها شابة. بري لارسون عن «غرفة» عززت موقفها مؤخرًا بفوزها بجائزة «بافتا» عن ذلك الفيلم بعد أن نالت جائزة «غولدن غلوبز» أيضًا عن هذا الدور. شارلوت رامبلينغ تمنح الشاشة أشباحًا من أداءاتها المؤثرة الماضية في «45 سنة» أما جنيفر لورنس فتعيد صياغة نفسها خارج إطار أفلام المغامرة. على عكس القسم الرجالي، كل الشخصيات هنا أدّت أدوارًا خيالية.
- ستفوز: بري لارسون
- قد تفوز: ساويريس رونان
- لن تفوز: جنيفر لورنس
- تفضيل الناقد: لا أحد.
* أوسكار أفضل ممثل مساند
حتى الساعات الأخيرة فإن السباق حامي الوطيس في هذا القسم أكثر من سواه. ثلاثة جياد تنطلق في خطوط متوازية: مارك روفالو عن «سبوتلايت» (مشهد واحد في الفيلم يؤهله أكثر من سواه لكنه جيد في كل المشاهد)، مارك رايلانس عن «جسر الجواسيس» وسلفستر ستالون عن «كريد». والمقارنة بين هذه الأداءات مفيدة كما طريفة: مارك روفالو أفضلهم. مارك رايلانس جيد لكنه خافت أكثر من اللزوم بالنسبة للبعض. أما ستالون فهو مثل الحصان الذي انطلق بلا حظ ثم صارت كل الحظوظ عنده. ماذا عن توم هاردي عن «المنبعث» وكريستيان بايل عن «التقصير الكبير»؟ الثلاثة الأول في المقدّمة.
- سيفوز: سلفستر ستالون
- قد يفوز: مارك رايلانس
- لن يفوز: كريستيان بايل
- تفضيل الناقد: مارك روفالو
* أوسكار أفضل ممثلة مساندة
المنافسة الأكبر هي بين البريطانيّـتين كايت وينسلت عن ستيف جوبز وأليسيا فيكاندر عن «الفتاة الدنماركية» وروني مارا عن «كارول». لكني من الذين لا يعتقدون أن فيلم «كارول» بمن فيه (وهو خسر التنافس كأفضل فيلم وكأفضل مخرج) سيحقق معجزة هنا. راتشل أدامز عن «سبوتلايت» جيّـدة لكنه ليس دور جوائز. جنيفر جاسون لي في «الكارهون الثمانية» تبدو كتكملة عدد فقط. دورها في الخلفية معظم الوقت وحين يتاح لها التقدم قليلاً تقتل وتُـصاب وتدخل في سيل من المواقف الدموية.
- ستفوز: أليسا فيكاندر
- قد تفوز: كايت وينسلت
- لن تفوز: جنيفر جاسون لي
- تفضيل الناقد: أليسا فيكاندر
* أفضل فيلم رسوم متحركة طويل
سيجمع «أنوماليسا» أصواتًا كثيرة كونه رسومًا متحركة للراشدين. لكن هذا التصويت ثقافي وعاطفي أكثر منه مهني. لكن أجمل ما في هذا السباق هو أن الأفلام هذه المرّة لا تنحصر في أفلام أميركية فقط، بل هناك تعداد إنتاجي ثري: «الصبي والعالم» هو شغل برازيلي. «شون فيلم الغنم» Shaun the Sheep Movie صناعة فرنسية. «عندما كانت مارني هناك» ياباني. أما ما هو أميركي فانحصر في «إنسايد آوت» و«أنوماليسا».
- سيفوز: «إنسايد آوت»
- قد يفوز: «شون فيلم الغنم» أو «الولد والعالم».
- لن يفوز: «إينوماليزا»
- تفضيل الناقد: «الولد والعالم»
* أوسكار أفضل فيلم أجنبي
هناك فيلمان عربيان مرشحان كل لأوسكاره. في هذا القسم فيلم «ذيب». في قسم الفيلم القصير «سلام عليك يا مريم». فوز أي منهما هو فوز عربي جدير بالاحتفاء. لكن هل سيفوزان؟
المفرح أن حظ «ذيب» هو أفضل الآن مما كان عليه سابقًا. استفاد من إعجاب نقدي كبير ومن جائزة «بافتا» ويستفيد من بساطة الموضوع المتلاحم جيدًا مع شروط المكان. لكن… «ابن شاوول» لا يزال الأقرب إلى مفهوم المعمّـرين من المصوّتين للأسف حتى ولو كان موضوع الهولوكوست من تلك التي تستهلك نفسها على الدوام. الأفلام الثلاث الأخرى هي «موستانغ» الفرنسي و«حرب» (دنمارك) و«عناق الأفعى» كولمبيا.
- سيفوز: «عناق الأفعى»
- قد يفوز: «ذيب» أو «ابن شاوول».
- لن يفوز: «موستانغ»
- تفضيل الناقد: «ذيب»
* أوسكار أفضل فيلم تسجيلي
في العام الماضي فاز الفيلم الغنائي «20 قدمًا بعيدًا عن الشهرة» بالأوسكار في هذه الفئة وعن جدارة، وبفوزه تم تفضيل موضوعه (حول مغنيات الكورس اللواتي لم يستطعن تحقيق الخطوة للتحول إلى مغنيات شهيرات) على مواضيع سياسية. هذا ليس مرجح الحدوث هذا العام. هناك فيلمان غنائيان وثلاثة عن أحوال العالم السياسية في الماضي والحاضر. الفيلمان الغنائيان هما «ماذا حدث لمس سيمون؟» عن المغنية الراحلة نينا سيمون و«آمي» عن المغنية البريطانية آمي واينهاوس وكلاهما رحلتا عن هذا العالم. أما الأفلام الأخرى فهي «نظرة الصمت» الذي يتناول (مجددًا) موضوع الميليشيات التي نفذت أوامر السلطة الإندونيسية في الستينات وقتلت عشرات آلاف المواطنين في حملة إبادة، و«كارتلاند» عن الصراع ضد عصابات المخدرات على جانبي الحدود الأميركية - المكسيكية، ثم «شتاء على نار»، وهو عما سبق الحرب الأوكرانية من دواع والانتفاضة الشعبية التي سبقتها.
- سيفوز: «شتاء على نار»
- قد يفوز: «نظرة الصمت».
- لن يفوز: «ماذا حدث لمس سيمون؟»
- تفضيل الناقد: «شتاء على نار»
* أوسكار أفضل سيناريو مكتوب خصيصًا للسينما
عندما أعلنت الترشيحات وبدا أن هناك تقصيرًا في ترشيح المواهب السوداء، لم يكن أعضاء الأكاديمية أرسلوا باختياراتهم الأخيرة. «مباشرة خارج كومبتون» هو سيناريو من كتابة أربعة بعضهم من الأفرو - أميركيين لموضوع عن حي للسود في لوس أنجليس مستوحى من شخصيات واقعية. هل يمكن أن نعتقد أن بعض أعضاء الأكاديمية حاولوا تعديل ذلك التقصير بالتصويت لهذا السيناريو؟ هل ربح أصواتًا أعلى بسبب تلك الضجة؟ لقد قرأت السيناريوهات الخمسة المشتركة هنا (هذا الفيلم و«إكس ماشينا» و«إنسايد آوت» و«جسر الجواسيس» و«سبوتلايت»). «كومبتون» ليس أفضلها، لكنه أفضل من «إنسايد آوت» و«إكس ماشينا» كحرفة وكموضوع. على ذلك...
- سيفوز: «جسر الجواسيس»
- قد يفوز: «سبوتلايت» أو «مباشرة خارج كومبتون»
- لن يفوز: «إكس ماشينا» أو «إنسايد آوت»
- تفضيل الناقد: «جسر الجواسيس».
* أوسكار أفضل سيناريو مقتبس
الفارق في كتابة سيناريو مقتبس عن كتابة سيناريو مخصص للسينما هو أن الثاني أكثر حرية ولا يستطيع أحد أن يتهمه بتلفيق أو تشويه حقائق سابقة أو بأن الأصل أفضل من الفيلم. السيناريوهات المتسابقة هنا تضم «التقصير الكبير» و«المريخي» و«غرفة» و«بروكلين» و«كارول». كلها مأخوذة عن كتب.
- سيفوز: «كارول»
- قد يفوز: «غرفة»
- لن يفوز: «التقصير الكبير»
- تفضيل الناقد: لا أحد
* أوسكار أفضل تصوير
مرّة أخرى سنجد «المنبعث» يتقدم منافسيه بمقدار مهم كون الفيلم اعتمد كثيرًا لا على جمالية الصورة فقط، بل على دورها في صياغة المعالجة الكلية. هذا الوضع منتشر في أكثر من فيلم، لكن لا يمكن تخيل «المنبعث» وفرديته من دون إسهام إيمانويل لوبيزكي في عملية إنجازه. والحقيقة أن لوبيزكي ليس سوى واحد من ثلاثة آخرين لهم تاريخهم الكبير في إنجاز أفضل مستويات الصورة السينمائية وهم روجر ديكنز (مرشح عن «سيكاريو») وروبرت رتشردسون («الكارهون الثمانية») وجون سيل («ماد ماكس: طريق الغضب»). هناك تصوير مختلف الطبيعة والأجواء لإدوارد لاتشمان في «كارول»، لكنه يجيء، بين الكبار، كتكملة عدد.
- سيفوز: جون سيل
- قد يفوز: إيمانويل لوبيزكي أو روجر ديكنز
- لن يفوز: إدوارد لاتشمان
- تفضيل الناقد: جون سيل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)