سد الموصل .. يوحد الأميركيين ويفرق العراقيين

احتمالات انهيار رابع سد في الشرق الأوسط له تداعيات كارثية

سد الموصل .. يوحد الأميركيين ويفرق العراقيين
TT

سد الموصل .. يوحد الأميركيين ويفرق العراقيين

سد الموصل .. يوحد الأميركيين ويفرق العراقيين

حتى بعد القرار الذي اتخذته الحكومة العراقية بإحالة صيانة سد الموصل إلى شركة إيطالية بعد جدل ومماطلات فإنه لا يزال مصدر قلق للعراقيين بسبب تكرار الحديث عن إمكانية انهياره في أي لحظة ما يتسبب بغرق مدن بل ومحافظات كاملة مثل نينوى وصلاح الدين وسامراء وأجزاء من الأنبار وحتى العاصمة بغداد. الأخبار والتقارير اختلط حابلها السياسي بنابلها الفني مما أضاع للعراقيين حكاما ومحكومين ومثلما يقول مثلهم السائر «الخيط والعصفور». ففي حين اتبعت وزارة الموارد المائية، وهي الوزارة ذات الاختصاص والمعنية أكثر من سواها بقضية السد، سياسة الإنكار التام لجهة عدم وجود مخاطر تهدّد السد، فإن التقارير الواردة من قبل الجانب الأميركي كانت تتحدث باتجاه آخر وجد له طريقا في التفسير يجمع بين إمكانية أن تكون المعلومات الأميركية صحيحة أو أنها تدخل في سياق «نظرية المؤامرة».

مثل قضايا كثيرة تمسّ العراق هذه الأيام، بل منذ 2003. ما عاد ممكنًا فصل السياسة عن أي ظاهرة. ومع أن أزمة بخطورة إمكانية انهيار سد الموصل، أكبر سد في العراق ورابع أكبر سد في الشرق الأوسط، لتداعياتها الكارثية، فإن ثمة اختلافًا علنيًا في تشخيص المشكلة بين الحكومة العراقية، ممثلة بوزارة الموارد المائية، والتقارير الصادرة عن جهات أميركية تتابع الشأن العراقي.
وفي حين تنكر الوزارة وجود أي خطر يهدّد السد، تنقسم الآراء حول التقارير الأميركية بين مصدّق ومكذّب يرى أنها تدخل في سياق «نظرية المؤامرة»، لجهة تعزيز النفوذ الأميركي العسكري في المناطق الغربية من البلاد، لا سيما، بعد القرار الذي اتخذته واشنطن بتحرير الموصل بمشاركة حصرية للجيش العراقي والمتطوعين من أبناء المدينة وقوات البيشمركة الكردية. وهذا يعني الاستبعاد التام لميليشيا «الحشد الشعبي» خصوصا بعد إنزال قوات الفرقة 101 الأميركية المجوقلة في الموصل مع وجود القوات التركية بالقرب من بلدة بعشيقة القريبة من الموصل، بالإضافة إلى القوات الإيطالية التي ستدخل لحماية السد. كل هذه القوات تنتمي إلى حلف شمال الأطلسي «ناتو» وهو ما شحذ الذاكرة السياسية بمزيد من التحليلات والأفكار بشأن إمكانية تشكيل خريطة سياسية جديدة في المنطقة بدءًا من العراق، خصوصًا مع تنامي التنافس الروسي ـ الأميركي.

بداية حكاية السد
القضية الأصل بالنسبة لسد الموصل كان، بداية، الكلام عن وجود مشكلة فنية في أساسات السد منذ البدء بإنشائه عام 1983 وبدء العمل به وتشغيله عام 1986. ذلك أن السد الذي تعود خطط بنائه إلى خمسينات القرن الماضي عبر ما كان يسمى «خطط مجلس الإعمار» على عهد رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي نوري السعيد، ولقد اختير موقعه في حينه بأرض جبسية ما يعني إنها تتأثر بالماء، وهو ما يحتاج إلى تحشية مستمرة كي لا تتآكل أساسات السد وينهار. وهذا ما دعا النظام العراقي السابق إلى بناء معمل إسمنت بالقرب منه لهذا الغرض، واستمر العمل بهذه الطريقة حتى سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
بعد هذا التاريخ عانى هذا السد بعض الإهمال رغم الاستمرار في عمليات التحشية. وبما أن المشكلة تفاقمت فإلى حد ما رصد مبلغ 3 مليارات دولار إبان حقبة حكومة نوري المالكي السابقة لبناء سد يطلق عليه «سد الصد» لإعاقة تسرّب المياه إلى المدن والأراضي المحيطة به وحتى مئات الكيلومترات في حال انهياره، إضافة إلى المحافظة على المياه التي تستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية، وبجانب ذلك إطلاق كميات إضافية من المياه خلال فصل الصيف الحار في العراق خصوصا للمحافظات الجنوبية من البلاد التي تعاني أصلاً شحًا في المياه. غير أن الفساد المالي والإداري حال دون إطلاق هذا المبلغ الذي كان كافيًا تمامًا لدرء المخاطر الحالية المحيقة بالسد، التي تفاقمت بعد احتلال تنظيم داعش مدينة الموصل. فالتنظيم المتطرف احتل السد لأقل من شهرين لكن خلال هذه الفترة توقفت خلالها عمليات التحشية ما أدّى – وفق التقارير – إلى تحرّك في أساسات السد.

جدلية الماء والسياسة
وهنا، سرعان ما انتقلت قضية سد الموصل من الجانب الفني إلى الإطار السياسي، داخل قبة البرلمان العراقي، الذي لم يأخذ قضية السد على محمل الجدّ لتخوفه من فتح جبهة جديدة من الجدل والخلاف بين الأطراف والكتل والمكونات السياسية ما من شأنه زيادة الفرقة والمناكفات السياسية.
هكذا ظل الحال حتى دخل الأميركيون بقوة على خط المشاكل المحيطة بالسد. ففي مكالمة هاتفية أبلغ الرئيس الأميركي باراك أوباما رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي – بناءً على ما أعلنه لـ«الشرق الأوسط» سياسي عراقي رفيع المستوى طالبًا إغفال ذكر اسمه – أن «كوابيس ليلية تراودني في منامي»، وأردف أن «أوباما أكد للعبادي أن أول سؤال يوجهه لمستشاريه عند كل صباح هو ماذا لديكم من تقارير بشأن سد الموصل». السياسي العراقي تابع أن «هذه المعلومات أدلى بها العبادي خلال اجتماع مجلس الوزراء»، قائلا: إن أوباما كان جادًا جدًا، وأبلغ العبادي أنه لا يريد للسد أن ينهار خلال فترة رئاسته.
هذا الموقف الأميركي الحاسم حيال السد سرعان ما وجد تنفيذه على أرض الواقع حين بدأت فرق العمل الأميركية مسحا لمشكلة السد، بالتعاون مع الجانب العراقي الذي أخذ يعي حجم المشكلة، وإن ليس بالمستوى المطلوب. إذ تحوّل الأمر إلى جدل داخل قبة البرلمان بين من يرى أن المشكلة حقيقية ومن يرى أنها مبالغ فيها. وفي حين وجهت اتهامات إلى وزير الموارد المائية محسن الشمّري «بالتهاون وعدم التعامل بجدية مع القضية» فإن مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الذي ينتمي الوزير إلى كتلته البرلمانية طلب منه سحب نفسه من قضية المفاوضات مع الشركة الإيطالية.
البعد السياسي للسد عبّر عنه عضو البرلمان العراقي عن تحالف القوى العراقية (الكتلة السنّية في البرلمان) فارس طه في تصريح لـ«الشرق الأوسط» فقال: «المخاوف التي عبرنا عنها في تحالف القوى العراقية بشأن قضية سد الموصل ليست ناجمة عن فراغ، بل هي مخاوف حقيقية مبنية على وقائع وحيثيات. فحياة الملايين باتت مهددة في حال انهيار السد، الذي يبقى برغم كل الكلام الذي يقوم على تطمينات غير مؤكدة احتمالا قائما».
طه أشار إلى أنه «سبق أن قدمت الجهات المسؤولة تطمينات قبل دخول داعش إلى المحافظات والمدن الغربية من أن الجبهة آمنة حتى استيقظ العراقيون ليجدوا داعش احتل الموصل وصلاح الدين». وأوضح طه أن «المشكلة أن الحكومة الحالية، حالها في ذلك حال مثيلتها الحكومة السابقة، لا تتعامل بجدية كاملة مع التحذيرات بما فيها التحذيرات الدولية المتخصصة، وهو أمر يجعلنا نقف بقوة من أجل أخذ المخاطر التي يمثلها السد على محمل الجد». واستطرد أن «الضحية الأكثر تعرضا للكارثة في حال انهيار السد هم أبناء المناطق المحتلة (من داعش)، وبالتحديد، الموصل وتكريت».
وفي السياق نفسه تقول انتصار الجبوري، عضو البرلمان العراقي عن محافظة نينوى، في حديثها لـ«الشرق الأوسط» بأن «المشكلة التي نواجهها الآن ليس أن الجهة الرسمية المسؤولة عن الأمر، وهي وزارة الموارد المائية، لا تملك خطة بشأن السد فحسب، بل إنها تنفي كل ما يتعلق بالمخاطر التي تحذّر منها جهات عالمية معتبرة». وأضافت الجبوري «الإجراءات لا تزال ترقيعية، ومن بين ما يجري القيام به الآن هو زيادة الإطلاقات المائية وتشغيل الكهرباء. حيث إن بيوت أهالي الموصل بدأت تأتيها المياه بكثافة، بالإضافة إلى عودة التيار الكهربائي إلى المنازل. وبالتالي، فإن سياسة حبس الماء بالسد إلى حد وصوله مرحلة الخطر من دون تشغيل مولّدات الكهرباء، أو إطلاق المياه إلى الأهوار الجافة، يعني أنه لا توجد سياسة حكيمة في التعامل مع السد».

تقرير أميركي
طبقا لما أعلنه مصدر عراقي مطلع لـ«الشرق الأوسط» أن «تقريرًا أميركيًا من 80 صفحة قدّم خلاصة مكثفة معزّزة بالرسوم والخرائط عبر الأقمار الصناعية، فضلاً عن المجسّات الجوية، إلى الرئيس باراك أوباما بالإضافة إلى إطلاع الجانب العراقي، لا سيما، رئيس الوزراء العبادي الذي يعد أكثر القادة العراقيين تفهمًا للمخاطر المترتبة على السد. وفي المقابل، يقلل مسؤولون وقيادات أخرى من هذه المخاطر، بل نفيها بالكامل، وهو ما تعمل عليه وزارة الموارد المائية التي تتبع سياسة الإنكار التام». وأضاف المصدر المطلع أن «ملخّص ما ورد في هذا التقرير هو أن احتمال انهيار السد يبقى قائمًا، لكنه قد لا يكون كبيرًا بالدرجة التي تصوّرها بعض الجهات. مع هذا لا ينبغي التقليل من هذه المخاطر في حال لم تتم معالجتها بطريقة جذرية». وأردف أن «عدة دول أوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، أجرت مسوحًا جوية ودراسات وتحاليل مختبرية جيولوجية متكاملة وحديثة لوضع السد، بالتعاون مع الجانب الأميركي وبموافقة الحكومة العراقية، بينما التقارير والتحاليل العراقية تعود إلى عام 2004». ثم أضاف: «استعان الأميركيون، إضافة إلى التصوير عبر الأقمار الصناعية، بالغواصين... الرئيس أوباما يتابع شخصيًا موضوع السد، حتى إنه في إحدى مكالماته الهاتفية مع العبادي أبلغه بالنص أن السؤال الذي أبدأ به يومي لمستشاري هو: ماذا لديكم عن سد الموصل؟ وهو ما أدى إلى تعجيل الإجراءات التي بدأت تأخذها الحكومة العراقية لا سيما رئيس الوزراء ومنها الاتفاق مع شركة إيطالية لصيانته». وحول مدى الاهتمام الدولي بقضية سد الموصل، أكد هذا المصدر المطلع أنها التي «حفزت البنك الدولي على منح العراق القرض الأخير البالغ مليارا ونصف مليار دولار لأن البنك الدولي لا يعطي قروضًا من أجل سداد الرواتب».
وبشأن المخاطر التي تحوم حول السد من النواحي الفنية، قال المصدر المطلع إن «الإطلاقات المائية الحالية حاليًا أدت إلى خفض منسوب السد من 330م إلى 319م لكنها حتى الآن ليست كافية، لأن المخاطر التي قد تخرج الوضع خارج نطاق السيطرة تبدأ من 25 فبراير (شباط) الجاري حتى أول أبريل (نيسان)، موسم ذوبان الثلوج، وهو ما يعني العجز عن تحويل مياه السد إلى بحيرتي الثرثار والرزّازة في محافظة الأنبار بسبب أن النواظم التي تحول الماء إلى هناك تقع تحت سيطرة داعش، كما أن إطلاق المزيد من المياه الآن سيؤثر جديًّا على حصول بغداد والمحافظات الجنوبية على مياه إسالة خلال فصل الصيف، وهو ما يعني وجود أكثر من مشكلة في آن واحد».
مشكلة مزمنة وحلول وقتية

مراكز الأبحاث الأميركية المتخصصة في مجال السدود والجسور وجدت بعد الدراسات التي أجرتها على سد الموصل أنه يعاني من مشكلات عدة، لا سيما في قاعدته التي شيدت على أرض رخوة غير متماسكة. ورأت أن أعمال الحقن بمادة الإسمنت الخاص التي تقوم بها جهات عراقية مختصة غير ناجعة لحمايته بشكل نهائي وتلافي المشكلات التي يواجهها، ما يعني أن استمرار إهماله سيتسبب في قرب انهياره. وفي حال انهار سد الموصل فإنه سيطلق أربعة مليارات متر مكعب من المياه دفعة واحدة، الأمر الذي سيؤدي إلى مقتل الآلاف في غضون ساعتين من الزمن، وستكون بمثابة كارثة العصر في القرن الحادي والعشرين.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.