عبرت مسيرة النظام الاقتصادي الدولي الكثير من المراحل من خلال الثورة التجارية وما ولدته من فائض رأسمالي لم تشهده أوروبا من قبل إلى تطبيق النظرية «الميركانتيلية» خلال القرنين السابع والثامن عشر. وهذا ما دفع نحو تقوية الدولة المركزية من خلال تكديس رأس المال وحماية الصناعات المحلية من المنافسة بتحجيم الواردات وقصر التجارة مع المستعمرات على الدولة المُستعمرة. ولقد نجح هذا النظام الذي طبقته الدول بتشدد كبير في خلق بيئة اقتصادية دولية معتمدة على الفردية الاقتصادية وغير مؤمنة بفكرة الاعتماد المتبادل أو حرية التجارة، ناهيك من حرية حركة رأس المال والتي كانت مقصورة على الدولة. كل هذه كانت مفاهيم جديدة، من حيث التطبيق ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، ولقد منح هذا النظام الميزة للدول الأوروبية القوية لتزداد ثراءً على حساب الآخرين وعلى رأسهم المستعمرات.
بيد أن هذا النظام ما لبث أن بدأ يتعرض لمشكلات كثيرة - كما رأينا على مدار الأسابيع الماضية - فغدا مصدرًا لكثير من المشكلات على الرغم من التطور المذهل الناتج عن الثورتين الصناعيتين في أوروبا، وهو ما وضع الدول الأوروبية ومستعمراتها في حالات احتكاك اقتصادي وسياسي مستمر، وصل إلى حد الصراعات والحروب. ولعل خير مثال على ذلك كانت «حرب جنكينز إير Jenkin›s Ear War» - أو «أذن جنكينز» - التي اندلعت بين بريطانيا وإسبانيا بذريعة قطع أُذن عريف بريطاني في إحدى المستعمرات الإسبانية، وهكذا أسهمت الاحتكاكات التجارية بين المستعمرات في إشعال الحروب.
ومع ذلك، استمر النظام الاقتصادي على وتيرته من المنافسة وتطبيق السياسيات التي حذر منها المفكّر آدم سميث، التي تعرف في علم الاقتصاد بأطروحة «على حساب جارك» Beggar thy neighbor أي أن كل دولة تؤسس لصناعاتها وتقوي اقتصاداتها على حساب جيرانها من الدول الأخرى من خلال كثير من الممارسات على رأسها تحجيم التجارة البينية من خلال الجمارك الباهظة أو التعريفات أو الحصص التجارية. وسرعان ما دخل العالم في مرحلة متقدمة لهذه الفرضية من خلال ما عرف بـ«القومية الاقتصادية» Economic Nationalism أي بزيادة تطبيقات الدول للممارسات الحادة من التجارة ولمنع خروج رأس المال من الدولة، حفاظًا على الثروة القومية وحماية للعملة المحلية من التأثر بالعجز في ميزان المدفوعات لديها.
هذه السياسات ظلت قابلة للتحمّل حتى نهاية القرن التاسع عشر على الرغم من المشكلات والأزمات، ولكن مع بداية القرن العشرين بدأ النظام الاقتصادي يعاني بشدة من التوترات الاقتصادية التي أدت أو كانت نتيجة للحرب العالمية الأولى، وهو ما دفع بدوره إلى بداية دخول العالم في مرحلة الكساد العالمي عقب الحرب خاصة في أوروبا. ذلك أن هذه القارة بدأت تعاني بشدة من نتائج الحرب المدمرة على اقتصاداتها، وبخاصة، ألمانيا التي تعرّضت لصلح مُهين في فرساي، الضاحية الباريسية، مما أدى إلى تكبيلها وحلفائها بتعويضات ما كانت لتستطيع الخروج منها، ناهيك من الآثار المدمرة للحرب على اقتصادات وموازنات الدول التي خاضتها أو تأثرت بها.
عند هذا الحد انتشرت الأمراض الاقتصادية الشائعة في هذه الفترة، وعلى رأسها البطالة والفقر والتضخّم، ولا سيما، في الدول التي هُزمت في الحرب. وهو ما أدى إلى بداية ظهور الفوضى في النظام الاقتصادي الدولي، الذي بدأ يدخل في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن الماضي في حالة ركود أصبح معروفًا فيما بعد بـ«الركود الكبير».
كان من الأسباب الرئيسة وراء «الركود الكبير» الهبوط الحاد في أسعار المنتجات الصناعية والغذائية على حد سواء بسبب زيادة المعروض نتيجة التطور التقني الكبير الذي شهده العالم، خاصة في الولايات المتحدة، فبات الفائض في السلع الزراعية المعروضة يفوق الطلب. والشيء نفسه انطبق على كثير من الصناعات بعدما هبطت أسعار التكلفة جراء التطور التكنولوجي، وهو ما جعل الولايات المتحدة في ذلك الوقت تسعى للسيطرة على ضغوط انخفاض الأسعار Deflation أي عكس التضخم.
ومن ثم، أخذت الأحوال تضطرب دوليًا، فبدأ «الركود الكبير» بإفلاس بعض البنوك الأوروبية وكانت البداية مع بنك النمسا، وهو ما صاحبه انهيار كامل في البورصة الألمانية وانتشار حالات الإفلاس في أوروبا، إلى أن وصل الكساد بريطانيا ذاتها فكان يكلفها ما يقرب من تسعين مليون إسترليني في اليوم الواحد. وهو ما أدى إلى إعلانها التوقف عن تحويل الإسترليني إلى ذهب في الوقت الذي كانت فيه هذه العملة هي معيار التقييم والتداول الدولي، مع العلم أن المخزون الدولي من الذهب كان متمركزًا في الولايات المتحدة التي كانت أكثر الاقتصادات استقرارًا وعمقًا وحجمًا - وبدرجة أقل فرنسا - وهو ما أدى إلى مشكلات تجارية إضافية بدأ العالم كله يعاني منها.
عندها لجأت الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى التوسّع في تطبيق سياسات «القومية الاقتصادية» المتمثلة بزيادة الجمارك وإعاقة التجارة الخارجية والحفاظ على النقد المحلي والأجنبي المتوافر لديها في محاولة للحد من آثار «الركود الكبير». وسعيًا لتخفيف حدة الكساد اقترح الرئيس الأميركي هربرت هوفر (حكم بين 1929 - 1933) تطبيق الدول حظرًا طوعيًا على تلقي أقساط الديون من الدول المهزومة في الحرب، إلا أن فرنسا التي كانت تعتقد أن الديون كفيلة بإبقاء ألمانيا قيد السيطرة رفضت الفكرة من الأساس. وعند هذا الحد أدركت الدول الأوروبية ضرورة العمل الجماعي من أجل معالجة هذه الأزمة بالتعاون فيما بين الدول قبل فوات الأوان. وبناءً عليه دعت عصبة الأمم إلى عقد مؤتمر اقتصادي دولي في لندن عام 1933 بمشاركة 62 دولة لتداول الأمر والسعي لاحتواء الموقف المتدهور دوليًا.
يومذاك كان على جدول الأعمال ثلاثة محاور أساسية هي: مشكلة الديون والتجارة واستقرار أسعار الصرف. ولقد كانت المشكلة الملحّة في حقيقة الأمر تكمن في استقرار أسعار الصرف الدولية، لأن الدول كانت تلجأ إلى ما يسمى بـ«الخفض التنافسي للعملة» Competitive Devaluation بهدف تشجيع التجارة ووقف خروج رأس المال، وهو ما أضر بشكل كبير بالتجارة والتي رؤي أنها أحد المخارج الأساسية من الركود. وكادت الدول أن تصل إلى صيغة مقبولة لوضع نظام دولي يمنع هذه الممارسة، غير أن الركود كان قد ضرب بشدة في الولايات المتحدة - التي صارت أكبر القوى الاقتصادية عالميًا - مما دفع البيت الأبيض لوقف تحمّسه لهذه الآلية بعدما زادت الأصوات المعارضة في الإدارة الأميركية لعدم الانخراط في مشكلات القارة الأوروبية اقتصاديًا، بينما يعاني الاقتصاد الأميركي من انحسار شديد. ومن ثم ارتؤي في ضوء ذلك ضرورة تعامل كل دولة مع مشكلات سعر الصرف لديها في إطارها الوطني والإحجام عن ضخ الأموال في آلية دولية قد تفشل. والمعنى أن الإصلاح الاقتصادي كان الحل، لكن الدول الأوروبية ما كانت قادرة مع «الكساد الكبير» على صياغة هذا الحل.
وهكذا تركت أوروبا نفسها تواجه هذه الكارثة الاقتصادية وهي غير مدركة أنها ستكون أحد الأسباب الأساسية لبداية متغيرات ستؤدي إلى حرب ضروس جديدة على غرار الحرب العالمية الأولى. وما دفع أكثر بهذا الاتجاه بدء ظهور التطرف السياسي بعد استيلاء الفاشيين على الحكم في إيطاليا وكانت الأوضاع الاقتصادية المتردية سببًا رئيسيا وراء هذا الانقلاب الفاشي. وسرعان ما تبعتها ألمانيا بأسلوب ديمقراطي عندما صوّت الشعب لصالح الحزب النازي (القومي الاجتماعي) الذي أوقف دفع ديون ألمانيا وبدأ عمليات التسليح وبناء الدولة الألمانية بكل قوة. وهكذا ساهم تدهور النظام الاقتصادي الدولي في دق طبول الحرب العالمية الثانية، وهو ما دفع دول الحلفاء المنتصرة إلى ضرورة صياغة نظام اقتصادي دولي يستطيع العمل على تلافي كل هذه المشكلات للدفع بالاستقرار السياسي عالميًا بعد الحرب، كما سنرى.
من التاريخ: مسيرة الاقتصاد الدولي والحرب العالمية الثانية
من التاريخ: مسيرة الاقتصاد الدولي والحرب العالمية الثانية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة