التجاذبات الطائفية والفئوية التي تمزق العراق اليوم أكثر من أي وقت مضى

خلال حلقة حوار لـ«المجلس الأطلسي» بواشنطن

التجاذبات الطائفية والفئوية التي تمزق العراق اليوم أكثر من أي وقت مضى
TT

التجاذبات الطائفية والفئوية التي تمزق العراق اليوم أكثر من أي وقت مضى

التجاذبات الطائفية والفئوية التي تمزق العراق اليوم أكثر من أي وقت مضى

باتت التجاذبات الطائفية والفئوية التي تمزِّق العراق اليوم أعظم من أي وقت مضى. هذا ما اتفق عليه ثلاثة من كبار المسؤولين الدبلوماسيين والعسكريين السابقين في الحكومة الأميركية، خلال حلقة حوار نظمها «مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط» في «المجلس الأطلسي» بالعاصمة الأميركية واشنطن، رافضين في الوقت عينه الحديث عن تلاقي مصالح طهران وواشنطن في المنطقة. الخبراء الثلاثة، وهم الجنرال مايكل باربيرو نائب رئيس الأركان السابق للعمليات الاستراتيجية في القوة المتعددة الجنسيات والعضو الحالي في فرقة العمل مجلس (council task force)، وجيمس جيفري الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى العراق بين 2010 - 2012 وريان كروكر سفير الولايات المتحدة لدى العراق خلال عهد الرئيس جورج بوش الابن، استعرضوا خلال الحلقة التجاذبات التي تتخبط فيها البلاد فضلا عن الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في العراق.
خلال حلقة الحوار التي نظمها مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي بالعاصمة الأميركية واشنطن، وتناولت واقع التجاذبات الطائفية والفئوية وعليه، اعتبر مايكل باربيرو، نائب رئيس الأركان السابق للعمليات الاستراتيجية في القوة المتعددة الجنسيات والعضو الحالي في فرقة العمل مجلس (council task force) أنه «في عام 2007، كان ثمة شعور بأن التجاذبات التي توحِّد العراق كانت أكبر بكثير من تلك التي تشتِّته» غير أن الوضع اختلف كثيرًا اليوم نظرا للانشقاقات الطائفية العميقة جدًا المهيمنة في بلاد الرافدين.
أما السفير جيمس جيفري، سفير الولايات المتحدة في بغداد بين 2010 – 2012، فرأى من جهته «إننا نواجه اليوم مشكلة تتمثل في التحالف الإيراني - السوري الروسي في الشرق الأوسط»، فاقمها وجود تنظيم داعش المتطرّف. وأوضح جيفري أن إيران تسعى إلى توحيد الشيعة في المنطقة وترسيخ نفسها في موضع قوة، مضيفا أن العراق يحظى بأهمية كبرى بالنسبة إلى إيران بسبب قربه منها، وباعتباره مركزًا دينيًا (شيعيًا) منافسًا لها وكونه أيضا دولة عربية مستقلة.
ومن ثم، أشار الدبلوماسي الأميركي إلى أن القيادة الإيرانية تسعى إلى تكرار نموذج لبنان من خلال خلق حالة غير مستقرة ودولة ضعيفة تستطيع بكل سهولة السيطرة عليها عبر أذرعها الخارجية، منها ميليشيا الحشد الشعبي. وأردف «إن ما ترونه حاليًا في العراق هو نفس قواعد اللعبة القديمة التي بدأت إيران باعتمادها منذ أوائل الثمانينات، عندما تمكنت إيران بمساعدة سوريا، من تأسيس حزب الله في لبنان».
وفي ضوء حقيقة أن إيران والعراق كانا في «حالة حرب» استمرت من عام 1980 حتى عام 1988 إلى أن وافق آية الله روح الله الخميني، المرشد الأعلى الإيراني السابق الراحل، على شروط اتفاق وقف إطلاق النار، اعتبر ريان كروكر، سفير الولايات المتحدة لدى العراق خلال عهد الرئيس جورج بوش الابن، أن قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني «يسعى اليوم إلى تحقيق ما لم تتمكن إيران من إنجازه في الثمانينات، أي تحقيق نصر على العراق عن طريق تفتيته». وأضاف كروكر أن هذا الهدف الذي ستساهم في تحقيقه شخصيات شيعية عراقية نافذة مثل هادي العامري رئيس «فيلق بدر». وهنا، وفق باربيرو، فإن كلاّ من العامري وقاسم سليماني، قائد «فيلق القدس»، أي النخبة الإيرانية، تربطهما علاقة وثيقة منذ سنوات طويلة، في سياق دحضه - حسب قوله - مقولة «تلاقي المصالح الإيرانية والأميركية في العراق»، مشككا في «أي تعاون بين الدولتين من أجل توحيد المصالح» تلك.
وبالإضافة إلى ما تقدّم، أكد المتحدثون أن الميليشيات الشيعية العراقية لعبت دورًا أساسيا في مساعدة قوات الأمن العراقية على استعادة السيطرة على الأراضي التي كان تنظيم داعش قد احتلها لبعض الوقت. غير أن المتحدثين شددوا في الوقت عينه على وجود «تباين بين الميليشيات ذات الطابع الوطني وتلك التي تدين بولاء مطلق لإيران». وقال الجنرال باربيرو «إن التعاون يمكن أن يجري مع الفئة الوطنية أو القومية من الميليشيات.. غير أن القلق الأكبر يمكن في كيفية إعادة وضع المارد (أو الجنّي) في القمقم»، في إشارة مباشرة إلى الميليشيات الطائفية المدعومة من إيران.
من ناحية أخرى، تطرّق السفير كروكر إلى تحد آخر هو «ضعف حكومة بغداد»، فشرح كيف أن مدينة البصرة أصبحت مدينة تهيمن عليها الميليشيات بعدما فشلت القوات الحكومية العراقية في فرض سلطتها أو إعادة الأمن إليها. وحسب السفير السابق فإن «هذا الفشل لم تستغله الميليشيات الشيعية فحسب وإنما أيضا «داعش»، الذي شكل عاملاً أساسيا آخر في التجاذبات (الفئوية) في العراق. إذ اعتبر كروكر أن «داعش» يحاول تغيير الحدود القديمة (التي أقرت في أعقاب اتفاقية سايكس - بيكو)، مضيفا أن «داعش هو مجرد عارض وليس سببا، ولقد أنتجه الحكم الفاشل وتهميش العرب السنة جرّاء سياسات رئيس الوزراء السابق نوري المالكي بشكل أساسي. وبدوره قال جيفري «إن داعش ظاهرة فريدة من حيث درجة الإجرام التي بلغها، وهو الرغم من ضمه في صفوفه كثرة من قدامى الضباط البعثيين العراقيين - من عهد الرئيس السابق الراحل صدّام حسين – فإنه يظل إلى حد ما، قوة غريبة عن العراق».
وفي اتجاه ثانٍ، سلّط المتحاورون خلال الندوة الضوء على الكثير من الأخطاء التي ارتكبتها إدارة الرئيس باراك أوباما في تعاطيها مع شؤون العراق، وكانت أولها التعجل في سحب القوات الأميركية من العراق والسماح بالتوسّع الإيراني داخل البلاد. وفي هذا السياق، اعتبر كروكر أنه «عندما انسحبت الولايات المتحدة، لم تنته الحرب، بل سُلمت البلاد إلى أعدائنا»، في إشارة إلى كل من إيران و«داعش». أما السفير جيفري فشدد على أهمية «وجود قوات عسكرية على الأرض، التي من دونها ستصعب كثيرًا مهمة واشنطن في معالجة المواضيع الحساسة».
وخير مثال على ما سبق، حسب المتحاورين، النجاحات التي تحقّقت في العراق في فترة 2007 حين تمكنت الولايات المتحدة من كسب ثقة السكان، لا سيما الثقة عند المكوِّن العربي السنّي، كما نجحت بحرمان تنظيم القاعدة من التمتع بدعم الحاضنة العربية السنّية. ومن ثم، أوضح السفير كروكر أن «إعادة إرساء الأمن هي أحد الحلول لإطلاق العملية السياسية، وهي قضية تقع في صلب الهواجس الأميركية اليوم». بينما قال باربيرو إن «السؤال الأهم الذي يُطرح هو كيف يمكن دفع السكان السنة إلى رفض القبول بداعش والقبول بدعم الحكومة العراقية». وهذا الرأي حظي بموافقة السفير جيفري الذي قال في مداخلته إن الاستعاضة عن داعش بالميليشيات (الشيعية) الموالية لإيران لن ينجح إلا بمفاقمة المشكلة عوضًا عن الإسهام في حلها».
ومن ثم قال كروكر إن التغيرات الحالية في الشرق الأوسط حاليًا تشير أكثر فأكثر إلى ضرورة التوجه إلى حل سياسي في العراق، «فالشعور السائد هو وجود محور إيراني سوري روسي تقف الولايات المتحدة صامتة بوجهه»، الذي ذهب أبعد من ذلك، معتبرًا أن «هذا التحليل يبقى متسامحًا أو متعاطفًا (مع الموقف الرسمي الأميركي) إلى حد ما، أما التحليل الأقل تسامحًا فيتحدث عن وجود حلف إيراني - سوري نظامي - روسي - أميركي، وبالتالي، فإن الولايات المتحدة إذا بقيت في موقف المتفرج، تعتبر متواطئة وجزءًا من هذا المحور».
وتطرّق البحث من ثم إلى توصل إيران والولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا وفرنسا والصين وألمانيا إلى اتفاق في يوليو (تموز) عام 2015 رفعت بموجبه العقوبات عن إيران مقابل كبح الطموحات النووية لقادة طهران. وهنا شكك السفير كروكر في «نيات إيران الحسنة»، معتبرا أن «أي شخص يظن أن الاتفاق النووي الإيراني سيولد حقبة جديدة نشهد فيها إيران متسامحة في المنطقة سيكون مخطئ الظن». وأردف أن تنظيم داعش المتطرف يشكل «طعمًا جيدًا» تستعمله إيران لتعبئة الشعب العراقي، مواصلاً كلامه محذّرًا من «أن السم القاتل الذي تحدث عنه الخميني عندما قال إنه أجبر على شربه في عام 1988 قد يعود ليتحول إلى كأس الانتصار على يد قاسم سليماني».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.