رحيل أمبرتو إيكو صاحب «اسم الوردة» وأحد رواد علم السيمياء

مثقف موسوعي بدأ بالقرون الوسطى وغاص في دهاليز عصره

أمبرتو إيكو
أمبرتو إيكو
TT

رحيل أمبرتو إيكو صاحب «اسم الوردة» وأحد رواد علم السيمياء

أمبرتو إيكو
أمبرتو إيكو

أمبرتو إيكو نسيج وحده. بموته عن 84 عامًا، يخسر الأدب نموذجًا لمثقف وقارئ وكاتب وأستاذ جامعي، ربما لن تجود السنوات المقبلة بعبقرية تضاهي موسوعيته وقدرته على الجمع بين الأزمنة والمعارف والاختصاصات والاهتمامات مع روح هزلية محببة. إن تكلم فتن، وان كتب أبدع، وإذا دخل عالمه الأكاديمي صار مدرسة تُحتذى، ولحظة أعلن عن وفاته جنّ «تويتر» بمقولاته الشهيرة، وبكاه قراؤه، كخسارة لن تُعوّض.
فيلسوف بارع، روائي عميق وصعب تحول إلى «بست سيلر» حين باع 10 ملايين نسخة من روايته الأولى «اسم الوردة» بعد أن كتبها على مشارف الخمسين، ثم تحولت إلى فيلم سينمائي، واستتبعها بـ«بندول فوكو» التي التهمت هي الأخرى. ومن بعدها صدرت له عام 1994 «جزيرة اليوم السابق»، وفي السنة نسها نشر إيكو كتابًا نقديًا بعنوان «ست نزهات في غابة السرد»، لتأتي بعد ذلك روايته الرابعة «باودولينو» وبطلها الذي يحمل الاسم نفسه. ولم تقف روايات إيكو هنا بل نشر «مقبرة براغ» التي خلطت بين التاريخ والواقع المعاش.
بقي الرجل في رواياته حريصًا على المزج بين الوقائع التاريخية والتخييل الأدبي، في محاولة لفهم الواقع، هو الذي كان يعتقد أن الربط وعمل المقارنات، أمر متاح دائمًا حتى بين أبعد الأشياء عن بعضها البعض. وحين سُئل كيف يجعل من رواية صعبة خبزًا للجماهير، قال: «هذا يشبه سؤال امرأة لماذا تحب رجلاً. كل ما أعرفه أنني أحب قراءة الكتب السهلة التي تصيبني بالخدر كي أنام». أكاديمي درّس في «جامعة بولونيا» الأقدم تاريخيًا في أوروبا، وعرف بمهارته الفائقة كسيميولوجي مفتون بقراءة الدلالات حتى اعتبر رائدًا في مجاله، وباحثًا فذًا في مجال الجماليات. عشق القرون الوسطى، ومنها نهل دون كلل، وسبح في الحداثة واليوميات السياسية والاجتماعية، حتى تظن أن صلته بالتاريخ قد انقطعت. قرأ في كل شيء، من الرسوم المصورة إلى الجريمة، مرورًا بالكيمياء والأديان وصولاً إلى المواضيع العابرة.
فتح لنفسه بفضل فضوله الشديد، أبواب المعرفة، وأجرى مشرطه كجرّاح ماهر في التنظير الأكاديمي الجاف، كما في المستجدات اليومية، والاختراعات التكنولوجية، واعتبر الإنترنت بما فتحه من وسائل التواصل الاجتماعي، منصة للأغبياء، ومع ذلك استفاد من أجهزته الإلكترونية الكثيرة التي كان يمتلكها، كي يبحث عن مخطوطات فقدت، وكتب نفدت، ويصل إلى ما لم تكن يده تطاله من قبل.
كتب أطروحته للدكتوراه عن «الجماليات عند توما الأكويني»، وجعل اللاهوت، أحد مجالات عشقه الكثيرة، ورجالاته موضع بحثه، لكنه خرج بعد ذلك إلى البحث في الرسم والموسيقى والمعمار، عمل مع فنانين، ولم يتوقف عن الكتابة في الصحف وإصدار الدوريات، وكان له باع أيضًا في الإعلام.
إيطالي حتى الثمالة، أوروبي الثقافة، إنساني الميول والوجه. امبرتو إيكو رجل عصره بامتياز، كما كتب لطلابه ونظّر، عرف كيف يخاطب الناس أجمعين بمقالات شديدة الطرافة، عصرية منغمسة في المستجدات الطازجة. في كتابه «كيف تسافر مع سمكة سلمون» رحلة في عالم عصري بمبتكراته وتفانينه وجنونه، على طريقة إيكو الساخرة المرحة العالمة. وفي كتابه «من السوبرمان إلى الإنسان المتفوق» قراءة مذهلة في رحلة البشرية من عالم الأبطال الحقيقيين، «بات مان» و«سوبرمان» و«طرزان» إلى القدرة اللامنتظرة على تحويل أي إنسان عادي إلى بطل في ظرف لحظات أو ساعات من خلال برنامج تلفزيون. قبل عجائب تلفزيون الواقع قرأ إيكو الظاهرة، وتلمسها لا بل وحللها.
عجيب هذا الإيكو في رؤيويته الساهرة ومهارته الفطنة في النفاذ إلى المعاني.
إيكو الذي بدأ عمله في التلفزيون الإيطالي مع بداية بثه عام 1954، بقي مسحورا بظاهرة التواصل على تنويعاتها، وتطوراتها التي شهد أوج انقلاباتها. لكنه مع ذلك بقي أمينًا للكتب التي حلم بأن يصير مؤلفًا لها منذ صغره. وهو يروي أنه كان يكتب الحكايات وينجز رسومها، ويجلّد الصفحات، وكأنه مؤسسة كاملة منذ كان غضًا صغيرًا. هذا ما حلم به الولد الذي أبصر النور عام 1932 في مدينة اليساندرا (شمال إيطاليا)، من أب محاسب، وجدّ لقيط كان له أكبر الأثر في حياته. فقد كان هذا الأخير، منضد حروف الطباعة وقارئًا نهمًا، وجامعًا للكتب القديمة، وفي مكتبه تعرف إيكو على كنز ثمين من المؤلفات، خصوصًا حين توفي الجد، وانتقلت الكتب إلى قبو منزل الطفل الباحث عن المعرفة.
لعل السمة الأبرز التي تميز بها إيكو، ويجدر عدم نسيانها هي النقد الذي يذهب به إلى أبعد مداه، مستفيدًا مما تسلح به من علم واطلاع، وبمعرفة واسعة لتاريخ القرون الوسطى، وشغف بالجماليات، وإدراك واعٍ للعصر الذي يعيش فيه. مارس إيكو النقد كعالم يعرف كيف يبسّط حد الإدهاش، ويمتع قارئه كأنه يتحدث معه.
أمثال أمبرتو إيكو لا يرحلون أبدًا. هذا المعلم الذي أثر بملايين القراء، وداعبهم وأثار فضولهم، وأيقظ حسهم، ودغدغ وعيهم، وأضاف إلى معارفهم، وتلاعب على أوتار أخيلتهم، سيبقى نبراسًا مضيئًا، لكل راغب في أن يتتلمذ على مثقف يكتب للعلماء بالسهولة نفسها التي يكتب فيها لرجل الشارع، ويؤلف في الألسنية كما يبدع في تفسير وتحليل سرّ استخدام العجلات الصغيرة لشنطات السفر الحديثة، بعد قرون وقرون من العتالة. يخبرك إيكو كم أن هذه العجلات الأربع التي تجر بواسطتها شنطة سفرك تبدو هامشية لك، وكم احتاج الإنسان من خبرات ليفكر بإضافتها.
«العدد الصفر» التي صدرت العام الماضي كانت آخر رواية لأمبرتو إيكو سلط من خلالها الضوء على الانتشار المفزع لنظرية المؤامرة، وسهولة تداولها وتصديقها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
إيكو رجل عصره، إيكو الأدب حين يصبح سيرة حياة.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».