المعرض الدولي للكتاب في الدار البيضاء.. مظاهرة ثقافية جمعت بين الساسة والأدباء والفنانين

شكّل تنوعًا ثقافيًا عبر 130 نشاطًا

الشاعر عبد اللطيف اللعبي(وسط)  في إحدى الفعاليات
الشاعر عبد اللطيف اللعبي(وسط) في إحدى الفعاليات
TT

المعرض الدولي للكتاب في الدار البيضاء.. مظاهرة ثقافية جمعت بين الساسة والأدباء والفنانين

الشاعر عبد اللطيف اللعبي(وسط)  في إحدى الفعاليات
الشاعر عبد اللطيف اللعبي(وسط) في إحدى الفعاليات

اختتمت اليوم فعاليات الدورة الثانية والعشرين من المعرض الدولي للنشر والكتاب في الدار البيضاء، وضمت توليفة من الأنشطة التي تعددت مجالاتها وتفريعاتها، وتميزت بغنى برنامجها الثقافي وتنوع المتدخلين من المحاضرين والمبدعين والمفكرين والسياسيين والفنانين والمؤطرين، أنشطة تعدت 130 نشاطا من ندوات حول الكتابة والتعدد، وكتب في الطريق إلى التتويج، وتجارب في الكتاب وساعة مع كاتب، وتقديم كتب جديدة، إضافة إلى كتب في الطريق إلى التتويج.
في معرض الدار البيضاء، برز عنوان التنوع كلافتة تكتسيها الأروقة من كتب ومجلات، وكناشرين من 44 دولة، وكضيوف من مختلف المجالات، إذ لا يمكن لفعل الكتابة أن يحقق تأثيره وفعاليته إلا من خلال انحيازه لمبدأ التنوع، وأيضا بتركيزه على كل القيم الكفيلة بإشاعة هذا الطموح. فكانت من سمات التنوع أن سعت دورة هذا المعرض إلى الوقوف عند عدد من التجارب المغربية في مجال الدراسات والترجمة والبحث والإبداع الأدبي والفكري، ممن أبان أصحابها على عمق معرفي وإسهام لافت، كل في مجال تخصصه، مما أسهم في احتلال أعمالهم لمكانة خاصة، ليس فقط من حيث نسبة المقروئية، وإنما أيضا في خريطة عدد من الجوائز العربية المرموقة. وكذا من خلال لقاءات مباشرة مع كتاب ومبدعين مغاربة وعرب وأجانب، للاقتراب أكثر من عوالمهم وانشغالاتهم وهواجسهم، وأيضا من خلال نقاش مفتوح، صريح ومباشر، حول مواضيع وقضايا مرتبطة بفعل الكتابة وشؤون الحياة.
ويظل الإنسان حتى بعد موته، حاضرا في فعاليات المعرض وبرنامجه الثقافي، بالنظر إلى سيرته في هذه الحياة الدنيا، وإلى ما خلفه من أعمال ومنجزات تنفع الناس، عن طريق فقرة «ذاكرة» التي تستعيد سير ومناقب عدد من الكتاب والفنانين والمبدعين الذين غيبهم الموت، من دون أن يعني ذلك اختفاء آثارهم، ومن بينهم محمد العربي المساري الذي ظل حتى آخر جملة ولآخر سطر، يربي أنفته ونظافة يده بكثير من الحرص والهدوء والاتزان. وسواء من موقعه كمناضل بأفق رحب، أو كنقيب للصحافيين المغاربة أو كرجل دولة من طينة نادرة، بقي الراحل محمد العربي المساري، يتصرف مع الجميع بنفس التواضع والطيبوبة وسعة الخاطر، ولم تبدله المواقع والمسؤوليات تبديلا. وفي كل مرة، حين كان يشعر بغربة صوته داخل كورال ما، كان ينحاز إلى صمته الحكيم، وينتظر اتضاح الطموحات، قبل أن يعود إلى الموقع الذي ارتضاه لنفسه. أما ذاكرة الراحل الدكتور عبد الهادي التازي، فأبرزت أنه واحد من علماء المغرب الكبار، ممن كانت لهم أياد بيضاء على أكثر من جيل داخل الجامعة المغربية. وهو إلى ذلك، صاحب علم ومعرفة في تخصصات متنوعة، على الرغم من أن شهرته حازها من إسهامه الغزير في مجال التاريخ؛ بحثا وتأليفا وتحقيقا وترجمة. وعلى الرغم من جسامة المسؤوليات الدبلوماسية التي تحملها في مراحل معينة من مساره الأكاديمي، فإنه حرص على أن يبقى شديد الالتصاق والاتصال بمجال البحث العلمي التاريخي، بنفس تلك الروح المتواضعة والمرحة التي اشتهر بها.
واستضافت الأيام الأولى من فعاليات المعرض، مجموعة من الأسماء الجديدة في الكتابة، للتعبير عن نفسها، بما يكرس لصوتها في الحاضر وفي المستقبل، وتقف في لحظات شعرية مع قراءات لشعراء تتيح الفرصة لعشاق الشعر للإنصات إلى شعراء مغاربة وعرب وأجانب وهم يتلون قصائدهم مباشرة، بما يضاعف من متعة الإنصات ويوسع من هامش التواصل والفهم، فكان الجمهور على موعد مع ثلاثة شعراء ينتمون إلى ثلاثة أجيال مختلفة، لكن ما يجمع بينهم هو ذاك الإصرار المتواصل على كتابة نص شعري خاص ينتصر لصوت كل واحد منهم. وهم، سميرة فرجي، جلال الحكماوي، طه عدنان، إضافة إلى موعد مع ثلاثة تجارب شعرية، تنتمي إلى لغتين مبدعتين: العربية والفرنسية، بمشاركة الشاعر الفرنسي كريستوف مانون، والشاعر الفلسطيني طاهر رياض، والشاعر المغربي إدريس الملياني.
وضمت تجارب في الكتابة رصد دينامية الكتابة الشعرية النسائية في المغرب، التي حققت منجزا كميا وكيفيا بات مثار اهتمام متزايد، إضافة إلى سؤال المتخيل والتاريخ في السرد، الذي قارب فيه كل من الروائيين المغربيين أحمد المديني ومبارك ربيع والروائي المصري وحيد الطويلة، موضوع السرد وسؤال المتخيل والتاريخ، بالتركيز على تجارب مكرسة في مظان هذا الأفق، الذي راهن أصحابه على استثمار الحدث التاريخي، كإمكانية إبداعية موازية، بما يدعم فعالية التخييل في إنتاج نص سردي مختلف، يستحق الدراسة والانتباه.
وعلى مستوى ندوات المعرض، عرفت ندوة «خمسون سنة على ولادة مجلة (أنفاس)»، التي ظلت منذ تأسيسها في سنة 1966 حتى حدود تاريخ توقفها عن الصدور في سنة 1973. تُعتبر واحدة من المجلات المغربية الرائدة، التي راهن طاقمها التحريري، ليس فقط على إثارة الانتباه إلى عدد من الموضوعات الطريفة والقضايا الشائكة، التي كانت تحسب في عداد مهملات الكتابة والبحث، وإنما أيضا على ربط هذا الاختيار الثقافي والأدبي بأفقه النضالي الإنساني.
وسواء تعلق الأمر بنسخته الفرنسية أو العربية، بقي هذا المنبر الحر يعتبر بمثابة خلية نشطة، تسعى، عبر نخبة من خيرة المثقفين والفنانين والشعراء المغاربة، إلى إشاعة تفكير تحديثي يراهن على ضخ روح جديدة في حقل الثقافة والفكر المغربيين التقليديين، بما يساهم في ترسيخ فعل ثقافي وطني، ناضج وملتزم. وكان اللقاء الذي شارك فيه عبد اللطيف اللعبي، والشاعر مصطفى النيسابوري، والفنان التشكيلي محمد المليحي، مناسبة للاحتفاء بإعادة طبع مجمل أعداد «أنفاس» وللإعلان عن تأسيس مؤسسة اللعبي للثقافة. وحول ذلك قال اللعبي «ستكون أفضل وسيلة، في البقية الباقية من عمري ثم فيما وراء ذلك، لمواصلة الدفاع عن الأفكار المعروضة، ولضمان انتقال مشعلها لمن هن مقتنعات وهم مقتنعون مثلي بصلاحيتها وسدادها»، موضحا أن المجلة كان من رهاناتها البارزة؛ مَحْو الاستعمار من العقول، وإعادة بناء الهوية المغربية أخذا بعين الاعتبار طابعها التعددي، وربط الثقافة بقاطرة الحداثة وفتحها على الكونية، وتشكيل القيم الإنسانية الخاصة، والإقناع بالمكانة المحورية للثقافة والتعليم والبحث العلمي داخل أي مشروع ديمقراطي جدير بهذا الاسم، إضافة إلى الدفاع عن حرية التعبير والرأي.
وأجمع المتدخلون في ندوة «السياسيون والكتابة: بين كلمة السلطة وسلطة الكلمة»، أن فعل الكتابة في عموميتها ليس مجرد نشاط نخبوي محصور في فئة حالمة من فئات المجتمع، هي فئات المبدعين، وإنما هي، فضلا عن ذلك، فعل إنساني رفيع وراق، يحفظ ذاكرة الشعوب ويصون تواريخ الأمم، وأثار المتدخلون الانتباه لما يمكن اعتباره إهمالا كبيرا لهذا السجل المهم لدى كثير من الفاعلين السياسيين المغاربة، ممن لا يولون الاهتمام اللازم لفعل الكتابة؛ كتابة السير الخاصة بحصر المعنى. وكشف الزعيم اليساري محمد بن سعيد آيت إيدر، أنه من بين الإشكالات التي كانت في قديم الزمان عند كتابة المذكرات هي محدودية الرأي والتعبير مما جعل الكتابة ضعيفة ومحدودة، وقال آيت إيدر «حتى من كانت لديهم الحقيقة كانوا يجدون صعوبة في الإفصاح عنها عبر الكتابة»، مشيرا إلى أن هناك تطورا اليوم يجب الاستفادة منه لتصحيح ما وقع.
وعرف الوقوف في فقرة «ساعة مع شكري المبخوت» (الحاصل على جائزة البوكر لسنة 2015)، محطة تعرف من خلالها الجمهور عن قرب، على واحد من ألمع كتاب الرواية، ليس في بلده تونس فقط، وإنما في مجموع البلاد العربية، هذا الحضور اللافت لشكري المبخوت كرسه حصوله على جائزة البوكر العربية عن عمله العميق «الطلياني»، مما اعتبره كثير من المتتبعين والدارسين اعترافا مضاعفا بقامة سردية تستحق الاحترام. ونفى الكاتب التونسي أن تكون روايته سيرة ذاتية بقدر ما هي سيرة جيل بأكمله عايشه شكري بآلامه وطموحاته وأحلامه. وقال المبخوت «في الحقيقة ليست سيرة ذاتية بقدر ما هي سيرة جيل بأكمله وعبد الناصر الطلياني بطل الرواية يعبر عن هذا الجيل بكل تناقضاته»، مضيفا أنه لم يكن بحاجة إلى بحث تاريخي، بيد أن تلك الفترة من تاريخ تونس ليست مكتوبة والتحدي الذي خاضه هو أن يكتب قصة جيله سرديا وفي الآن نفسه مسيرة بلد يعيش تلك التحولات والتناقضات والأزمات.
يشار إلى أن رواية المبخوت تحكي قصة شاب تونسي يساري يدرس في الجامعة وفي نفس الوقت قيادي في الاتحاد العام لطلبة تونس إبان فترة حكم الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة وما تلاها.
ودأب المعرض الدولي للنشر والكتاب في الدار البيضاء أن يكون مناسبة للاطلاع على جديد دور النشر الوطنية والأجنبية، بما هو حصيلة ما أنتجه كتاب ومبدعون ينتمون إلى جغرافيات متفرقة، وفي مجالات وحقول ثقافية وفكرية وإبداعية مختلفة. فكانت فقرة «تقديم كتاب» محطة يتم فيها التعريف بهذه المنشورات، فضلا عن فتح نقاش وحوار مباشرين مع أصحابها ومع ناشريها، بما يقرب عموم الجمهور من محتوياتها ومن القضايا التي تطرحها. ومن بين الكتب التي جرى تقديمها؛ كتاب «مذكرات في النضال الوطني السياسي والدبلوماسي» لعبد الحق التازي، أحد قياديي حزب الاستقلال، إضافة إلى كتاب «خمسة أشهر لدى البيضان»، لكاميلدولز، ترجمة حسن الطالب. وكتاب «مفتاح نظرية السينما: 200 مصطلح». أندريه غاردي وجون بيساليل، ترجمة محمد عبد الفتاح حسان، ونور الدين بوخصيبي، وبوبكر الحيحي. كما جرى تقديم أعمال الشاعر العربي العراقي سعدي يوسف «الحياة في خريطة»، و«دروب الذهب»و «محاولات في العلاقة»، الذي يعتبر مبدعا مثيرا للأسئلة، سواء من جانب ما يقدمه من إبدالات شعرية، أو من حيث آرائه الجريئة، التي طالما خلقت الحدث وشغلت الناس من قبيلة الشعراء. وهو، بين هذا وذاك، شاعر يموضعه النقد الحديث في خانة الشعراء المجددين لآفاق الشعرية العربية.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.