الجزائر: «الدولة العصرية» للقطيعة مع «دولة المخابرات»

التطورات في ضوء المراجعة الدستورية

أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي  وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين  إلى الشمال محمد بوضياف 
وديدوش مراد  ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة
أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين إلى الشمال محمد بوضياف وديدوش مراد ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة
TT

الجزائر: «الدولة العصرية» للقطيعة مع «دولة المخابرات»

أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي  وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين  إلى الشمال محمد بوضياف 
وديدوش مراد  ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة
أحمد بن بلة - هواري بومدين - «مجموعة الستة» (الستة التاريخيون: في الصف الأمامي من اليمين إلى الشمال العربي بن مهيدي وكريم بلقاسم، وفي الصف الخلفي من اليمين إلى الشمال محمد بوضياف وديدوش مراد ومصطفى بن بولعيد ورابح بيطاط. - عبد العزيز بوتفليقة

يدور في الجزائر راهنًا حديث عن «تأسيس جمهورية ثانية» وعن «دولة مدنية» و«مناخ جديد تسوده الحريات»، وذلك في ضوء التعديل الدستوري الذي صادق عليه البرلمان الجزائري يوم الأحد 7 فبراير (شباط) الحالي، بنسبة تأييد كبيرة فاقت 90 في المائة. والفكرة الرئيسية التي يتداولها المدافعون عن مراجعة الدستور، هي أن الدستور الجديد أحدث قطيعة بين عهد سيطر فيه جهاز المخابرات العسكري على كل مناحي الحياة، وعهد جديد نقيض الأول.

كان أول من أعطى مؤشرات عن تحوَل لافت في الدولة الجزائرية، على صعيد ممارسات نظام الحكم، عمّار سعداني، أمين عام حزب الأغلبية «جبهة التحرير الوطني».. ففي مطلع 2014 هاجم سعداني بحدة رئيس «دائرة الاستعلام والأمن» بوزارة الدفاع الفريق محمد مدين، الشهير بـ«الجنرال توفيق».
كلام سعداني الذي أدلى به لصحيفة إلكترونية محلية، لم يسبقه إليه أحد. ولعل من أخطر ما قال سعداني إن الجنرال الذي كان بعبعًا في البلاد، مسؤول عن اغتيال الرئيس الأسبق الراحل محمد بوضياف عام 1992، ومسؤول عن التقصير في حماية الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة من محاولة الاغتيال التي تعرّض لها في 2007. وكذلك هو مسؤول عن الانشقاقات التي وقعت في أحزاب المعارضة، وعن سجن المئات من الكوادر التي سيرت الشركات العمومية.
ومن ثم، عُدّ أن كلام سعداني بحق «توفيق» يعكس شيئًا ما غير عادي في الدولة؛ ذلك أن الصحف ما كانت تجرؤ أصلاً على ذكر اسم الضابط الكبير، وتعلم أنه حريص على البقاء «وراء الستار». وكان معروفًا عنه أنه لا يظهر إلى العلن أبدًا، ولم يتعرّف الجزائريون على ملامحه إلا يوم عزله في 13 سبتمبر (أيلول) الماضي، بعد 25 سنة من رئاسته الجهاز الأمني القوي.
هجوم سعداني تلته سلسلة تغييرات مهمة في المخابرات التي تعد العمود الفقري للجيش منذ أيام «جيش التحرير الوطني» وصراعه مع الاستعمار الفرنسي. ولقد بدأت بإلغاء «شرطة المخابرات» التي كان سببًا في متابعة مسؤولين بارزين بتهم الفساد، بعضهم مقرب من رئيس الجمهورية. وتوالت التغييرات بتجريد المخابرات من صلاحية تسيير الأمن الرئاسي وأمن الجيش، وإلحاق هذين النشاطين برئاسة أركان الجيش. وبذا انتقل النفوذ في المؤسسة العسكرية من مركزه القديم؛ أي المخابرات ورئيسها، إلى القطاع العسكري العملياتي المولج التعبئة في حالة الحرب، ومنه أضحى قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح، أقوى رجل في الجيش. ومعروف عن صالح شدة ولائه للرئيس بوتفليقة، على عكس «توفيق» الذي عارض ترشحه لولاية رابعة في 2014، ووقف ضد هذه التغييرات.

* الإصلاح الدستوري لتفادي الربيع العربي
بالموازاة مع هذه التطورات، كانت الرئاسة بصدد تنفيذ خطة إصلاحات سياسية، تعهد بها بوتفليقة في ربيع 2011 لتفادي توسع دائرة «الربيع العربي» وشمولها الجزائر؛ إذ وصلت «عدوى» الإطاحة بالأنظمة حينذاك إلى ليبيا، وشعر النظام الجزائري بأن «ساعته» حانت، فسارع إلى إطلاق وعود بتغيير بعض القوانين ذات الصلة بالحريات وممارسة الديمقراطية. وقرّرت الحكومة الترخيص لنحو 20 حزبًا، كانت تعطل نشاطهم بحجة أنه «لا جدوى من إنشاء أحزاب جديدة لوجود أكثر من 60 حزبا في الساحة السياسية».
وتفاءلت الطبقة السياسية خيرًا، وقال نشطاؤها إن بقاء النظام أفضل من «التوجّه إلى المجهول».. فالتغيير في مخيال قطاع واسع من الجزائريين يعني العودة إلى سنوات الإرهاب المدمر، ومجرد استحضار صور آلاف القتلى والخراب في البنية التحتية كفيل برفض أي فكرة تدعو إلى نقل البلاد إلى مرحلة جديدة. وحقًا، استغل موالون للرئيس هذه الحقيقة، واستثمروها في حملة انتخابات الرئاسة في 2014 التي لم يشارك فيها الرئيس رغم ترشحه بسبب المرض، وردّدوا بشكل صريح ما يلي: «ستلقى الجزائر مصير ليبيا في حال عدم التجديد».
لقد استغرقت بلورة الدستور الجزائري الجديد قرابة 5 سنوات، حشد خلالها الرئيس تأييد كل أحزاب «الموالاة» ومئات التنظيمات والجمعيات والنقابات لصالح المسعى، في حين قاطعت مشاورات الدستور كل أحزاب المعارضة، التي قالت إنها «تشتم رائحة ربح الوقت» على أساس أن النظام يجد دائمًا شيئًا يلهي به الجزائريين عندما يكون في مأزق، واتهمته بأنه غير جادٍ في إحداث التغيير.
وفي خضم هذه التطورات السريعة، تم اللجوء إلى قرار وإطلاق فكرة.
«القرار» يتعلق بمنع الجزائريين مزدوجي الجنسية من الوصول إلى المناصب الحساسة في الدولة. وأوحى ذلك بأن بوتفليقة يريد التخلص من أشخاص أصبحوا عبئًا عليه بحكم ارتباط مصالحهم الشخصية مع بلدان غربية، خصوصا فرنسا. ويُشاع في الأوساط السياسية حاليًا، أن التعديل الحكومي المرتقب بعد صدور الدستور الجديد، سيشهد خروج بعض الوزراء الذين يحملون الجنسية الفرنسية إلى جانب الجزائرية. وستتبع ذلك «حملة تطهير» تخص مزدوجي الجنسية في الوظائف الحكومية الكبيرة.
أما «الفكرة» فهي تعيين وزير دفاع مدني، في مستقبل قريب، لأول مرة في الجزائر. وسيكون هذا الوزير مطالبًا بالنزول إلى البرلمان لمناقشة موازنة وزارة الدفاع الضخمة (14 مليار دولار سنويا)، وهو ما لم يفعله شاغل منصب وزير الدفاع منذ الاستقلال، الذي جمع دومًا بين الوزارة ورئاسة الجمهورية.
أول من روج لهذه الفكرة، المستشار بالرئاسة كمال رزاق بارة، الذي قال للإذاعة الحكومية: «إن التوازنات الجديدة في مجتمعنا والتحديات المطروحة أمامنا تفرض أن تكون لمؤسسات مدنية وجمهورية الغلبة على المؤسسة العسكرية في تسيير البلاد». وقصد بذلك أن تدار شؤون السياسة والحكم المدني من طرف مؤسسات مدنية لا الجيش. وأضاف: «ربما سنشهد في المستقبل نزول وزير دفاع مدني إلى البرلمان لشرح ميزانية المؤسسة العسكرية وتبريرها، وهذه المرحلة تؤكد فعلاً إرادة لبناء دولة مدنية».
وعن التغييرات التي أدخلت على الجهاز الأمني، قال بارة: «إصلاح مصالح الأمن يعكس إرادة رئيس الجمهورية في إقامة دولة عصرية، ويندرج في إطار استكمال بناء جزائر المستقبل. يجب على كل واحد في المرحلة المقبلة، أن يؤدي دوره في إطار دولة عصرية، حيث يتم احترام مبدأ التداول على المناصب (..) أما عن تدخل العسكريين في تعيين مدنيين في مناصب المسؤولية، فينبغي أن يضبط ضمن المادة (25) من الدستور، التي تقول إن مهام الجيش هي حماية السيادة والوحدة الوطنية والحدود من المخاطر».
وكان بارة أول مسؤول بارز برئاسة الجمهورية يتحدث، وبشكل واضح، عن التغيير الذي جرى في المخابرات وعن أهداف هذا التغيير. وكلام بارة بهذا الخصوص يفهم منه أن الأمر يتعلق بقطيعة بين فترتين؛ فترة هيمنة المخابرات على الحياة السياسية بقيادة «الجنرال توفيق»، وفترة جديدة تمثل نقيض الأولى.

* التغييرات عززت موقع النظام
خالد شبلي، الباحث في القانون الدستوري والشؤون البرلمانية، يعلّق بخصوص التطوّرات الكبيرة في البلاد، لـ«الشرق الأوسط» قائلاً: «التعديل الدّستوري في الجزائر، وفقًا للقراءة القانونية، يندرج في إطار مواصلة مسار الإصلاحات السياسية؛ فقد جاء فيه أن الهدف من هذا المشروع ملائمة القانون الأسمى للبلاد مع المتطلبات الدّستوريّة التي أفرزها التطور السريع لمجتمعنا، والتحولات العميقة الجارية عبر العالم، وذلك من خلال تعزيز مبدأ الفصل بين السلطات، وتدعيم استقلالية القضاء ودور البرلمان، وتأكيد مكانة المعارضة وحقوقها، وضمان المزيد من الحقوق والحريات للمواطنين. أما من الناحية السياسية، فمن البديهيات المسلم بها في علم السياسة والنّظم السياسية أن أي نظام سياسي في أي بلد ما، يعمل باستمرار لكي يبقى، ويظل في السلطة. وبذلك يكيف نفسه مع مختلف المستجدات. ولا يوجد نظام سياسي في العالم يعمل ضد مصلحته الرامية للبقاء، ولذا فإن هذا التعديل جاء ضمن هذا السياق».
وأضاف شبلي: «مصطلح الدولة المدنية، الذي جرى الحديث عنه كثيرًا في البلدان العربية في الآونة الأخيرة، ومنها الجزائر، بمناسبة التعديل الدستوري، مصطلح غربي بالأساس يقصد به الدولة اللائكية (العلمانية)، على نقيض الدولة الدينية التي كانت مسيطرة على مقاليد الحياة العامة في أوروبا في عصر الظلام، الذي عرفته أوروبا، والذي تزامن مع عصر النهضة الإسلامية في الشرق. أما توظيف هذا المصطلح في الجزائر، فجاء في سياق الإشارة إلى أن الجزائر، حاليًا، في مرحلة جديدة تهدف إلى تجديد الأطر الناظمة للحكم بما يتماشى مع مشروع مجتمع يتبنى طرح تعزيز دولة القانون والمؤسسات. وبصراحة، فإنه طرح سياسي أكثر منه قانونيا، لأنه من الناحية الدستورية في الجزائر، الإسلام هو دين الدولة، وهذا إذا كان المقصود بمشروع الدولة المدنية الدولة اللائكية. أما إذا كان المقصود بالدولة المدنية هو الفصل بين السلطة المدنية والعسكرية، فهذا طرح آخر».
وتابع شبلي: «إذا كان التعديل الدستوري الجديد، يكرّس لبناء جمهورية ثانية في الجزائر، فتجب الإشارة هنا إلى أن مصطلح (الجمهورية الأولى) أو (الثانية) أو (الثالثة)، أو (الرابعة).. مصطلح مأخوذ من التجربة الفرنسية، التي كرّست لهذا المفهوم، حيث ربطت بين التجديد الدستوري للدولة، وقيام الجمهوريات المتعاقبة. وضمن هذا الطرح، فإننا نقول بأننا لسنا أمام (الجمهورية الثانية)، بل أمام بناء (الجمهورية الخامسة)، منذ دستور 1963، إذا ما تمّ الربط بين إقرار الدستور والتجديد الجمهوري.. فالجمهورية الأولى مع دستور 1963، والثانية مع دستور 1976، والثالثة مع دستور 1989، والرابعة مع دستور 1996، والخامسة، حاليا. إذا ما جرى الأخذ بهذا الطرح الفقهي».
ويرى الباحث أن الدستور «ما هو إلا اجتهاد بشري يتطوّر باستمرار من أجل تكريس نظام حكم أكثر فعالية، بما يساهم في تفعيل العقد الاجتماعي القائم بين الحرية والسلطة. لذا يجب على الجميع احترامه والتقيد به، مهما اعترته نقائص أو سلبيات. إن القراءة القانونية للوثيقة الدستورية تخبرنا بأنّ الدستور دستور الشعب الجزائري، الذي أقره ممثلوه في البرلمان، وليس دستور شخص أو فئة معينة. أما القراءة السياسية، فتتلخص في أن الجزائر تسير بخطى ثابتة نحو تداول سلمي وسلس للسلطة، ستفرز تجديد النظام الجمهوري القائم في البلد».

* قفز نحو المجهول!
ولكن بعكس هذا الطرح تماما، يقول حسني عبيدي مدير «مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والمتوسط بجنيف» لـ«الشرق الأوسط» موضحًا: «الإصلاحات الدستورية التي أدخلها بوتفليقة لا تحمل من الدستورية إلا الاسم. التعديلات أتت متأخرة بعد انتظار طويل على أن تكون في مستوى تحديات المرحلة وتقلبات المنطقة، غير أنها جاءت مخيبة للآمال، لأنها تفتقر للحد الأدنى للمصداقية الدستورية، بعد تمريرها بطرق ملتوية، وتتهرّب من معضلة الشرعية الدستورية التي يفتقدها النظام. لقد تم التصويت عليها وكأنها لا تهم الشعب الجزائري؛ بل شعبًا افتراضيًا. وهذا الأخير بدوره يعيش في قطيعة مع نسق سياسي لا يمثله ولا يعترف به. من هنا، فإن التعديل الأخير يعد حدثًا عرضيًا. والرئيس نفسه لا يعيره أي اهتمام. إن ما يشغل الرئيس هو تجديد نظامه السلطوي، وتوسيع دائرة المرتزقين وزبناء النظام، وتأمين مساره ومستقبله. وهنا أظهر الرئيس قدرة فائقة في تقزيم أي سلطة مضادة أو مشروع سلطة مضادة في التوقيت السيئ».
وأضاف عبيدي – وهو جزائري – أن «فتح ورشة تخصّ المؤسسة الأمنية استعمله الرئيس للتغطية على الفشل الذريع في الإحاطة بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وقد أنهك هذا التصرف الدولة وجعلها تدور في حلقة مفرغة. أكثر من ذلك، من شأنه أن يضعف مؤسسة أمنية استطاعت أن تحافظ على مقومات الدولة في العشرية السوداء (فترة الإرهاب) وبعدها. إن الزجّ بالمؤسسة الأمنية في صراع البقاء قبل الشروع في إصلاحات سياسية حقيقية، بمرجعية مستمدة من الشرعية المفقودة، قفز نحو المجهول. من هنا، فإن مدنية الدولة التي يصفّق لها النظام، أول من سيعمل على تقويضها هو رأس النظام. في ظل غياب عقد اجتماعي حقيقي، فإن الحديث عن المدنية ترف سياسي. وبالمحصلة، فما يجري في الجزائر من شأنه أن ينقلها إلى عهد يكرّس سراب الاستقرار، بدل تكريس الإصلاح من أجل الاستقرار الحقيقي».



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.