«بين البحر والسماء».. معرض يجسد إيقاعات الكون بنزعة تجريدية صوفية

يضم 65 لوحة تمثل مسيرة الفنان مصطفى عبد الوهاب

الفنان مصطفى عبد الوهاب
الفنان مصطفى عبد الوهاب
TT

«بين البحر والسماء».. معرض يجسد إيقاعات الكون بنزعة تجريدية صوفية

الفنان مصطفى عبد الوهاب
الفنان مصطفى عبد الوهاب

شهدت قاعة حامد عويس بمتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، أول من أمس (الخميس)، افتتاح معرض للفنان الكبير الدكتور مصطفى عبد الوهاب، أحد رواد الفن التجريدي في مصر والعالم العربي. حمل المعرض اسم «بين البحر والسماء»، وضم 65 لوحة تجسد اللمسات التجريدية الخالصة للفنان السكندري عبر مراحله الفنية المختلفة التي بدأت منذ عام 1971 حتى الآن، التي تمثل تصور ورؤية الفنان للنسبي والمطلق عبر الفضاء الكوني بين البحر والسماء.
اختار الفنان عبد الوهاب عبر لوحاته أن يجسد مخاوفه وانطباعاته وأفكاره وأحاسيسه الداخلية بأسلوب بسيط وعميق في الوقت نفسه، ليثير لدى الملتقى حالة من الدهشة ويدفعه للتأمل في علاقة المتضادات عبر تموجات خطوطه وضربات فرشاته المتأنية، ومزج الفنان بين التجريدية والتعبيرية في بعض اللوحات، حيث نرى رموزا، مثل: الهلال والقمر والسلم والجسد البشرى، فضلا عن تكوينات تمزج ما بين حركة الأمواج الصاخبة والتكوينات الصخرية الهادئة.
وحول اللوحات يقول الفنان مصطفى عبد الوهاب، لـ«الشرق الأوسط»، تتضمن كل لوحة حوارا بين الضوء والخامة، وهو ما يتجلى بوضوح في بعض اللوحات المرسومة على خامة الساتان، حيث قصدت أن تتضح انعكاسات الساتان الضوئية، أما باقي اللوحات فاستخدمت فيها ألوان الأكريليك والزيت. ويرى الفنان أن انتقال الفنان من المرحلة التعبيرية التشخيصية إلى التجريدية يعد تطورا ونضجا للفنان، حيث يعبر عن مشاعره بأشكال مجردة.
افتتح المعرض الفنان خالد سرور، رئيس قطاع الفنون التشكيلية، والدكتور علي سعيد، مدير متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، وأعقبت الافتتاح ندوة عن أعمال الفنان مصطفى عبد الوهاب ومشواره الفني تحت عنوان «التجريديات الكونية بين قوة الجذب وطاقة الخلاص» أدارها الفنان الكبير الدكتور محمد شاكر، وتحدث فيها الناقد الفني محمد كمال.
يقول الناقد محمد كمال: «كان مصطفى عبد الوهاب ولم يزل صديقًا وعاشقًا للبحر بكل حلمه وغضبه الذي أوصله للطيران في رحاب المسافة الكونية الواقعة بينه وبين السماء. وتمثل اللوحات ضيق المسافة إلى الصفر بين الأرضي والسماوي.. بين النسبي والمطلق.. بين المادي والروحي، فتبدو الصورة مثل لقطة فيلمية خاطفة تقترب من التي تليها، وهو المعمار الخفي الذي يؤوي الحس الزمني عند الفنان. ونتيجة لهذا الاختزال البصري تتحول الحركة أحيانا إلى ما يماثل الإعصار في اندفاعه القرطاسي إلى أعلى، وفى أحيان أخرى تظهر مثل العاصفة بميل إلى الأمام، ليختلط شعور المتلقي بعناصر المشهد بين الانفجارات البركانية من أحشاء الأرض والطفو السريع من قاع البحر لكتل خف وزنها، وفى الحالتين يعلو هدير التناحر بين قوة الهبوط وطاقة الصعود».
ويضيف: «لذا يبدو لي منطقيًا ظهور تلك اللمسات العريضة لفرشاة مشبعة بالأبيض، كأنها انشطارات نورانية تنبعث من مركز النواة الروحية عند الفنان، في ومضات مباغتة تقف عندها عقارب الساعة، وينصهر فيها الميقات الأرضي الحسي مع الزمن السماوي الحدسي، لتصير الضربات التصويرية البيضاء تارة كشهب بارق في ليل حالك، وتارة أخرى كحالة من التشرنق الذاتي تمهد لانطلاق كائنات من نور بعد خمود نار الطاقة.. وقد يفسر هذا ظهور اللون الأحمر المتقد في بعض الأعمال، لهذا فإنني أعتقد أن الصورة عند عبد الوهاب تنسج من شاشة الروح أكثر مما تلتقط على شبكية العين محدودة القدرات، رغم تأثير البيئة السكندرية الواضح في التجربة».
ويشير الناقد محمد كمال إلى أن «ملكة الفرار من العقال البصري هي ما تجعل الفنان هنا يمتطي براق الاستشفاف والاستجلاء لاقتناص مشاهده المارقة، الأمر الذي يميط اللثام عن تلك الخطوط الفضية اللامعة التي تعبر العمل أحيانا من إحدى زواياه إلى مثيلتها المقابلة، في سرعة تستدرج المشاهد بعيدًا عن سطوة الواقع إلى ما وراءه من عالم مغاير يبعث على دهشة الكشف، وهو ما يتسق مع اتجاه مصطفى في العقد الأول من الألفية الثالثة لبناء تكويناته على نسيج من الستان اللامع الذي يساهم ضيه في تأكيد التوجه المتوازن بين الروحي والعقلي، حيث يكمله بمفردات ترسخ لوجوده في المساحة المتوهجة بين الهبوط والصعود.. بين الجاذبية والعروج».
ويكشف: «اختيار الفنان للون الستاني الأزرق الداكن يصطاد به اللحظات الليلية الأكثر إيحاء بالصراع النفسي بين الحسي والحدسي، لذا تأتي تصاويره المتناهية في الصغر على النهج الفكري نفسه بكل قيمه الجمالية، مثل نبضات نورانية متتابعة، دون إخلال بذلك الإيقاع الكوني الصوفي الفاتن بصريًا وروحيًا، الذي يتوحد معه مصطفى عبد الوهاب بفرشاة مروية بطاقة باطنة للخلاص من قوة جذب ظاهرة، مرتحلاً من نقطة إلى فضاء.. ومن خوف إلى رجاء.. ومن عتمة إلى ضياء، مثل من يتوق لوصل بهاء الأرض بنور السماء».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».